الحلقة الاولى
(2 من 3)

الامن القومي العراقي وشهادة التاريخ!
كان سقوط (بابل) في أكتوبر سنة (539) قبل الميلاد على يد كورش الفارسي بداية لتاريخ مظلم، ولم تعوِّض (الحيرة) عن هذه الخسارة ا لمفجعة رغم إنتشار المسيحية فيها، وإنبثاق فجر الخط العربي مشتقا من الخط السرياني، ورغم الدور السياسي الهائل الذي قامت به (الحيرة) كحاجز بين الفرس والروم، وما تبع ذلك من علاقات مترددة بين الايجاب والسلب بين العرب والفرس، ذلك إن (بابل) كانت نموذج (الدولة ـ الامة)، فمعادلة التعويض لم تف عناصرها الكاملة. ولم يسمح الزمن (للحيرة) أن تبقى ذلك الواقع الجغرافي الاستراتيجي الحي، فقد إضمحلت كغيرها من أمصار العراق التي تأسست وتكونت في الزمن الممتد من عصر السلالات وحتى الفتح الإسلامي، هذا الفتح الذي هو في ظاهره غزو بطبيعة الحال، بصرف النظر عن بواعثه ونتائجه، حيث قامت (الكوفة) وكأنها على موعد مع القدر لتكون بديلة حقا عن (بابل)، لما شهد لها التاريخ من حضور فكري وسياسي وميثولجي فيما بعد، وذلك في صلب التكون الحضاري للمجتمع الإسلامي!
فُتحِت ا لحيرة، ولكن الكوفة كانت فاتحة فيما بعد، وكانت َمصهراً حضاريِّاً ساخناً ، وفيها استقر (مُسلْمًة الفتح)، ليتحولوا إلى مجتمع يتمتع بروح خاصة به، يتحدى الشام معقل الأمويين وسر قوتهم، وكانت هناك الحرب بين العراق والشام، الكوفة ودمشق، علي ومعاوية، تلك التي سموها بـ (الفتنة الكبرى)، ومن صميم هذه الفتنة كان عراق الدم! وفي الوقت نفسه كان عراق الفكر!
وكان كذلك جوهر تاريخ العراق، من بابل حتى إنهيار بغداد على يد المغول!
فكر...
دم...
تشاء الاقدار أن تكون (بغداد) بديل (الكوفة)، عاصمة للخلافة العباسية، وذلك منذ تاسيسها (767 م)، وفيما تبلغ المجد في عهد الرشيد، تتحول الى ساحة صراع دموي بين الامين والمأمون، وقد شهدت على أثر ذلك أول حصار في تاريخها لمدة أربعة شهر، وتبعها بعد ذلك فوضى ضاربة، إستمرت بشكل وآخر حتى الاحتلال المغولي (1258م) فعاشت بغداد مآساة لا مثيل لها، وتحولت إلى ضاحية متواضعة مستكينة مكسورة الجناح تحت رحمة أمبراطورية قاسية، هي الامبراطورية الأليخانية! ثم طل على العاصمة المنكوبة الاحتلال الجلائري (1401م)، بعدها توالت موجات الاحتلال الخارجي، وكأنه قدر لا مفك منه! فكان لابد أن تكون من حصة الامبراطورية التركمانية الجديدة (1500 م)، تبعها الاحتلال الصفوي على يد الشاه إسماعيل (1510 ــ 1524)، فكانت بداية لصراع دموي مرعب بين الصفويين والعثمانيين على بغداد، حيث تخضع عاصمة الخلافة الأثيرة بين فترة وأخرى لهذا الاحتلال أو ذاك، وكلا الدولتين تملك أجندتها في العراق، ولم يكن لأبناء الرافدين أي موقف حاسم تجاه هذه المأساة المروعة، سوى الإنتصار لهذا الطرف أو ذاك، بدوافع مذهبية، يشوبها الخوف المتبادل، وقد لعب رجال الدين دورا كبيرا في تأسيس هذه الفترة، سواء من السنة أو الشيعة، وهو دور يتسم بالتبعية للحاكم، ويكرس بشكل مطلق مشروع القتال من أجل القوة والسلطة!
يمكننا أن نلخص تاريخ العراق بعد سقوط بغداد على يد (هولاكو) بانه تاريخ الإحتلال بالدرجة الأولى، يستتبع ذلك الدم والخراب والإنتهاك والفساد، وعلى الصعيد الامني، يمكن القول، أنه الأمن (المُرتَهْن)!، ولم يكن أمنا مرتهنا بإرادة أبنائه، بل مرتهن بقرار خارج حدوده، وهو (أمن) الدولة المحتلة وليس أمن بغداد بالتحليل الأخير، كان (أمنُ) الاليخانيين والجلائريين والصفويين والعثمانيين، وليس أ من الكرخ و الرصافة، ولا أمن (قبر) موسى الكاظم و(قبر)أبي حنيفة! فهو أمن مُرْتَهن بقوى خارج حدوده، وفي الوقت نفسه لصالح القوة المحتلة بالدرجة الاولى، وبالتالي كان أمنا هشا، سر عان ما ينهار!
لقد أُختُتِم مسلسل الاحتلالات هذه بسيطرة مطلقة للدولة العثمانية، لتنتهي أخيرا بالاحتلال البريطاني (1914 ـ 1918)، وهو دليل أخر على أ ن أمن العراق بقي مرتهنا، وما زال كذلك، فإن أمن العراق اليوم رهين قوات الاحتلال الأمريكي أكثر من كونه رهين الارادة العراقية والشعب العراقي والجغرافية العراقية.
فهل هو حكم كوني قدري راسخ؟
هل نسترجع إحتلال الاسكندر؟
كيف نفسر ذلك؟
هل هي الجغرافية؟
هل هي طبائع البشر؟
هل هو قرار الهواء والماء والتراب، كما قال أرسطو للاسكندر؟
ام هي سنة التاريخ، تؤدي دورها في العراق وغيره، والمطلوب هو الكشف عن هذه السنة، لنغير التاريخ؟!
نعم هي سنة التاريخ، والقول بالقدر خرافة، إلا إذا حسبناه قانونا يمكن إكشتافه واستثماره، وهي خرافة تدحضها الشواهد الحية، وإلاَّ لما كانت هناك (بابل) ولما كانت هناك (الكوفة)، ولما كانت هناك (بغداد)!
بابل الحضارة والقوة والامتداد... وكوفة الفكر والراي والتحدي... وبغدا د عاصمة الخلافة ومحور الصراع!
العراق كأي بلد من بلاد الدنيا، إنتصار واندحار، فرح وحزن، استقرار واختلال، ليس ا لعراق بدعا في التاريخ أن يمر بفترة إزدهار وقوة وسيادة ومنعة تارة، وبفترة ضعف وهشاشة واختلال وتبعية تارة أخرى.
الامن العراقي لم يسجل لنا تاريخيا ظاهرة الحرب الاهلية، فلم يشهد العراق أي حرب أهلية با لمعنى العلمي لهذا المصطلح، كانت هناك صدامات مذهبية ولكنها طارئة، عاجلا ما تننتهي، وكثيراً ما تكمن وراءها أصابع السياسة الطامعة وكانت هناك صدامات عشائرية على المياه والارض في أكثر الاحوال، وطالما هي الاخرى تكشف عن آلاعيب السيا سة الخفية، كان هناك صراع بين الدولة والعشيرة، بين العشيرة وا لعشيرة، بين الحكومة والاحزاب، أمّا الحرب الاهلية التي تعني اشتعال نار القتال بين مكونات هذا الشعب، فلم نجد له صورة حية، حتى ا لصراعات بين السنة والشيعة في القرن الرابع الهجري، لا تتعدى الهجمات الطارئة، ولم ينعكس الصراع بين ا لبويهيين والسلجوقيين بمديات واسعة على أهل بغداد!
لقد شهد العراق منذ أن هاجر إليه العرب أمنا وامتداد وازدهارا، كما شهد اضطرابا وفقرا واحتلالا، وعليه، القول بإن (الامن) العراقي مفردة لا حظ لها من متن القدر في العراق، لا تعدو أن تكون خرافة علمية، يدحضها التاريخ.
إن أمن العراق القومي كأي بلد آخر، يحتاج إلى قراءة دقيقة للتاريخ والجغرافية والديمغرافيا والإمكانات ومكونات الأمة من أجل تحشيدها والتنسيق بينها لصياغة أمن قومي خاص به، أي خاص بالعراق، وبغير ذلك تكون النتيجة ضياع العراق بضياع أمنه القومي، والعراق ليس بدعا في ذلك.
إن الحديث عن حدود العراق الحديث والقديم لا طائل من ور اءه، وهو حديث قد يكون من إختلاق وصناعة دوائر مشبوهة تريد تقسيم العراق، وبالتالي، أي حديث عن الامن القومي العراقي يجب أن ينطلق من عراق اليوم لا عراق الامس، أي عراق ما بين ا لنهرين والجزيرة كما يحلو القول لبعضهم ، بل عراق الشمال والجنوب والوسط، عراق المسلمين والمسيحيين والصابئة وكل الديانات، عراق الشيعة والسنة وكل الملل والنحل، عراق العرب والاكراد والتركمان، وكل القوميات.
يتبع