تستحق مسيرة "حركة" 23 يوليو/تموز 1952 المصرية بالقول والفعل ونتائج الحدث التاريخي أن تكون عنوانا ثابتا وسجلا حافلا لمتغيرات كبيرة وخطيرة حدثت في العالم العربي والشرق الأوسط على مدى نصف القرن المنصرم من عمر النظام الإقليمي، ولقد إختلف القوم وإختلفت العديد من القوى السياسية على التسمية الدقيقة لما حصل فجر الثالث والعشرين من يوليو / تموز 1952 في مصر، فمع الخطوات الأولى ( لحركة الضباط الأحرار) كان سفرا جديدا قد إبتدأ في العالم العربي، كما بدأت رياح الإستقطاب وسياسة المتغيرات الدولية وصياغة عالم مابعد الحرب الكونية الثانية بالتشكل وسط ظروف إقليمية ودولية ثرية وحافلة بكل ماهو جديد وعاصف بدءا بالسياسات والمناهج والرؤى وليس إنتهاءا بالتطورات العلمية والحياتية والإقتصادية والتي ستتوالى فصولا في قوادم الأيام، فكانت ( حركة الجيش ) الخجولة في بداية أمرها إيذانا لدخول مصر والمنطقة في عصر جديد تميز بالإنقلابات العسكرية والتغيرات السياسية المرتبطة بلعبة الأمم الساخنة وتشكيل المواقع وخلق النظام العربي والإقليمي الجديد الذي يتجاوز حالات الجمود والتطور البطيئة منذ إنهيار السلطنة العثمانية ونشوء الدول العربية والكيانات التي كانت تعاني من أمراض بنيوية موروثة ومعقدة وطافحة بأمراض وعقد وموروثات القرون الوسطى، فلم تكن ( الحركة ) في بداية إعلانها الخجول إلا حركة تصحيحية ( لتطهير النفس من أدران الفساد)! وكانت تترقب وتتلهف لمعرفة رأي الشارع المصري قبل الإقدام على أية خطوة مستقبلية عاصفة، وكان الإنقلاب المصري مختلفا بالكامل عن صيغ الإنقلابات السورية الثلاث التي حدثت في عام واحد وهو عام 1949!! بدءا من حسني الزعيم و إنتهاءا بأديب الشيشكلي مرورا بسامي الحناوي! وحيث كانت الدموية سمة الموقف في دمشق وكانت الإعدامات والتصفيات هي العلامة الفارقة لما حصل هناك، أما في القاهرة والإسكندرية حيث كان ( فاروق الأول والأخير) يصيف في ( المنتزه) فكان الوضع مختلف بإختلاف المزاج السياسي والإنساني للمصريين عن السوريين، فكان الهدوء سيد الموقف وكانت الترتيبات السياسية تسبق أي تحرك وإختفى ضباط الحركة الصغار الذين هندسوها وصنعوها وهيأؤا مستلزمات وعوامل نجاحها خلف أسماء ورتب كبيرة تسهل مهمتهم في السيطرة الهادئة على مقاليد الأمور بعيدا عن دورات الدم وحماماته المرعبة فكان ظهور اللواء الراحل محمد نجيب في الصورة الإعلامية والذي كان ظهوره ثم إختفائه وطمس ذكراه واحدة من مآسي يوليو، فلم تلغ الحركة النظام الملكي العلوي المصري بجرة قلم بل جاء الأمر تدريجيا وبما يتناسب وتطور الأوضاع المحلية والإقليمية وبهدف تجنب الخضات والمواقف الحرجة، فبعد ثلاثة أيام أجبر فاروق على توقيع وثيقة التنازل لإبنه ( أحمد فؤاد) الرضيع قبل أن تلغى الملكية رسميا ونهائيا بعد مايقارب العام من ذلك التنازل، وبرحيل فاروق لمنفاه النهائي على متن ( المحروسة) في مساء 26 يوليو إختطت مصر تاريخا جديدا أدخلها في قلب الشرق الأوسط وأحداثه الساخنة، كما دخل الثوار والحركيون في صراعات ساخنة فيما بينهم لم تترجم للغة دموية مرعبة كما حصل في سوريا والعراق تحديدا ولكنها أجهزت على روحية التضامن بين الثوار بعد أن تدخلت الصراعات والأمزجة الشخصية لتباعد بين رفاق المسيرة من الضباط الأحرار والذين كانوا منذ البداية في تباين فكري وآيديولوجي فلم يكونوا ينتمون لمدرسة فكرية واحدة فمنهم الإخواني ومنهم الليبرالي ومنهم من مصر الفتاة ( فاشي) ومنهم الماركسي وهم الذين أبعدوا منذ أيام الإنقلاب الأولى كما حصل مع يوسف صديق ومن ثم خالد محيي الدين! فيما تلاقف مصير مصر بعد ذلك سلسلة من الضباط الصغار والمصنفين وفق تصانيف أهل الولاء وليس أهل الخبرة وهم الذين ذاقت مصر على أياديهم الهزائم التاريخية الكبرى بعد أن تحولت مصر لإقطاعية عسكرية يديرها مكتب المشير الراحل وشؤون الضباط فيما تحرص الرئاسة على تعزيز مخابرات الدولة وأجهزتها لمساعدة الإنقلابيين والمغامرين في العديد من الدول العربية وبهدف تصدير الثورة( الناصرية) لدول الجوار وبما أدخل المنطقة برمتها في حمام دم رهيب وخلافات عربية قوية كان ثمنها هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 وتعطيل طاقات مصر، وتخريب إقتصادها، وتسلل سياسة تأليه الحاكم وتنزيهه رغن أخطائه الرهيبة بحق الشعب والأمة... لقد خاض حركيو يوليو معارك عديدة كان بعضها موفقا وكان أغلبها كارثيا!، ولكن العبرة تكمن في أن مصر قد بقيت بعد رحيل كل الآيديولوجيات والصراعات والتصفيات التي تناولت رفاق المسيرة ورغم أن هنالك مؤلفات كاملة عن ثورة يوليو إلا أن التاريخ الحقيقي لم يكتب بعد!، وحيث تبقى الشعوب وليست اللجان صاحبة الحق الأول والأخير في التقويم والتصحيح.


[email protected]