لا ابالغ إذا قلت أن عمق العراق في تركيا، هذه حقيقة تفرضها الجغرافية وأثبتتها التجربة، ولا يمكن التغاضي عنها أو إهمالها فيما لو أردنا عراقا آمنا مزدهرا، وفي الجانب الاخر ليس من شك إن تركيا تملك تجربة تنموية وسياسية فائقة المهارة، ويكفي إن تركيا اليوم تمارس حضورها عالميا وليس إقليميا، فهي في الوقت الذي تحث الخطى بإصرار وثبات تجاه عضويتها في الإتحاد الاوربي، نجدها شاخصة الحضور الثقافي والاقتصادي والسياسي في جمهوريات آسيا الوسطى، وبدأت تنتبه لأهمية الشرق الاوسط، وكما تدل الكثير من ا لشواهد إن هناك رغبة تركية في الحضور القوي الفاعل في هذه المنطقة الحساسة، بل المنطقة التي قد تقرر مصير العالم. ولتركيا تجربة ناضجة داخليا خاصة تجربة الحزب الحاكم الحالي، وهي التجربة التي قامت على مشروع تراثي من جهة وحداثي من جهة أخرى، مشروع العالمية والوطنية، مشروع الحرية والالتزام، مشروع الأصالة والمعاصرة،وحققت بسبب هذا النهج البنيوي قفزة تنموية ليست واعدة، بل حاضرة.
إن علاقات ستراتيجية بين أنقرة وبغداد ضرورة قائمة بالفعل، فإن ماء العراق في تركيا، كما أن أمن الجبل العراقي في أنقرة، ولعبة التوازن المذهبي في ا لعراق يمكن أن تساهم فيه تركيا بفاعلية إيجابية، وهي ضرورة لمواجهة حصار بعض الأنظمة العربية على العراق، كما أنه حاجة توازن أقليمي مهم، في مواجهة دول وجدت في العراق ساحة تصفية حسابات مع أمريكا، وتركيا ليست نظاما عقديا، فالعلاقات الخارجية في فلسفة النظام التركي يتجوهر في المصالح الاقتصادية اولا وآخر، وهذا أهم ما يحتاجه العراق اليوم، حيث تحاول بعض الأنظمة إشتراط العلاقات بمواقف عقدية تجاه العالم، مما يسبب إ حراجا وعنتا للعراق لا طاقة له بهما.
إن تركيا يمكن أن تتحول إلى بوابة تواصل فذ بين ا لعراق وأوربا، بل بين العراق والعالم، والعراق يمكن أن يتحول بوابة تعاون وتواصل تركي عربي، وبذلك تتكامل المهمة، وتتحول المنطقة إلى بؤرة عمل وتفاعل وحركة نماء وتواصل، وهو ما يعزز فرص السلام، ويقلل من مخاطر الإتجاهات السياسية العقدية التي جلبت للمنطقة الكثير من المتاعب والمشاكل.
إ ن مستوى العلاقات بين أنقرة وبغداد ينبغي أن تكون ستراتيجية، إقتصاديا وثقافيا وعمرانيا، لآماد طويلة، خاصة فيما يتعلق بمشكلة المياه ومكافحة الارهاب ومواجهة نزعات الانفصال وتفتيت الاوطان، وليس من شك أ ن تمتين العلاقات بين تركيا وا لعراق سوف يرفع من شأن العراق عالميا، و يمكنه من فرص الحضور الأقليمي والعالمي بدرجات أعمق وأوسع، لما لتركيا من سمعة عالمية ودور إقليمي وعاالمي.
تركيا تواقة لعلاقات ذات مستويات عميقة مع العراق، فهي تعاني من أحراجات بعض الأحزاب المسلحة، وتسعى لأن يكون لها دور قيادي ومؤثر في العالم العربي، وربما تكريس مثل هذه العلاقات يوسع من فرص قبولها عضوا في الاتحاد الاوربي مستقبلا، كما أنه يمثل عودة طبيعية للمحيط الطبيعي، فإن العالم العربي أولى بالحضور التركي من غيره من مناطق العالم، بسبب العلاقات الدينية والتاريخية والثقافية العميقة الجذور بين تركيا والعالم العربي.
كلمة ينبغي أن أ ذكرها هنا، إن أكراد العراق مرشحون أكثر من غيرهم للمشاركة في رسم هذه العلاقات وتطويرها، لما يملكون من خبرة طويلة عن تركيا، ولما يتمتعون به من دراية معمقة بسياسة تركيا وطموحاتها، وتوجهات صنّاع القرار السياسي في أنقرة، وميزان القوى فيها، كما أن العلاقات العراقية التركية تهم الاكراد بالعمق، نظرا لما تعرضت وتتعرض لها العلاقات بين تركيا وكردستان العراق من تجاذبات تارة سلية وأخرى إ يجابية.
إن زيارة أكبر مسؤول تركي للعراق تعتبر فتحا دبلوماسيا للعراق وتركيا في نفس الوقت، ويمكن أن تدشن مرحلة جديدة بين البلدين، تعود بالنفع الكبير على كلي شعبيهما، خاصة وإن مشكلة المياة تعتبر من أعقد القضايا التي تشغل منطقة الشرق الاوسط، والعراق باذات، فالعراق أضعف الحلقات في سياق هذه المشكلة المخيفة.
إن المطلوب من الحكومة العراقية بذل أقصى جهدها لتذليل كل الصعوبات التي تحول دون إقامة علاقات إستراتيجية مع تركيا، وعلى كافة المستويات، ولعل إستعداد تركيا لتدريب القوات المسلحة العراقية، والإسهام بقضية الاعمار، ومد سكة حديد طويلة تربط بغداد بقلب أ وربا، والبدئ بمشاريع إستثمارية عملاقة في كردستان العراق يعبر عن بوادر خيرة، ومن دون علاقات ستراتيجية بين بغداد وأنقرة يعرض العراق لابتزاز عقدي ومذهبي وقومي يزيد من متاعبه ومشاكله. فيما علاقات من هذا النوع سوف يجعل الآخرين يتطلعون إلى علاقات طبيعية مع العراق. إن عمق العراق في تركيا.