واشنطن: أضحت العراق بعد الحرب الأميركية في مارس 2003، وبما تشهده من انفلات أمني بيئة مواتية للجماعات الإرهابية والمسلحة على غرار أفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم، فحلت الأولي محل الثانية في تصدير الإرهاب. وقد فرضت تلك البيئة الأمنية المضطربة تحدياً على الولايات المتحدة، وأصبحت أحد أسباب الإخفاق الأميركي في العراق، ومحل انتقاد داخلي. ولعل ما يشهده الكونجرس من جلسات استماع للعديد من المسئولين الأميركيين عن الأوضاع في العراق أحد الدلائل على هذا الإخفاق. وهو الأمر الذي فرض على واشنطن وضع سياسات واستراتيجيات لمواجهة العمليات الإرهابية والمسلحة هناك.
وفي هذا السياق يأتي عرضنا لدراسة نشرها quot;معهد انتربريز الأميركي لأبحاث السياسة العامةquot; American Enterprise Institute for Public Policy Researchquot; quot; وهو معهد معروف باتجاهاته المحافظة، وفي الثالث من هذا الشهر بشأن الاستراتيجيات العسكرية التي وضعتها الولايات المتحدة ونفذتها في حربها على الجماعات المسلحة وحركات التمرد في العراق.

حديث عن القادة العسكريين في العراق
تبدأ الدراسة، التي أعدها كل من فريدريك كاجان Frederick W. Kagan و كيمبرلي كاجانKimberly Kagan ، الحديث عن القادة الأميركيين الذين تولوا القيادة العسكرية في العراق، حيث تقول أن القادة العظماء دائما ما يأتون في صورة ثنائية، كأيزنهاور Eisenhower وباتون Patton، جرانت Grant وشيرمان Sherman ، نابليونNapoleon ودافوDavout ، مارلبوروMarlborough وإيجنEugene ، وسيزار Caesar ولالينسLalienus ، ويمكن أن يُضاف الآن إلى القائمة جنرالان آخران هما ديفيد بيتروس David Petraeusورايموند أوديرنوOdierno Raymond.
وتؤكد هذه الدراسة أن الثنائي الناجح عادة ما يكمل كل منهما شخصية الأخر، أو أن الشريك المساعد ينفذ فقط رؤية شريكه . وتوضح أن مهمة التخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية الواسعة لا يمكن أن ينفذها قائد بمفرده، لذا يُعتبر دور القائد المساعد مهم جداً وأساسي في رسم وتنفيذ هذه المخططات.
وتتناول أيضاً دور الليفتينانت الجنرال أوديرنو Odierno الذي قام برسم وتنفيذ عمليات ناجحة ضد المسلحين في العراق. وقد تولى أوديرنو Odierno قيادة قوات التحالف في العراق في 14 ديسمبر 2006 وهو الوقت الذي كان العراق فيه مشتعلاً، حيث حصدت فرق الموت والمسلحين أرواح ثلاثة آلاف مدني خلال شهر واحد، وكانت قوات التحالف تواجه أكثر من 1200 هجمة أسبوعياً. وقد عُلقت عملية quot;معا للأمامquot; في 2006 والتي تهدف إلى تمشيط أعنف أحياء بغداد وإحكام السيطرة عليها مع قوات الأمن العراقية، بسبب ظهور إعمال العنف في مناطق أخرى بالعاصمة.

الإستراتجية الأولي والثانية لمواجهة التمرد العراقي
عرضت الدراسة الاستراتيجيات التي وضعها كل من الجنرال بيتروس Petraeus ونفذها أوديرنو Odierno. فقد أشرف بيتروس Petraeus على كتابة قواعد جديدة في مكافحة التمرد بالعراق قبل إرساله إلى هناك. إلا أن هذه القواعد لم تُمنح بالمعلومات الكافية عن كيفية التخطيط لعمليات المكافحة وتنفيذها في جميع أنحاء العراق. وكان أوديرنو Odiernoهو الذي استحدث مفاهيم جديدة من طرق القتال التقليدية لحل مشكلات التي تواجههم في العراق، ليملئ بذلك الفجوة التي وُجدت بالقواعد الجديدة.
وقبل تولي بيتروس Petraeusوأوديرنو Odierno القيادة في 2006، كانت الأولوية بالنسبة للقادة السابقين هي تشجيع قوات الأمن العراقية على تحمل مسئولية حماية الشعب العراقي. بينما الإستراتيجية الأولى التي وضعها أوديرنو Odierno تمثلت في التركيز على تدريب هذه القوات بينما تقوم قوات التحالف بمهام قوات الأمن العراقية في تنفيذ العمليات الأمنية وضرب تنظيم quot;القاعدةquot; في العراق على وجه الخصوص.
وكانت القوات العراقية غير المدربة في ذلك الوقت قد دخلت إلى حلبة المعركة، وبدلاً من أن تركز على عمليات مكافحة التمرد اعتمدت على مراقبة نقاط التفتيش، الأمر الذي أدى إلى انفلات أمني في الأحياء والمدن المجاورة. لكن وجود قوات التحالف، بحسب الدراسة، هو ما أعطى إحساس ضئيل بالأمن لدى المدنيين العراقيين.
وقد وضع أوديرنو Odierno أهدافاً له مع توليه القيادة في العراق وهي: استعادة السلطة المدنية كاملة في بغداد، تقليل العنف الطائفي، تسريح القوات العسكرية الزائدة عن الحاجة، وأن تصبح الحكومة العراقية مؤسسة شرعية في عيون العراقيين.
وجاءت الإستراتيجية الثانية مع تولي بيتروس Petraeus القيادة في فبراير 2007، حيث ركز على استخدام القوات المقاتلة لحماية السكان في المدن الكبرى، وخلق مناطق آمنة، وتمشيط المناطق التي ينشط فيها المسلحون. وكانت مهمة أوديرنو Odiernoوضع إستراتيجية جديدة لتحديد كيفية تنفيذ هذه المهام بعدد القوات المتاح. وقد خلص سريعاً إلى استنتاج أن تأمين بغداد يحتاج إلى عمليات قتالية على مساحات واسعة خارج المدينة، حيث حصلت قوات التحالف على خريطة لتنظيم quot;القاعدةquot; تصف بغداد بأنها مركز القتال، حيث ركزت quot;القاعدةquot; في عام 2006 على أن تجعل من غرب بغداد مكاناً آمنا لها. إلا أن ظهور سلطة وقوة الميليشيات الشيعية هناك أجبرتها على إقامة قواعد لها خارج العاصمة، يستطيعون من خلالها مهاجمة هذه الميليشيات وقوات التحالف.

الإستراتيجية الثالثة لمواجهة التمرد العراقي
ومع فهم أوديرنو Odiernoالجيد للعدو، اتبع الجنرال الأميركي إستراتيجية ثالثة تمثلت في حاجته إلى المزيد من القوات من أجل نجاحه في مكافحة التمرد العراقي. وقد طلب ذلك في ديسمبر 2006 ليعلن الرئيس الأميركي جورج بوش زيادة عدد القوات في يناير 2007.
وساعدت هذه القوات الإضافية على شن عدد من العمليات المتزامنة بدلاً من التركيز على مكان واحد فقط، حيث ستعمل القوات الأميركية داخل بغداد على تحقيق الأمن للسكان قدر المستطاع، وتعطيل جماعات العدو العاملة داخل المدينة وتحديد أماكنهم هناك. وفي الوقت نفسه، خطط أوديرنو Odierno لنشر قوات حول العاصمة لمهاجمة مناطق دعم العدو وخطوط الاتصال بينهم.
وقد عمل أوديرنو Odierno مع القوات الأميركية الخاصة تحت قيادة الجنرال ستان ماكريستال Stan McChrystal للتأكيد من استمرار الضغط على قادة الشبكات الإرهابية.
ولم تساعد الهجمات التي نفذتها هذه القوات بمهارة على اقتلاع قادة التمرد فحسب، بل منحت أوديرنو Odierno معلومات استخباراتية تساعده على تعديل خططه. وخلال فترة خمسة أشهر توالت خلالها القوات الإضافية التي أرسلها بوش إلى العراق، نفذ كل من بيتروس Petraeus وأوديرنو Odierno ما يسمى في الأمور العسكرية بـ quot;عمليات تمهيديةquot; لتهيئة الظروف لشن العمليات الحاسمة.
ونفذ قادة الجيش تلك الخطة عن طريق نشر القوات في مناطق القتال وإقامة القواعد وإمدادهم وتنظيم مراكز القيادة واستطلاع مناطق العدو وجمع المعلومات الاستخباراتية عنهم. وتؤكد الدراسة أن السبب وراء quot; العمليات التمهيديةquot; ليس هو القتال ومحو العدو ولكن تهيئة الظروف لشن عمليات حاسمة ناجحة في المستقبل والتي من شأنها أن تدمر العدو. وبعد وصول القوات الإضافية نشر اوديرنو Odierno فرقتين من هذه القوات في بغداد وثلاثة فرق أخري حولها.

الإستراتيجية الرابعة والخامسة لمواجهة التمرد العراقي
أما الإستراتيجية الرابعة فتمثلت في قيام بيتروس Petraeus بتأسيس فريق تقييم استراتيجي مشترك لمراجعة إستراتيجية قوات التحالف وللعمل مع السفارة الأميركية في بغداد لتطوير خطة مشتركة للتوفيق بين العمليات العسكرية وغير العسكرية في جميع أنحاء العراق. وبالإضافة إلى ذلك فقد تمكن بيتروس Petraeus من اتخاذ خطوات فعالة للضغط على رئيس الوزراء نوري المالكي والمسئولين العراقيين الآخرين لاتخاذ القرارات الحساسة وترك الممارسات غير المجدية.
وتمثلت الإستراتيجية الخامسة في تأكيد بيتروس Petraeus وأوديرنو Odierno على الجوانب quot;غير القتاليةquot; في إستراتيجية مكافحة التمرد، حيث نشر الجنرالان قوات التحالف في الإحياء والمدن العراقية بعد أن أعطوهم تعليمات بصرف الأموال لخلق وظائف مؤقتة وتنفيذ مشروعات إعادة البناء في أي منطقة تتمتع بالأمن الكافي لتحقيق ذلك. وكان هذا التركيز على التوفيق بين الجوانب غير القتالية والقتالية هو العنصر الأساسي في قواعد بيتروس Petraeus الجديدة لمكافحة التمرد.

جوانب نجاح استراتيجيات مكافحة التمرد العراقي
أشارت الدراسة إلى سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة التي خطط لها أوديرنو Odierno، حيث نفذت ثلاثة منها في عام 2007 والرابعة كانت في أوائل 2008. فالعملية الأولى كانت تحت اسم quot;فرض القانونquot; والمعروفة أيضا باسم quot;خطة أمن بغدادquot; والتي بدأت في فبراير بنشر القوات الأميركية والعراقية في أرجاء العاصمة من أجل توفير الأمن لسكانها. والعملية الثانية عرفت باسمquot; عملية الرعد الخاطفquot; Operation Phantom Thunderrdquo; والتي نفذت في شهري يونيو ويوليو والتي بها تم إخراج تنظيم quot;القاعدةquot; من كبرى قواعده في العراق. وquot;عملية صاعقة البرقquot; Operation Phantom Strike كانت هي العملية الثالثة التي بدأت في منتصف أغسطس، تتبعت خلالها قوات التحالف والقوات العراقية فلول quot;القاعدةquot; الذين حاولوا إعادة تجميع صفوفهم في مناطق نائية. أما العملية الأخيرة التي شنها أوديرنو Odiernoقبل تركه منصبه بأسابيع كانت quot;عملية شبح العنقاءquot;Operation Phantom Phoenix ، حيث جاءت لتتبع العدو في quot;دياليquot; وتهيئة الظروف لمعركة الموصل.
ويكمن عامل النجاح لهذه العمليات هو الدمج بين المناطق التي شملتها والاستمرارية، حيث قامت بضرب العديد من مناطق المسلحين الآمنة وخطوط الاتصال بينهم في نفس التوقيت. كما ساعد الانتقال السريع من عملية إلى أخرى على تقليل الفترة التي يحتاجها العدو لإعادة تجميع صفوفه.
وتشير الدراسة أيضاً إلى استغلال أوديرنو Odierno لـquot;حركة الصحوةquot; التي ظهرت في محافظة الأنبار في عام 2007، حيث شجع أوديرنو Odiernoعلى ظهور مثل هذه الحركة ليس في الأنبار فحسب بل في جميع أنحاء العراق. واجتمع مع مؤسس الحركة شيخ ستار أبو ريشة في ديسمبر 2006 وشجع الجنود الأميركيين في الأنبار على الاستمرار في القتال والتفاوض لدعم جهود أبو ريشة.
ومع ظهور جماعات أخرى مماثلة لجماعة أبو ريشة في وحول بغداد، استطاع كل من اوديرنو Odierno وبيتروس Petraeus انتهاز الفرصة لعمل صداقات مع أعدائهم السابقين. إلا أنه كان هناك تحفظاً من جانب القوات الأميركية بشأن التعاون مع أعدائهم السابقين وتخوف من أن تحول هؤلاء المسلحين إلى شركاء ما هو إلا أمراً مؤقتاً.
ولتأمين القوات الأميركية، أصر أوديرنو Odierno وبيتروس Petraeusعلى أن يعطي quot;أبناء العراقquot;- الأصدقاء الجدد- معلومات عن هويتهم مثل أخذ بصمات أصابعهم، وإعطاء الرقم المسلسل لأسلحتهم، عناوين منازلهم وعلاقاتهم الأسرية، بالإضافة إلى ارتداء ملابس موحدة. وذلك بهدف التعرف عليهم والوصول إليهم في حالة انقلابهم ضد قوات التحالف أو القوات العراقية.

إخفاق الاستراتجيات الأميركية بالعراق
وتختتم الدراسة بأن أوديرنو Odierno لم يفز في حرب العراق، لأن هذه الحرب مازالت مستمرة والنصر مازال غير مؤكد. فمازالت القوات الأميركية تحت قيادة خليفة أوديرنو Odierno الجنرال لويد أوستنLioyd Austin والقوات العراقية تخوض معركة في الموصل، فيما تواجه قوات التحالف فلول quot;القاعدةquot; وميليشيات quot;جيش المهديquot; الشيعي والقوات المدعومة من إيران والجماعات المسلحة الأخرى.
وتقول الدراسة إنه إذا لم تستمر أميركا وقواتها والقادة السياسيين في الالتزام باستمرار وتعزيز الاستراتيجيات السابقة التي أدت إلى هذا النجاح العسكري، وإمداد قواتها والمدنيين في العراق بالأدوات والموارد التي يحتاجونها، فإن كل ما حققناه من مكاسب سيذهب هباءاً.