فتح ملف البرغوثي من جديد بخبر تأكيد تقديمه للانتخابات الرئاسية للحكومة الفلسطينية، بعد أن حسب الجميع أن مثل هذا الخبر مجرد زوبعة في فنجان أثارها المخيال السياسي والاجتماعي الشعبي والحزبي ثم احتوتها سريعا العقلانية الحزبية المقربة من مروان البرغوثي، بيد أن هذا الخبر الجديد أخرج الزوبعة من الفنجان ووضعها في قلب الحدث الفلسطيني الراهن، مما يعني أن الصراع حسم لصالح المخيال على حساب العقلانية.
المخيال يريد رئيسا رمزيا فخريا، وليس مهما كيف يمارس صلاحياته الرئاسية في ادارة شؤون الحكومة والشعب، فليس مهما أن يكون هذا الرئيس معتقلا ومحكوما عليه بالسجن المؤبد في السجون الاسرائيلية، فبامكانه أن يقوم بمهامه ويمارس صلاحياته المخولة اليه (من قبل الذيبن سيصوتون له)، من مقر اقامته في حبسه، سيحكم عن بعد، نظام سياسي جديد يكون فيه رأس الهرم السلطوي في مكان آخر بعيدا عن قصر أو مقر رئاسة الحكومة، وسيسمح له الاسرائيليون بذلك بترحاب بالغ، فستحظى السجون الاسرائيلية بفرصة تاريخية نادرة لحدث دراماتيكي لم تشهده من قبل، فالرئيس الفلسطيني الجديد(المفترض مسبقا طبعا)سيباشر حكمه بين جدرانها ومن وراء قضبانها، وسيكون سجن البرغوثي هو مقره الرئاسي، ولن يحتاج الاسرائيليون الى بذل الجهود لتحديد مواعيد المفاوضات وتبليغ الشروط عبر الوسائط، لاحاجة للوسائط بعد ذلك، الاتصال سيكون مباشرا مع سجينهم الرئيس.
هذا السيناريو التصوري لم تكتبه نبر ة السخرية والتهكم التي تبدو وكأنها تترشح من بين الكلمات، بل كتبه تأمل الصدمة والدهشة بما آل اليه واقع النضال الفلسطيني الراهن وتفكيره: سجين يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية، يريد أن يكون رئيسا لبلد يعيش يوميا اضطرابات متفاقمة تعقد معضلته التاريخية، ومن المؤكد أن مثل هذا الحدث يدفع بهذه المعضلة الى تعقيدات أبلغ لاسيما اذا ما تم انتخابه فعلا، وهوالذي تتوفر له قاعدة عريضة من التأييد الشعبي التي يراهن عليها، ليباشر مهامه (من داخل سجن أعدائه) كرئيس لدولة مؤجلة، ولنقل لشعب منفي ومسجون في أرضه. رئيس مسجون لشعب مسجون، الشعب المسجون مجازا ينتخب رئيسا له مسجونا حقيقة، أيكون خلاص الشعب وقيادته من وراء القضبان؟! أم أن الشعب يبحث عن خلاص وقيادة رمزية شكلية، وليست حرة الصلاحيات قادرة على التحرك والتواصل لتسيير الأمور ومتابعة الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من شؤون الحياة اليومية للشعوب، ولاسيما لشعب يؤرخ أيامه بنزيف أبنائه وقضيته المصيرية.
لاأحد يجادل- على الأقل من وجهة نظر غالبية العرب ومن يشاركهم من الغربيين- أن هذا الشعب وسجينه الذي يريد أن يكون رئيسا له، كلاهما مناضلان ومكافحان في سبيل تقرير مصيرهم الوطني وتثبيت هويتهم الجغرافية باستعادة حقوقهم التاريخية لأرضهم المحتلة، وأن هذا السجين يمثل واحدا من أبرز مناضلي هذا الشعب، ولكن يبدو أن هذا النضال التاريخي قد دخل مرحلة معقدة من التأثيرات النفسية والاجتماعية على كلا الطرفين، على منظومتهم الذهنية أو الفكرية الخاصة بقضيتهم المركزية المشتركة، هذه المنظومة التي تكونت وتبلورت منذ أن تبنوا خيار النضال (المسلح وغير المسلح) كرهان مصيري لاسترداد حقوقهم، على تنوع فئاتهم واختلاف توجهاتهم الآيديولوجية، فهم يتفقون على الأهداف والغايات لكنهم يختلفون على الوسائل، مما جعل هذه المنظومة الفكرية عبر تاريخها المتواصل منذ الربع الأول للقرن الماضي حافلة بمختلف التجارب والمحاولات المتباينة التي تحولت الى ارث وذاكرة حية تنهل منها هذه المنظومة نماذجا ودوافعا لتحقيق ما تصبو اليه وماتفكر به من حلول للخروج من معضلتها التاريخية التي تعقدت أكثر بمرور الوقت، لكنها مازالت تمثل خيارها الجوهري الذي لم تتخل عنه، وهو خيار النضال، بيد أن واقعها الراهن يكشف عن أزمة تؤشر مدى الانغلاق والعطب الفكري الذي أصاب جزء يبدو كبيرا من عقلانيتها، ومدى الانفتاح والتضخم في مخيالها لاسيما قطاع البطولة والرمز منه. وعلى سايكولوجيا الشعوب أن تهتم برصد أبعادها الذهنية وتجلياتها السلوكية، وربما سيكون للدراسات مابعد الكولونيالية النفسية نصيبا وافرا منها.
هذه الأزمة في العقل النضالي الفلسطيني التي تتجلى عبر هذا الحدث الدراماتيكي تبين لنا أين وصل تفكير العقل النضالي في مواجهته للأحداث وقراءته للواقع ويقظته أمام المستجدات المتواصلة بتبني خيارات صائبة- ان لم تقربه من تحقيق قضيته فانها على الأقل لاتجعله يتراجع رغما عنه الى الوراء-، والا كيف يضع الشعب نفسه في مأزق نظام سياسي شاذ أو لنقل تخفيفا أنه سيكون نظاما ناقصا، وهو بأمس الحاجة من أي وقت مضى عليه الى أن يحقق وحدته الوطنية عبر نظام سياسي كامل يمثله أمام العالم، وينطق باسمه تفويضا وتمثيلا حقيقيين، والا أيضا كيف نفسر اختياره لمروان البرغوثي أن يكون رئيسا له وهو محكوم عليه بالسجن المؤبد، أهو تكريم لمواقفه البطولية وتشرفا لمسيرته النضالية؟ ألأنه البديل الأنسب والأمثل لعرفات الذي قضى أعوامه الأخيرة سجينا(تحت الاقامة الجبرية أو الاختيارية) في مقره في رام الله؟ وهل يستمد الشعب الفلسطيني عزيمته وارادته على الصمود والتحدي من رموزه الحية المحاصرة أو المسجونة، كما فعلت حماس ومناصروها من قبل مع الشيخ الراحل أحمد ياسين الذي قضى سنوات طويلة في السجون الاسرائيلية؟؟ أم أنه يستمدها من قضيته المشروعة وحقه الطبيعي؟! ويكرم رموزه بأشكال أخرى لاتكون على حساب تفريطه بعقلانية الخيار الراجح للنظام السياسي والقيادة البديلة؟!، فان كان عرفات هو النموذج الذي يجب اختيار البديل طبقا لمواصفاته، فمن المؤكد أن في وسط هذا الشعب الكثير ممن سار على طريق عرفات واتبع خطاه وعزم على مواصلة السير على نهجه، وان كانت كاريزما الحضور لشخصيتي عرفات والبرغوثي تحجبان الآخرين، فان المراجعة المتأنية لمواقف الآخرين وتاريخهم النضال كفيلان بحل اشكالية الاختيار لمن هو أحق بتحمل مسؤولية التفاف الشعب حوله وقيادته لهم بتوحيد القوى والفصائل والحركات ضمن بوتقة المشاركة الفعالة في نظام سياسي جديد يحقق اللحمة الوطنية المتماسكة القادرة على مواجهة التحديات واتخاذ القرارات المصيرية الصائبة.