ينظر العالم وينتظر الغرب أن تفعل الدول العربية شيئاً ينقذ لبنان من قبضة الفوضى والإرهاب المتمثل في سيطرة عصابات حسن نصر الله على البلاد والعباد، وبافتراض أن أنظمة هذه الدول تمتلك القدرة على فعل أي شيء إيجابي في هذا الصدد (أو حتى في غيره)، وهو افتراض لا يخلو من صحة ولو جزئية، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: في أي الاتجاهات يمكن أن تذهب تلك الأنظمة، وأي اتجاه أو توجه يمكن أن تساند، وبتعبير أكثر دقة: أين ترى تلك الدول مصلحتها عبر المستنقع اللبناني؟
إذا كان لنا أن نتجاهل أصوات طائفية شيعية وسنية، تنظر للصراع بين عصابات حزب الله والدولة اللبنانية من منظور معركة اقتسام الكعكة اللبنانية بين الطائفتين التقليديتين الغريمتين -والذي يروج له قلم محسوب على الليبرالية العربية الجديدة- ونتجاهل معها أصوات مسيحية داخل جماعة 14 آذار، تبدي التململ مما تعتبره تهميشاً للمسيحيين، لو تجاهلنا هذه الصيحات الطائفية بخسارة محدودة في دقة توصيفنا لما يحدث على أرض الجزيرة اللبنانية المحاطة ببحر الظلمات العربي، يجوز لنا عندها أن نعتبر الصراع الدائر الآن بين عصابات حزب الله وأذياله من جانب، وبين تحالف 14 آذار من جانب آخر، هو ذروة الصراع بين قوى التخلف المدمرة للحضارة والمعادية للإنسان والإنسانية، وبين طليعة القوى المؤمنة بالحرية والإنسانية والتواقة للعيش في رحابها، بحيث يمكن اعتبار أن ذلك الصراع لا يخص لبنان وحده، إلا بقدر اعتباره طليعة ركب الحضارة المتعثر في رحلته الشرق أوسطية.
التساؤل هو عن طبيعة استجابة حكام دول المنطقة لذلك التحدي والصراع الساخن القائم على شواطئ بيروت، والممثل لعشرات أو مئات وألوف الصراعات المماثلة والصغيرة والباردة نسبياً في كل أنحاء الشرق الأوسط الكبير، بداية من باكستان حيث التنظيمات الإرهابية والأحزاب الإسلامية تقاتل بضراوة الدولة والاتجاهات العلمانية، إلى المغرب حيث تنشط تحت السطح وفوقه امتدادات تنظيم القاعدة.
إذا كان لنا أن نقرر بثقة، وبغير شبهة تجن على الأنظمة الحاكمة بالمنطقة، أن كل ما يهمها هو سلامتها الشخصية، ودوام الجلوس على كراسيهم إلى أن يدركهم ملاك الموت، وأن مسألة مستقبل المنطقة وشعوبها أمر لا يدخل في حساباتهم، ولا وجود له في قاموسهم، يكون التساؤل الصحيح والمباشر هو:
هل من صالح الأنظمة العربية حسم ذلك الصراع، وفي انتصار أي من الطرفين يرون مصالحهم؟
الأنظمة العربية سواء التقليدية من ممالك وإمارات، أو حتى جمهورية بعضها راديكالي مثل اليمن وسوريا وليبيا، هل من صالحها انتصار نموذج حزب الله العصابي، والذي يوظف الدين بأشد تفسيراته ضيقاً وتعصباً، يلعب بها على انشقاقات وتصدعات المجتمعات العربية، طمعاً في الحكم ولو على حساب العمالة لجهات التمويل الخارجية، التي تتصدرها في هذه المرحلة بلا منازع إيران؟
بالتأكيد هذا الوضع والنموذج مفزع للأنظمة الحاكمة، بقدر ما هو مفزع للشعوب، أو على الأقل للقطاعات الواعية منها، لكن هل ترى الأنظمة صالحها إذن في انتصار ما تمثله جماعة 14 آذار، التي افترضنا (ولو بقليل من عدم الدقة) أنها الممثل لمعسكر الحرية والحضارة؟
لا يظن أحد أن الأنظمة القائمة تعادي الحضارة وتطبيقاتها الاقتصادية والاجتماعية، كما لا نظنها تعادي الحديث الطيب عن الحرية في الخطب ووسائل إعلامها الموجهة كلياً وجزئياً، لكن دون أن يتعدى الأمر حدود الكلام إلى التطبيق العملي، الذي لابد أن يأتي معه بالديموقراطية، التي لابد أن تفضي إلى تداول السلطة، كما تجلب الشفافية والمحاسبة ومحاربة الفساد، وهذا ما نجزم باستحالة سماح أي نظام حكم بالمنطقة بحدوثه!!
كلا الطرفين المتصارعين في لبنان إذن يشكل تهديداً جدياً وخطيراً لجميع الأنظمة الحاكمة في الدول المسماة بالعربية، وتحويل لبنان لقاعدة لأي منهما يفتح على هذه الأنظمة أبواب جهنم، وعندما يكون عليك أن تختار بين بديلين كلاهما أمرُّ من الآخر، فماذا تفعل؟
لو كنت مكان أحد أصحاب الفخامة طويلي العمر، أو أحد أصحاب السيادة الذي يستنطقون الجماهير بهتاف: quot;بالروح. بالدم. نفديك يا فلانquot;، فماذا تراك تختار لتضمن تربعك على كرسيك الوثير حتى نهاية العمر، وتضمن تجليس ابنك من بعدك، سواء كان نظامك ملكي أو جمهوري؟
في بداية الستينات من القرن الماضي عندما قام عبد الله السلال بانقلابه على نظام الإمامة في اليمن، سارع جمال عبد الناصر بإرسال الجيش المصري لمساندته، بضرب القبائل اليمنية المساندة للإمام البدر بالنابالم، وفي سبعينات القرن عندما حدث تمرد على نظام جعفر النميري في السودان، سارع السادات بإرسال القوات المصرية لتنقذ الطاغية من مصيره إلى حين، أي أنه خلال عقدين اتخذ النظام المصري موقفين تدخليين متماثلين متضادين، في الأول لمناصرة الانقلاب، وفي الثاني لدحره، وكان الدافع للتحرك في كلا الموقفين واضحاً لدى صاحب القرار، مادامت الرؤية واضحة لديه عن مع أي الجانبين يجب عليه أن يقف، بغض النظر عن شرعية التدخل، وبالتجاهل أو الاستبعاد التام لمصالح الشعوب التي لا حساب لها لديهم.
نذكر هذا المثال للتدليل على أن عملية التدخل الحاسم الذي ينتظره العالم من الأنظمة العربية لا تتوقف على الاعتبارات العسكرية والمادية، كما لا تتوقف على شرعية التدخل المطلوب، على ضوء عدم قدرة الحكومة اللبنانية على التصريح الرسمي بطلب عون عسكري خارجي، وإن كانت رمال شواطئ بيروت وحجارة مبانيها تصرخ طالبة لنجدة، ففي حالة التدخل في اليمن كان الاستدعاء للعون الخارجي من جانب المتمردين، وليس من السلطة الشرعية، وفي حالة السودان كان التدخل سرياً، وبالاتفاق مع نظام فاقد للشرعية من الأساس، وما لبث أن تساقط بعد ذلك كأوراق الخريف.
الآن وفيما نحن بصدده لا يستطيع أي نظام عربي تحديد مع أي الجانبين ينبغي عليه أن يقف، أو حتى يستطيع تحديد الجانب الذي يتمنى له -ولو بينه وبين نفسه- الانتصار، رغم أم كلاً منهم يمثل المضاد التام للآخر، ذلك أن كلاً منهم مضاد تماماً أيضاً لجميع الأنظمة العربية الحاكمة.
واضح أن قرار الأنظمة الذي علينا توقعه إزاء الاختيار بين بديلين كلاهما مرُّ، هو عدم الاختيار.. هو الوقوف موقف المتفرج، الشامت حيناً، والمتوجس القلق حيناً آخر، الشامت في كلا الطرفين اللذين يهددانه في نومه وصحوه، قوى العنف الأصولي،وقوى الحرية، والتوجس والقلق من تمكن أحدهما من التغلب على الآخر، وتدين له السيادة، فيمتد تأثيره إلى سائر بقاع المنطقة الموبوءة بالطغيان والفساد.
هكذا تكون الأنظمة التي يتوقع منها العالم أن تجد حلاً للمشكلة اللبنانية، سترى من صالحها ألا تجد حلاً، وأن لا يجد الحل أي طرف آخر، داخلي أو خارجي.. نعم من صالحها أن تهدأ الأمور، وتعود إلى مستوى يحتمل من القلق والتوازن الحرج والتربص بين الفرقاء، وأن يتسمر الحال كذلك إلى ما شاء الله أن يجلس أمثال هؤلاء الحكام على كراسي الحكم.
سوف يتظاهرون بالحركة وهم جلوس مستريحون على عروشهم، وسوف يعقدون المؤتمرات ويجرون المشاورات الثنائية والثلاثية والرباعية، وسوف يشكلون لجاناً للحكماء تقوم بسفرات مكوكية، وسوف ينشط أمين عام الجامعة الذي لم تُحل على يديه المباركتين يوماً مشكلة، وإن كان من الوارد أن يزيدها تعقيداً، وسوف يدعون لحوار بين الفرقاء وهم يضحكون في سريرتهم، من حوار يتفوق عليه في جدواه ما نعرفه بحوار الطرشان.
سيبقى العالم الغربي كذلك في موقف المتفرج، مكتفياً بالدروس الدامية التي تلقاها في أفغانستان والعراق ومن قبلها الصومال، وسيتظاهر هو أيضاً بأنه يبحث عن حل، وسنتظاهر نحن بأننا نصدق كل هؤلاء، وسنتظاهر أيضاً بأننا مستعدون لحسم أمورنا وتقبل حل من البديلين المتصارعين أمامنا في لبنان، وبين ظهرانينا في كل دولنا ومدننا وقرانا.
كلنا مجرمون.. كلنا متواطئون.. كلنا نخون حاضرنا، ونبيع مستقبل أولادنا وأحفادنا إلى الشيطان.
[email protected]