عندما يعيش شعب أو مجموعة شعوب حالة فشل وهزيمة مستمرة عبر العديد من القرون أو العقود، وعندما يتجه منحنى وضعهم مع الزمن نحو الانحدار المتسارع أو المتباطئ إلى أسفل، عندها لابد لمن يتطلع إلى الإصلاح ألا يكتفي بالتوقف عند ما يظهر على السطح من اعوجاج محاولاً تقويمه، فمثل تلك المحاولات لابد وأن تأتي بتحسينات طفيفة الأثر ومؤقتة، فأي تعديل ظاهري سيكون مصطنعاً أو ملفقاً، إذا ما كان متناقضاً مع بنيته التحية، وسنجده سريعاً ما يذبل ويتداعى ويفرغ من مضمونه، أو يكون محدوداً بسقف لا يستطيع تجاوزه، أي لا يستطيع الوصول إلى المدى الذي يحقق النتائج المأمولة.
البنية التحتية لثقافة وحياة أي شعب تتكون مما يطلق عليه بلغة المنطق quot;البديهيات والمسلماتquot;، وبلغة الخطاب السياسي quot;ثوابت الأمةquot;، ويطلق عليها في المجال الاجتماعي quot;العادات والتقاليد والقيمquot;، وتتميز جميعاً بأنها مستقرة في ضمير وعقول الجماهير، وصارت بالنسبة لهم بمثابة المنظار الذي ينظرون من خلاله إلى العالم، أو الأبجدية التي يقرأون بها معالمه الموضوعية أو المادية، كما يفهمون من خلالها علاقاته، وهكذا ينخرطون في العالم وفق هذه الرؤية والفهم له، من هنا يتحتم علينا إذا رصدنا ما يمكن اعتباره quot;حالة فشل دائمquot; لشعب في إقامة حياة توفر له الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، ألا نكتفي بمحاولة تدريبه أو مساعدته على إعادة ترتيب حياته وفق ذات القواعد أي quot;المسلمات والبديهيات والثوابتquot;، مادام الفشل الدائم هو مصير كل ما سبق من محاولات.. علينا أن نبث فيه الشجاعة على التفتيش في الأرض التي يقف عليها، أن يقلب الصخور الراسخة منذ عصور، وأن يفتش تحتها عن الديدان والعفن الذي ينمو ويترعرع في هدوء واطمئنان، مادام لا أحد يقترب منها، ليسمح للضوء بالدخول، أو يرش بعض المطهرات والمبيدات الحشرية.. علينا أن نراجع معه طريقة فهمه لنفسه وللعالم، فربما كانت الصور الراسخة في ذهنه مغلوطة من الأساس، وربما تجاوزها الزمن منذ قرون تبدلت فيها كل الأحوال، ومازال هو يغني أغان لا يفهم كلماتها أحد، ويرى أشياء لا يراها غيره، بحيث فقد القدرة على رؤية ما يصرخ من واقع أمامه.
الأمر أشبه بأن يفشل أحدهم في الوصول إلى نتيجة صحيحة لعملية حسابية تتضمن عمليات ضرب وقسمة لعدد من الأرقام، رغم تكرار تعليمه جدول الضرب وكيفية إجراء عمليات الضرب والقسمة، هنا يتحتم علينا أن نراجع معه صحة قراءته للأرقام التي يقوم بضربها وقسمتها، فالإنسان لا يدرك حقائق الواقع المادي إدراكاً مباشراً بما يكفل له الموضوعية الصارمة، ناهيك عن الأكثر تعقيداً وهو إدراك وفهم العلاقات والأحداث الجارية، فهناك نظارة أو وسط غير شفاف أو مستو ننظر من خلاله إلى هذا العالم، إنه الفكر والثقافة التي تلون الوعي الإنساني وتطبعه بطابعها، الأمر الذي يختلف من شخص أو شعب إلى آخر، بل إننا في الحقيقة لا نستوعب حقائق الواقع ذاتها، وإنما نطابق ما تراه أعيننا مع أقرب صورة نمطية في أذهاننا، بغض النظر عن مدى المطابقة الفعلية بين الصورة الواقعية المعاصرة، وبين القالب النمطي المختزن في ثقافتنا، وخير مثال نضربه هنا رؤية الجماعات والأعمال الإرهابية على ضوء قالب نمطي نسميه quot;حق المقاومة المسلحةquot;، وعلى سبيل المثال أيضاً، ودون أن ندخل في حقول الألغام التي قد تجلب علينا اللعنات أو الرجم، نأخذ مثال النظر إلى quot;امرأةquot;، فسوف يراها أحدهم موضوعاً للإشباع الجنسي، ويراها آخر مصدراً للإغواء الشيطاني والفسوق، ويرى فيها ثالث أماً تنجب له لأطفال، ويراها رابع خادمة تقضي حوائج في منزله، وقد يرى فيها آخر منافساً له في الحصول على ترقية أو فرصة عمل، هكذا فرؤيتنا للعالم ليست مباشرة وموضوعية تماماً، حتى الرؤية العلمية المعملية، تتأثر بأدوات القياس وبالتجارب المصممة لفحص الموضوع المادي.
في الحقيقة لا تخلو ثقافة أو منظومة فكرية من ثوابت ومسلمات، لكن الأمر يختلف من حالة إلى أخرى، ليس فقط من حيث نوعية تلك الثوابت، ومدى صلاحيتها وتوافقها مع حقائق العصر والمرحلة الحضارية، لكن أساس الاختلاف ينبع من كيفية إنتاج تلك الثوابت، وهو ما يتوقف على طبيعة العقل الفردي والجمعي للمجتمع، من حيث منهج تحصيل المعرفة الإنسانية، فهناك العقلية التي تعتمد على التحليل، والعقلية التي تعتمد على القياس أو التنميط، فالعقلية التحليلية قادرة على تفكيك الظواهر، وردها إلى عوامل أولية، تصلح كمسلمات وثوابت إنسانية عامة، أي تمتد عبر مساحة واسعة زمانياً وديموغرفياً، لتتكون في النهاية لدى الذات العارفة -بإعادة التركيب- صورة خاصة لكل ظاهرة، يبدو فيها بوضوح معالم اختلافها واتفاقها مع ظواهر أخرى تاريخية أو معاصرة، قد يكون بينها وبين الظاهرة محل النظر تشابهات هيكلية، دون أن يعني هذا التطابق بينهما.
العقلية التي تعتمد على القياس أو التنميط هي عقلية عاجزة عن القيام بعملية التحليل، لذا فهي تعتمد في إدراكها لحقائق الواقع على مجموعة لابد وأن تكون كبيرة من الأنماط والقوالب الموروثة، لتُدخل أو تحشر الظواهر محل النظر في واحد منها، رغم أن النمط القياسي يكون قد تكون في زمن آخر، لوصف ظاهرة تختلف بقدر أو بآخر عن تلك المتعينة هنا والآن.
كلا العقليتين إذن تعتمد في المعرفة على الثوابت والمسلمات، لكنها في حالة العقلية التحليلية عبارة عن عناصر أولية، مما يوفر لها صلاحية ممتدة في الزمان والمكان، كما يحد من العدد المستخدم منها، والذي يستخدم بعملية التركيب في معالجة عدد لانهائي من الظواهر، أما في العقلية القياسية فإن البديهيات لا تكون أولية بل مركبة، لذا فهي تعوق الفهم الدقيق والصحيح، ولابد من تكاثر أعدادها لتناسب أكبر عدد من مظاهر الحياة، ومع ذلك لا يترتب على تلك الزيادة تحسن يذكر في دقة الفهم.
نلاحظ أن المجتمعات التي تعتمد على التنميط تتزاحم في ثقافتها الثوابت، فتسد عليها الطرق، كما أن تلك المجتمعات تكون أسيرة تراثها، ليس حباً فيه، بقدر عجزها عن ابتكار ثوابت جديدة أولية (وليست مركبة) تستعين بها على فهم عالمها المعاصر والتوافق معه.
لقد درجنا مثلاً على استخدام كلمة أو مفهوم quot;ضميرquot; كما لو كان معياراً نزيهاً أو مرجعاً محايداً للحكم على الأحداث والعلاقات محل النظر، رغم أن الضمير أو الأنا العليا supper ego ما هو إلا ركام من المسلمات والثوابت والقيم التي ترسبت في عقل الإنسان مما يلتقطه من البيئة، والإنسان الفرد لا يلتقط آلياً كل ما هو موجود في ثقافة بيئته، لكنه يقوم بعملية انتقاء واع وغير واع، يلعب فيها تكوينه البيولوجي وظروفه الاجتماعية والاقتصادية دوراً محورياً، ناهيك عن تأثير اختلاف البيئات البين على اختلاف تكوين quot;الضميرquot;، مما يخفض كثيراً من قيمته كمعيار مثالي، وإن بقي ممثلاً للحد الأعلى أو سقف قيم الفرد أو المجتمع، فالأفراد والشعوب يتراوح أداؤها بين قاع أبعد ما يكون عن السوية، وقمة عليا تستطيع الاقتراب منها إن كانت في أفضل حالاتها، لكنها أبداً لا تستطيع تجاوزها، ما لم تقم بعمليات مراجعة ونقد لمسلماتها وثوابتها، وهو ما لا يقدم عليه الأفراد والشعوب إلا نادراً، وتحت ضغوط هائلة واستثنائية، مثل الهزائم الكبرى، هذا ما لم يتم الالتفاف حولها بتسميتها quot;نكبةquot; أو quot;نكسةquot;، وهو ما يحدث إذا ما كانت الشعوب تفتقد للحيوية والقدرة على تعديل مساراتها.
في تاريخ الشعوب قلة نادرة من المصلحين الاجتماعيين من جرؤا على الاقتراب بإصلاحاتهم من منطقة quot;المسلمات والثوابتquot;، ولهذه القلة بالتحديد يرجع الفضل في القفزات الكبرى والجوهرية للشعوب وللحضارة الإنسانية، في حين أن غالبية من عرفتهم الشعوب من مصلحين ركزوا جهودهم الإصلاحية على تحسين وتقويم الأداء استناداً على quot;المسلمات والثوابتquot; الراسخة، أي برفع الشعوب من حضيض القاع، للاقتراب بهم من الحد الأعلى أو سقف الضمير المجتمعي، لكنهم يقفون عند ذلك الحد غير قادرين على تجاوزه، ماداموا غير قادرين أو راغبين في مراجعة ونقد quot;المسلمات والثوابتquot;.
يرجع تجنب دعاة الإصلاح لنقد الثوابت إلى ثلاثة عوامل، الأول هو أن هؤلاء المصلحين يكونوا أبناء مجتمعهم، وتترسخ بداخلهم تلك المسلمات، فلا يفطنوا إلا إلى ما يعتبر تجاوز لها، ويسندون تلقائياً كل ما يعانيه المجتمع من فشل إلى عدم الالتزام بها، وربما كان ما يشيرون إليه صحيحاً جزئياً، وربما كان العكس، إذا ربما كانوا بدعوتهم يسوقون الناس إلى حيث الداء والبلاء!!
العامل الثاني لتحاشي مناقشة الثوابت هو ما يجره ذلك من نقمة الجماهير، الذين ينظرون للمصلحين في تلك الحالة كمارقين وخونة وكفار وسائر تلك النعوت والاتهامات الخطيرة، التي قد تودي بحياة المصلح أو العالم، كما حدث مع سقراط وكوبرنيكوس وسافونا رولا وكثيرين غيرهم.
العامل الثالث هو أن تغيير الثوابت المستقرة في عقول وحياة الجماهير عملية في غاية الصعوبة والبطء، فلا يأمل المصلح أن تمتد حياته ليرى ثمرة مجهوداته، كما يكون معنى سلوك هذا النهج انقضاء حياة أجيال على ذات الحال البائس، إلى حين حدوث تقدم ملموس في حياة الناس نتيجة تحريك تلك الثوابت، مما يدفع دعاة الإصلاح للتوجه نحو أسلوب أجدى وأسرع.
إذا كانت لدى شعوب منطقة الشرق الأوسط القدرة على إدراك حقيقة فشلها الدائم وانحدارها المستمر نحو الأسوأ، فسوف يتحتم عليها للخروج من هاوية الفشل وتخطي الطرق المسدودة أن تقوم بمراجعة شاملة لكل مسلماتها وثوابتها.
قد يقدم أو يحجم كاتب هذه السطور في المستقبل على طرح أبرز وأخطر quot;مسلمات وثوابت الأمةquot;، التي تحتاج إلى التفكيك أو الاستبدال السريع، فإذا كان أحدهم قد قال: quot;كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسيquot;، فإنه يجوز أن نستعير منه ذلك التعبير لنقول: quot;كلما سمعت كلمة ثوابت تحسست معولي وفأسيquot; لأنقب تحتها بحثاً عن عناصر الفشل الأزلي.
[email protected]