ما نشاهده الآن على الساحة الفلسطينية من أحداث عنف داخل فصائل وأجنحة السلطة الفلسطينية، هو ذروة أزمة التغيير الملحة، سواء على مستوى مستحقات الداخل، والتي تلح عليها عناصر فلسطينية عديدة، من الصفوة والقواعد الشعبية على حد سواء، أو على مستوى مستحقات الخارج لمواجهة أفضل وأنجح لمتطلبات السير بالقضية الفلسطينية باتجاه حل ما - أي حل – سواء بالطرق السلمية السياسية، أو حتى الطرق العسكرية، إذا ما اتضح امتلاك الفلسطينيين لمقوماتها ومبرراتها.
وإذا كانت الساحة الفلسطينية هي التي تحتل بؤرة الضوء الآن، بالنظر إلى خصوصية الوضع الفلسطيني وملابساته، إلا أن جذر المشكلة موجود في جميع دول شرقنا الكبير، ونعني مشكلة التغيير، ذلك أن مقياس التقدم والتخلف في النظم والعلاقات التي تحكم الشعوب، يمكن أن يكون وجود منهجية وآلية تتيح التغيير الهادئ والمستمر، فالأنظمة التقليدية الجامدة تقوم على أساسين يجعلان عملية التغيير عسيرة، أو بالأصح يستبعدان عملية التغيير من الأساس:
•سيادة التوجه والنظرة الأحادية للأمور، ومحاصرة واستبعاد الرأي الآخر.
•افتقاد آلية التغذية المرتدة، والتي تتم بقياس نتائج أداء الفعاليات المختلفة، ومقارنتها بالمرجو أو المخطط، وحساب وتحليل الفارق بينهما، لتعاد النتائج لمراعاتها عند صناعة القرار، وهو ما يوفر التغيير المستمر في الخطط، والقائمين على تنفيذها إن تطلب الأمر ذلك، تحقيقاً للغاية العليا وهي تحقيق الأهداف والسياسات الموضوعة.
والحادث الآن في منطقتنا بعد غروب شمس الديكتاتوريات والنظم الشمولية في جميع أنحاء العالم، هو أن خفت القبضة البوليسية بعض الشيء على عنق الرأي الآخر، فأصبحت له حرية الصياح والهتاف في وسائل إعلامه ومجالسه الخاصة، ليندد بالفساد والمفسدين، ويطالب ما شاء له الهوى بالتغيير - في حدود الهامش المسموح له من قبل أجهزة النظم القمعية – دون أن يكون هناك بارقة أمل في إحداث أي قدر يعتد به من الاستجابة أو الجدوى، ذلك لأن النظام الذي يحكم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية يخلو أساساً من منهجية تتيح التغيير ضمن النظام وتحت لوائه.
من الواضح أن الإمكانية الوحيدة للتغيير في مثل هذه النظم لا تكون إلا بتحطيم النظام، وفرض نظام جديد، قد يكون مماثلاً للنظام القديم، من حيث افتقاده لآلية التغيير المستمر، والتي تتيحها التغذية المرتدة لنتائج قياسات النتائج مقارنة بالمستهدفات.
نستطيع أن ندرك ثبات وسكون الأنظمة الشرقية، ومرور الدهور الطويلة دون تغيير في الأحوال يعتد به، على الأقل مقارنة بمعدلات التغيير في الدول المتقدمة، فإذا كان التغيير لا يمكن أن يحدث إلا بتحطيم الأنظمة القائمة، وهي عملية غالباً ما تكون صعبة، إن لم تكن مستحيلة، علاوة على التكلفة العالية التي يدفعها المجتمع في هذه الحالة ثمناً للتغيير، سواء تكلفة محاربة القوى المسيطرة والمستفيدة من النظام القديم، أو تكلفة إقامة نظام جديد، غالباً ما لا تكون عناصره جاهزة ومكتملة النضج، أو مستعدة عملياً أو حتى نظرياً لإقامة نظام بديل - في ظل سيادة الاتجاه الواحد ومحاصرة الرأي الآخر - مما يؤدي إلى الخوض في العديد من التجارب الفاشلة، قبل الاستقرار على نظام ربما لا تفوق كفاءته كثيراً كفاءة النظام الذي تم الانقلاب عليه.
يتضح أيضاً مما سبق من تحليل أن قوى التغيير لا تنهض إلا بعد أن تكون الأحوال قد تدهورت إلى حد لا يمكن الصمت بعده، أي بعد تداعي وانهيار مقومات الحياة للأمة، مثل ما هو حادث الآن للشعب الفلسطيني المنكوب بنظمه ورموزها، علاوة على نكبته بالاحتلال، والطريف أن نكبة الاحتلال ويمثلها شارون تنتوي - أو على الأقل تعلن – المغادرة، ولو وفق شروط قد يراها البعض مجحفة، لكن النظام المتخلف الذي يحكم الشعب الفلسطيني، ويمثله ياسر عرفات وصحبه الكرام، يصر على البقاء إلى يوم يبعثون، أو إلى أن يحين أجله، وعندها غالباً ما سيتولى الأمر من يماثله، أو على أحسن الفروض من هو أفضل ببضع ملليمترات تساوي الصفر في عالم دأبه التغيير ودأبنا السكون.
نستطيع أيضاً أن نستنتج أن من بين أسباب تخلف الشعوب أن طاقاتها تستهلك وتبدد في المحافظة على ثبات أنظمتها، ليس فقط عن طريق تفشي الفساد والنهب المنظم وشبه المقنن للثروات، لكن أيضاً من خلال ضياع الفرص وإهدار الزمن في ممارسات عتيقة عبر أنظمة منهارة عديمة الكفاءة، لتكون النتيجة أن الأمم الفتية الحرة تصعد لأجواز الفضاء، فيما نزداد نحن غوصاً في أوحال التخلف والفساد الإداري والسياسي والاجتماعي.
ليس من الغريب أن يصعب أو يستحيل التغيير في أنظمة شعوب تقدس الماضي ولا تعترف بالمستقبل، شعوب لا ترى حقائق الواقع بنظرة فاحصة موضوعية، وإنما تراه من منطلق تمنياتها، فترى المجرم القاتل مجاهداً، والجرائم ضد الإنسانية نضالاً ومقاومة شريفة ضد الاحتلال، أما مراجعة الذات وحساب المكاسب والخسائر وإعادة تقييم السياسات، فتراها دعوات انهزامية وخيانة لثوابت الأمة.
على جميع شعوبنا وهي ترقب ما يحدث في فلسطين أن تتساءل، هل هناك إمكانية للتغيير دون هذه الفوضى العارمة، وهل التغيير المتوقع بهذه الطريقة سيكون تغييراً إلى الأفضل أم الأسوأ؟!!
[email protected]