من المناسب جدا أن يتداخل ناقد كفاضل ثامر في بحث العلاقة بين ثقافة الداخل وثقافة الخارج للبدء بمحاولة إشباع تطلعات العصر الثقافي العراقي الجديد وتطلعات جيل ناهض جديد في الداخل يريد التعرف على حقبة ماضية مثقلة بالهموم مرت بها الثقافة العراقية خلال عقود من تناقضات عنيفة لا تثار حول مسبباتها شكوك..

في وسط هذه المحاولات يبدو البحث الأدبي والثقافي وتقييم واقعه خلال 35 عاما مضت غير واضح المعالم بل واهٍ اذا لم يعين الباحث- أي باحث - فكرة وظروف السلطة وعقل القوة التي خلقتها وسيرتها واستعملتها

بإمكاني القول أن البحث والتقييم ينتابهما الوهن والضعف حتى الآن.. تختلف الآراء بصددهما باختلاف نظرة الباحثين والمقيّمين خاصة عندما يبتعد الباحث عن" فكرة السلطة " من مختلف وجوهها وأسسها وأهدافها وآثار علاقتها بالثقافة وتأثيراتها على المثقف من النواحي الفكرية والسياسية والأخلاقية مما يحتم علينا أن نعين (فكرة السلطة) التي تحكمت بالعراق 1968 – 2003 وتحديد نوع القوة التي سيـّرت المثقفين واستعملت ثقافاتهم وإذا كانت" السياسة علم السلطة " حسب ( مارسيل بريلو ) فأنه لا توجد" سلطة من دون ثقافة " منذ جمهورية أفلاطون في القديم اليوناني وحتى المكيافيلية في عهد النهضة وصولا إلى ثقافة العولمة في زمن الترحيب بالديمقراطية المصاحبة للحروب الإلكترونية والأعمال الإرهابية كما هو حال العراق / نموذجاً. فهل توصل فاضل ثامر أو غيره من الباحثين إلى كشف حقيقة ( الفكرة – القوة ) كناتج عن المفهوم الكلاسيكي عن ( السلطة – القوة )..؟

بدءا أقول للتذكير حسب انه من الصعب وجود قضية اقتصادية أو سياسية أو فكرية من دون أن يحصل حولها انشقاق أو اختلاف يدفع المتحاورين إلى تقصي الحقائق عن أصول وفروع القضية ذاتها.

في كثير من الحالات يواجه القارئ تسميتين لكوكب واحد. ففي الجغرافيا الفضائية وعلم الفلك نجد مؤلفي الكتب المدرسية والعلمية يطلقون على أحد الكواكب أسم " المريخ " بينما فلاسفة الآداب القديمة والأساطير يطلقون على نفس الكوكب أسم " مارس " أو الإله مارس بصورة أدق . وعلى كوكب " الزهرة " يطلق اليونانيون والرومانيون أسم " فينوس " إلهة الحب والجمال، وهكذا تتعدد التسميات على " عطارد " إله التجارة وعلى " زحل " إله الزراعة.. ألخ..

كل تسمية لها خصائصها وأفكارها وصورها في الواقع والتجريد.

فهل يمكن السير بنفس هذا المسار حول بعض مسميات ومراتب نقرأها في هذه الأيام منطلقة من اختلاف أو اتفاق قائليها للبدء في تحديد مسميات الثقافة العراقية الحديثة بوجودها الداخلي أو الخارجي بقصد التوصل إلى واقع الثقافة العراقية في زمن ( سلطة ) الفاشية..؟

ليس ثمة ما يدعو إلى الحذر من "وجود" تسميتين للثقافة العراقية. نوقش هذا "الوجود" كثيراً منذ سنوات عديدة قبل سقوط الفاشية في نيسان 2003.. ومنذ أشهر قليلة صمم الموضوع نفسه في " بروفات" لمقالات عديدة، بعد سقوط النظام، أيضا. بعضها التزم الدقة والموضوعية – وهو قليل – وبعضها لا يملك باعا في قضايا الثقافة و القانون العام المتحكم في ترويجها و نشرها – وهو كثير – في صفحات داخل العراق وخارجه في الساحات الأدبية والجامعية.

في البداية أود التأكيد أن تناول قضايا الثقافة العراقية وجوهرها بالذات خلال مرحلتين من مراحل تطور البنية الثقافية العراقية، باعتبارها بنية فوقية، من وجهة النظر الجدلية " غير الصورية " تحتاج أول ما تحتاج إلى صراحة تامة وتحتاج إلى وضعها على طاولة الموضوعية بعيدا عن الأنانية والحرج.

بهذا الصدد أطلعتُ على الكثير من الآراء. كان منها كتاب سلام عبود المنشور في دار الجمل – ألمانيا الذي قال فيه ( ان الحديث عن الأبعاد الروحية للكارثة أمر يستهوي كثيرين ولكن لا أحد يجرؤ على إيراد ودراسة أمثلة حسية على هذه الأبعاد، رغم أننا نستطيع أن نجدها في كل بيت بل وفي كل شخص. وليس الأمر محصورا، كما يظن كثيرون، بالسلطة وأفعالها، فأبعاد الكارثة تسري على الجميع نفسيا واجتماعيا وثقافيا. ومن الأمثلة العجيبة التي حصلنا عليها في هذا الشأن، الحوار الثقافي الذي دار على صفحات الزمان، والذي أسمته الصحيفة " صور من الخراب الثقافي بصوت عال ") .

بهذا الوصف " الكارثة " بسط الحرّاث سلام عبود في كتابه ( ثقافة العنف في العراق ) حال عودته من حقل البحث في ثقافة العراق في فترة الأعوام الثلاثين الماضية وجد فيها تراب الثقافة العراقية ساخنا بالنار والدم يناقض فيها تماما ما قاله الناقد فاضل ثامر في حواره مع د. إسماعيل الربيعي المنشور في 8 تموز الجاري على صفحة الثقافة في جريدة إيلاف الإلكترونية حين أعلن من شرفته الثقافية بأن (اعتقد أن ثقافة المرحلة السابقة بطبيعتها هي ثقافة إنسانية، ثقافة وطنية، ثقافة قومية، ثقافة تقدمية، استطاعت ان تقدم الكثير من العطاءات الممتازة..). فأي من الرأيين أو الوصفين أو التسميتين يركب على جواد لا يصهل..؟

كما كنتُ قد قرأت ملف جريدة الزمان المنشور في أواخر عام 2003 وأوائل هذا العام، وتابعتُ كتابات داخل العراق منشورة في بعض الصحف منها جريدة التآخي خلال الربع الأول من عام 2003 إضافة إلى لقاء إيلاف مع فاضل ثامر ( من الداخل ) وتعقيبا على أمواج أفكاره من ( الخارج ) بقلم برهان شاوي.

ربما أجد نفسي الآن أمام مسألة قد تكون مدخلاً سهلا للحديث عن " الحق " في تناول ثقافة الداخل وثقافة الخارج وما يميز " الحق " في " الداخل " عن " الخارج " أو العكس..!

هل يحق لاحد أن يقول ان ثقافة الخارج شرعية وثقافة الداخل غير شرعية..؟ وهل يوجد فقه ثقافي أو أدبي يجيز هذه الميزة أو عكسها..؟

هل من حق أحد ان يشكك بـ"كل " ثقافة الداخل طيلة ثلاثة عقود ظلماء..؟

هل يمكن ان يتبع هذا التشكيك بقول يشيد بـ" كل " ثقافة الخارج باحتسابها إضافات إبداعية غلبت أو تفوقت على بعض الإبداع في الداخل..؟

هل يوجد قانون إبداعي يفرز أو يختصر ترتيب نسق الثقافة العراقية في الخارج عنها في الداخل..؟

أسئلة كثيرة تقدم نفسها أمامنا وأمام الباحث الموضوعي لتوخي الدقة بقصد استيعاب تجارب مرحلة سوداء مرت بها الثقافة العراقية إبان سيطرة " السلطة الفاشية " التي استطاعت ان تبث الكثير من الأوهام داخل جسد الثقافة العراقية الإبداعية والأكاديمية بما قدمته من براهين مزيفة وافتراضات خادعة عن تقدميتها واشتراكيتها وحريتها وإسهابها الممل عن قوميتها وعر وبيتها وفلسفتها المناوئة للإمبريالية وغير ذلك من" الثقافات البعثية " المتصلة بالجهل والمذهبية والطائفية الدينية والحزبية والعشائرية..ألخ

إن زمان ومكان الثقافة العراقية لا يحدده رأي فردي من دون الدخول إلى المجموع الكلي لجميع الحقائق الواقعية للمشروع الثقافي العراقي الرسمي 1968 - 2003 الذي صيغ بعقل فاشي جبار ذي حد وحيد وضع تصوراته الشاملة كل من طارق عزيز وصدام حسين وهو المشروع الذي حمل نقائض كثيرة بدت في عيون الكثير من المثقفين العراقيين بما فيهم مثقفين تقدميين لم يدركوا الوحدة العينية للمنهج الفاشي لنظام صدام حسين حتى وقع الكثير منهم ومثلهم وقع مثقفون عرب ضحايا لأطروحة ما يسمى بمهرجان المربد سيئ الصيت- لم أحضر ولا دورة من دوراته لكنني راقبت تفاصيله عن بعد - وكان بعضهم من المثقفين العراقيين والعرب قد وقعوا ضحية السيكولوجية الوظيفية عندما ارتضوا مناصب في المشروع الثقافي البعثي من دون إدراك ماهيته الحقيقية..

هناك ضرورة ملحة الآن لمعرفة التاريخ الثقافي الذي " صنعه " حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق والوطن العربي الذي يكشف الوقائع المتصلة بالحياة السياسية العامة طيلة العقود الماضية التي انتشرت فيها " ثقافة شوفينيية" معادية للشعب الكردي ولقوميات ومذاهب واديان عراقية أخرى مصاحبة لثقافة قطع الآذان والأيدي ووشم الجباه لتشويه علاقة الإنسان بالدولة كما تشويه علاقة الإنسان بالجمال الإنساني.

في كل مرة يجري فيها حديث مقال عن ثقافة الخارج / الداخل ينسى كاتبه في غالب الأحيان التعمق في مسألة الانتماء الكلي للثقافة العراقية عند التطرق إلى " المكان" الذي يعيش فيه المثقف فيوصف "المكان" في " الداخل " إيجابيا بينما يوصف " المكان " في "الخارج " سلبيا وتتواري أدوار السلطة السياسية في تقسيم الثقافة إلى داخل /خارج وكأنما لم يعد هناك قهر سياسي في موقف السبب الأول والرئيسي لخلق المكانلوجيا..!

حين أسرّني سعدي يوسف ( الشيوعي ) ذات يوم في أواخر السبعينات في ليلة مغادرته العراق أنه قرر ترك " المكان " أي العراق لأنه وجد أن قضيته الثقافية تتعارض تعارضا كلياً مع الثقافة الرسمية للنظام الفاشي القائمة على أسس فلسفية واجتماعية وروحية تبنت الدولة البعثية توليدها بالقوة البوليسية القمعية. كنتُ شخصيا قد شهدتُ ضغوطها عليه وعلى عائلته مما دعاه إلى اتخاذ قراره بالانفصال عن " مكان سكنه " المحاط بالكلاشنكوف البعثي آنذاك، باحثا عن " مكان " آخر بقصد الحفاظ على جذور ثقافته حرة .

في أواخر ديسمبر عام 1980 قرر الروائي( العربي ) عبد الرحمن منيف مغادرة بغداد إلى باريس بعد بقائه في العاصمة العراقية مدة تقارب السنوات الست وقد أخبرني بجواب عن سؤالي عن سبب المغادرة قال :( أريد أن أكون حراً. هذا المكان – بغداد – لا يتناسب لا مع إحساسي بالحرية ولا مع نمط العقل الذي ينحصر في داخلي. ) وقد كان يعتقد، وهو على حق، إن الإبداع الخصب يتطابق في اغلب الأحيان مع صدى المكان.

أما عالية ممدوح ( كاتبة مستقلة ) فقد أخبرتني أثناء لقائي معها في كانون الثاني 1984 بالقاهرة أنها قررت نهائيا اختيار فرنسا – المغرب كـ"مكان " لإقامتها لأنها تبحث عن بؤرة تتأثر وتؤثر بحرية كتابتها وتصهر فيها خليط محسوساتها الإبداعية.

في الأمثلة الثلاثة نجد أن في تغيير " المكان " معنى من معاني التعبير الصحيح عن طبيعة الوعي بالحرية وليس بغيرها.

في ما بين هذه الأمثلة، ما قبلها وما بعدها أيضا، اتجهت جهود الكثير، العشرات والمئات من الأكاديميين والفنانين والشعراء والكتاب والصحفيين، نحو إخضاع عملهم الثقافي والإبداعي لفهم العالم بحرية يوفرها " المكان " أي بعبارة أخرى أن المثقف العراقي لم يمارس فعل مغادرة " المكان " بصورة الفعل المحض أو برغبة تصورات خلق دائرة جديدة مغايرة لثقافة الداخل. فالحس المتنوع لدى المثقف العراقي كان يدفعه لتغيير المكان كوسيلة لتحطيم الواقع الثقافي السلبي المقاد من سلطة فاشية. بعبارة أخرى ان تغيير المكان من الداخل إلى الخارج لا يعني محاولة خلق ثقافة متعالية اسمها ثقافة الخارج. فالواقع الفعلي لمنجزات مثقفي الخارج خلال ربع قرن من الزمان وأكثر لم يخلق ثقافة منفصلة عن الجذور أو عن الثقافة الحقيقية الداخلية البعيدة عن هيمنة السلطة.

وأيما كان مكان الخارج ونوعه، عربيا أو أوربيا، لجوءا سياسيا، أو إقامة عمل، فهو يعني ( المكان ) القادر على تهيئة جو حر آمن يقدم خدمة جليلة لدعم العمل الإبداعي الحر بعيدا عن قهر السلطة خاصة السلطة الفاشية العراقية القائمة على الثقافة الباطلة والمزيفة وقد علمتنا تجربة ربع القرن الماضي إنها كانت من أبرز ثقافات العبودية لكيان " الفرد " متجسدا في ذات فرد واحد ( الرئيس صدام حسين ) بهوية همجية يميز نفسه عن الآخرين بنار التسلط الدكتاتوري .

لم يكن بإمكان أحد أن يمد أدبه وثقافته في الداخل بدون ركوب منحنيات أو رموز تجرد الإبداع الحقيقي من جوهره أو يضطر المثقف إلى التبصر الحذر في استخراج عناصر صمته الكلي أو الجزئي مما يوقف ممارسة الأديب لفنه ضمن سياسة القمع في الداخل.

وفق صياغتي هذه أود القول:

1 – ان مقولة ثقافة الداخل والخارج لا تحمل جوهرا دقيقا.

2– الصحيح استبدالها بـ " مثقفي الداخل ومثقفي الخارج"..

3 – من الناحية التجريبية أن المثقف العراقي في الخارج صاغ منجزاته كامتداد لثقافة الوطن مرتبطة أساسا بنشر ثقافة الاحتجاج ضد الدكتاتورية على مستوى العالم.

4– ليس هناك شك لدى أحد بان ثقافة الخارج كانت قادرة من خلال مكان الحرية على التوحيد بين" أفكار " الإبداع الحر و" حرية " الوطن.

هنا أبدأ مرحلة ثانية بنقد بعض الأفكار المبتعدة عن واقع جهود " مثقفي الخارج " حين يقول بعضهم ان مثقفي الخارج يبحثون عن " وظيفة " في الداخل.. هذا التصور يعتقد خاطئا كأن مثقفي الخارج يجوبون شوارعه عاطلين. النقطة الوحيدة الحسنة هنا ان هذا البعض يقر عن أدراك أن مثقفي الخارج لهم موقف ثابت ودائم من الرغبة في العودة الحرة إلى الداخل الحر للمساهمة مع أبناء شعبنا من مثقفي الداخل في إعادة البناء الثقافي.. غير أنني أؤكد هنا ان هذا البعض يستند على بداية مفترضة ليست صحيحة لها حدود أخرى تتعلق بهدف الحصول على ( " منصب ثقافي.. !).

مثل هذا الافتراض يؤدي إلى خطا ما لان" المنصب " ليس أساس كل شيء في حياة المثقفين. فمثقفو الخارج حالهم مثل حال مثقفي الداخل يريدون ان يكون لهم دور مشترك سليم في عملية البناء الثقافي الجديد.. ولا شك ان البرهنة على ذلك يقدمها الواقع الفعلي للدور الذي تلعبه منظمات وتجمعات ونوادي مثقفي الخارج في وضع القضية العراقية موضعها الصحيح أمام الرأي العام العالمي في مختلف دول العالم.. وباستطاعة آي نظرة فاحصة موضوعية ان تظفر بالعيان المباشر مئات الفعاليات في الخارج والندوات والمحاضرات داخل المعاهد والجامعات والمهرجانات الثقافية الشعبية والكتابات والبحوث عن العراق الحضاري سواء قبل سقوط النظام الفاشي أو بعده. هكذا يكون النشاط الثقافي الحقيقي والأصيل في بلدان الغربة هو نوع من أنواع المقاييس الحقيقية لتطلعات مثقفي الخارج، ولا استبعد هنا حقيقة القول أن العديد من فعاليات الخارج لا يخلو من شوائب أو أن بعضها بلا سجالية أو إشكالية.

لكن إذا ما فحصنا بشيء من التمعن موقف الأجهزة الثقافية والرسمية ( بعد سقوط سلطة الفاشية ) في الداخل فإننا نقترب من حقيقة فهم الموقف الداخلي العام الرسمي في غالبه بتهميش دور مثقفي الخارج فتلك الأجهزة بما فيها وزارة الثقافة لم تخطو حتى الآن أي خطوة بقصد الوصول إلى الحدود الخارجية لوطننا بأي معنى من معاني الارتباط المتبادل أو تحديد الدور المتبادل بين مثقفي الخارج والداخل. نفس الخطأ يلف سياسة وزارة الهجرة والمهجرين.

هذه فكرة تشكل عندنا موضوع نقاش مستمر حتى صار معيار معرفة مثقفي الخارج عما يجري في الداخل لا ينسجم مع خلاصة الدور الذي يمكن ان يلعبه مثقفو الخارج سواء داخل الوطن أو خارجه. ولا بد من لفت النظر هنا أن غالبية مثقفي الخارج ليسوا من نوع النموذج الذي عاد إلى الوطن بديناميكية البحث عن المناصب والجاه والرواتب المجزية.

هنا ارتشف الأسف فأقول : لا يوجد تفكير في الداخل الثقافي والرسمي يتجاوز أطر نسيان وتهميش مثقفي الخارج، وهو تفكير لا يؤدي في نهاية المطاف لغير تشكيل واقع سلبي واستبعاد الموجودات الإيجابية الموجودة في الداخل والخارج.

بهذا الصدد أورد بعض ما كتبه المفكر العراقي عدنان المبارك" "يصعب العثور على تبرير معقول يدعمه المنطق والنزاهة لما يحدث من خلط للأوراق بل لامعقوليات تريد أن تحشر الأدب العراقي، وبالضبط النثر، في تلك القوالب القديمة المصفوفة على رفوف الأيدولوجيا و الحماسات الثورية والوطنية والقومية وما شاكلها. وإلا أيّّ معنى هناك لأطلاق هذه الصواريخ الكلامية؟. و الأمثلة على هذه الصرعات الجديدة كثيرة لحد الغثيان: كاتب تكلم بلغة هي على الموضة اليوم ( أكيد أن لغة الرياضيات العليا تصاب بمركب النقص في مثل هذا الحضور الكلامي. ولكن اللغة التي أبتكرها ( الأخ الكبير ) الأورويلي تشعر بالفخر، إذ عثرت على أحفاد لها!" عمن يسمونهم اليوم ب( كتّاب الخارج ).قال هذا بأسلوب تلك اللغة ما معناه أن هؤلاء الكتّاب هم أصفار على الشمال.، فهم لم يمرّوا بالجحيم الصدامي. و لولا الحرص على أن تكون ( كلمة الموقع ) موجزة لطرحنا أمام هذا الصنف من الكتّاب ( نحن نجهد في الحفاظ على اللياقة، و ليس الموضوعية بالطبع، و لانسّمي واحدهم كويتبا ) القائمة الطويلة بإسماء الكتاب الذين قدّموا خير نتاجاتهم في الخارج. لكن لنذكر بضعة أسماء، وأملنا كبير في أن ذلك الكاتب قد تعرّف عن قرب على أعمالهم : جويس، نابوكوف، بيكيت، إليوت، بريخت، سولجنتسين، كونديرا، غومبروفتش، التكرلي، منيف، فرمان..


و كاتب ثان كان يجزم بأن التافه قد أضافه ( أدب الخارج ) الى الرصيد ( أكيد أنه كان قد تعرّف في السجن الصدامي الكبير آنذاك على نتاجات الخارج بفضل قوة خارقة من خانة البارا سايكولوجي أو التخاطر ). و ثالث وجد أن من حقه أن يمنح إمتياز خاص لكونه قد كتب ( في الداخل ) !. أما رابعهم فإكتشف أن لا قيمة لأيّ أدب لم يعذّبه ولم يشنقه زبانية صدام. وكان هناك خامس لبس رداء القاضي بل قام بمحاولة للصول والجول في محكمة تفتيش كانت ( على قدّ الحال).. والآن :هل هو جديد أم قديم هذا الفيروس؟. ثمة دلائل كثيرة توميء الى أنه فيروس إفتراضي صنع في مختبر لا يعترف به دستور الطب. فإنهيار النظام اللاإنساني وجده كتّاب الدرجة الثالثة فرصة ذهبية للإرتقاء الى الثانية ( لربما الأولى ؟.).و لاغرابة في الأمر. فقانون الفيزياء يعلم بأن الخفيف يطفو دائما على السطح. وكان هناك سادس أراد ( لكنه فشل ) أن يسخر من ( أدباء الخارج ) كعائدين ومعهم ( شرور ) الغرب من ليبرالية وتعامل متمدين وغير ذلك. بالطبع العتب مرفوع هنا. فالطبيعة، أو ما فوقها، لاتجود كل يوم بسقراطات يجيدون السخرية.
إن نسبة لابأس بها ممن ( أدركتهم حرفة الأدب ) في ( الداخل )، و في ( الخارج ) أيضا، تنو ء تحت ثقل صلبان كارتونية. إنه ( اللانضج ) الذي كان قد تناول مردوداته المنفرة، وبمشرط الجرّاح، الكاتب الكبير فيتولد غومبروفتش..))

من هنا وقع فاضل ثامر، وغيره البعض الآخر من مثقفي الداخل، موقعا بلغ من الضيق ما دفعه إلى تهويل معارف الثقافة في الداخل خلال عقود نظام صدام حسين حتى وصفت بتصورات رمزية غير واقعية مما جعل الكاتب العراقي برهان شاوي يستغرب من التأسيس التاريخي لمطروحات و تقديرات فاضل ثامر عن الواقع الثقافي والإبداعي خلال الحقبة الفاشية كما استغرب الخطأ الناشئ لدى فاضل ثامر عندما نظر إلى الشر الغالب في نتاج ثقافة الفاشية العراقية بنظرة قاصرة ديالكتيكيا ً، متجاهلا وجود الإدانة المطلقة في تحليلات سلام عبود في كتابه عن ثقافة العنف ومتجاهلا حقيقة ان اغلب ثقافة الحقبة البعثية كانت مكرسة لتركيز فكرة الألوهية لشخصية صدام حسين وأفعاله :

قال فاضل ثامر : "ما يقال أحيانا من محاولة تسفيه المنجز الثقافي للمرحلة السابقة فيه الكثير من الغبن والظلم، اعتقد ان ثقافة المرحلة السابقة بطبيعتها هي ثقافة إنسانية، ثقافة وطنية، ثقافة قومية، ثقافة تقدمية، استطاعت ان تقدم الكثير من العطاءات الممتازة، هنالك بعض النقاط التي صار فيها نوعا من الإخفاق، أو التهاون أو قبول سياسات النظام، ولكنها حالات طارئة محدودة، وظل الرصيد الإبداعي هو رصيد متواصل ومتكامل ونحن نستطيع ان نستقبل مساهمات زملائنا المثقفين الذين عاشوا في الخارج لكي ندمجها في هذا المتن الثقافي بشكل صحيح أيضا لكي تكون مساهمة متواصلة، ونحن ندعو إلى التواصل والتعاون..ألخ ".

من خلال هذا القول تزود فاضل ثامر بصورة مجردة لكنها متعالية بقوله الأعتباطي( نستطيع أن نستقبل..) نقلها إلى قارئه بعد ان استخدم ألفاظا عامة مركبة بقوله :

1- أن تسفيه المنجز الثقافي للمرحلة السابقة فيه الكثير من الغبن والظلم..

2- ثقافة المرحلة السابقة هي ثقافة إنسانية..

3- ثقافة المرحلة السابقة قدمت الكثير من العطاءات الممتازة

4- بعض النقاط صار فيها نوعا من الإخفاق والتهاون وقبول سياسات النظام ولكنها حالات طارئة محدودة..

5- ظل الرصيد الإبداعي هو رصيد متواصل ومتكامل..

في هذه النقاط الخمس أشياء كثيرة ملتبسة الدلالة والمعنى تماما على الصديق فاضل ثامر وربما عنى بـ" ظواهر " الأشياء وليس بوجودها الجوهري الفعلي المباشر اعني انه تمثل الشكل الثقافي العام ولم يلتفت لحقيقة مضمونه وقد غاب عن تفكيره التركيب الدعائي لسلطة الثقافة وثقافة السلطة التي مورست خلال عقود ثلاثة من زمن التسلط الفاشي واصفا هذا الزمن بأنه" مرحلة سابقة" من دون ان يتصدى للتفكير الأساسي لقيادتها وظواهرها الخاصة والعامة والتي كانت بصورتها العامة تتابعا سلطويا منغلقا على ذاته الشيطانية في تسخير " الثقافة " ومختلف الأجناس الأدبية بمنهج مدروس غايته الرئيسية وضع علم الجمال لخدمة سلطة الحزب الواحد والقائد الواحد والصنو الواحد مما أفضى بالنتيجة إلى بناء ثقافي مقطوع الصلة بالوقائع الحياتية الملموسة للشعب العراقي وحضارته.

أرجو أن يسمح لي فاضل ثامر بتذكيره بالوجود الثقافي العام لتلك المرحلة التي كنت وسأظل شاهدا عليها ليس من بعد بل عن قرب فالصديق ثامر يعرف جيدا أنني كنت في وسط المعمعة وليس خارجها فقد كنت مالكا لواحدة من كبريات دور النشر والتوزيع العراقية – عانيتُ بسببها اضطهادا وتقييدا واعتقالا ونهبا لأموالي - ولكنني بكل الحالات كنتُ بسببها أيضا على صلة يومية بما تنشره وتصدره دور النشر الحكومية آنذاك وحتى دور النشر الخاصة. هذا ما ساعدني بكيفية عرضية في مراقبة ومتابعة النزعة الفلسفية الفاشية لدى الممثلين الرئيسيين عند أصحاب السلطة الثقافية البعثية وميول قادتها المستلهمة من أخلاقية صدام حسين وكيفيته الجذرية في التعامل مع الثقافة والمثقفين. لهذا سأتطرق في هذه المقالة لثقافة النشر والمطبوعات تاركا لغيري من المختصين تناول ثقافة الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والفنون التشكيلية.

على القارئ ان ينتبه جيدا أن الناقد فاضل ثامر استخدم كلمة " تسفيه " للنقد الذي يدين ثقافة السلطة خلال ما سماه أيضا بـ" المرحلة السابقة " من دون ان يضمنها صيرورتها الحقيقية بفكرة ٍ ما أو وصفها بثقافة الفاشية أو عبادة الفرد فحاد بالوصف الخاص عن سياق المرحلة التي لا يتمكن أحد ان يبعد عنها رجحان العنف كظاهرة تراكمية اظهر كتاب سلام عبود قياسها بما هو ملموس أو متجمع في المجرى الثقافي العام لناتج الحقبة المعنية كلها . لقد نسى فاضل ثامر أن ( أغلب ) نتاج ( المرحلة السابقة..!) كان يفتقر إلى الفكر الحر، وكان مشبعا بالسطحية والتفاهات والخواء والنفايات. كانت خصائص ذلك النتاج - في كمه الأكبر - تتميز بتمجيد حزب السلطة وقائدها وكانت الثقافة محصورة في دائرة ضيقة يتحكم فيها وزراء من أشباه الأميين( لطيف نصيف جاسم.. عبد الغني عبد الغفور..) ومدراء بعضهم من أشباه المثقفين..!!

في نفس المثالية وخارج اوجه الوعي المألوفة يصف فاضل ثامر الذين يسفهون نتاج الحقبة الفاشية وكأنهم" يظلمون ويغبنون " حق القائمين بها وعليها..! وهذا اغرب تعارض يقع فيه ليس المؤرخ بل الناقد فاضل ثامر الذي ابتعد بتصوره عن الواقع الثقافي وعن العلاقات القائمة بين الحياة والفكر والسلطة.

من الحدود الثابتة التي أرى رسمها أمرا ضروريا هي ان مراحل ثقافة الحقبة الثقافية البعثية منذ عام 1968 لم تكن ممتدة على خط واحد بل هناك هوة تفصل بين الفترة الواحدة عن الأخرى. على هذا الأساس يمكنني رسم الحدود التالية :

الحد الثقافي الأول هو حد فترة السبعينات وهو حد كان فيه " المشروع الثقافي الرسمي" قد خطط استخدامه لأهداف داخلية وخارجية بقصد الدعاية لحزب السلطة حيث تم تشغيل مطابع الدولة خلال 1970 – 1075 لإنتاج 36 كتابا وكراسا بواقع 100 ألف نسخة لكل واحد منها لن تتوقف عن النمو والتزايد بعد عام 1976..وبقصد مصادرة إمكانات المثقفين العراقيين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية فقد مدّت وزارة الإعلام ( طارق عزيز ) خططها في نشر " بعض " كتب التراث " و" بعض " الفكر التقدمي بهدف تخليص فكر السلطة وحزب البعث العربي الاشتراكي من عزلته الداخلية والخارجية الموروثة عن السلطة البعثية الأولى عام 1963 وثقافة البيان الدموي رقم 13 سيئ الصيت.

ولكي لا نأخذ أنصاف الحقائق أو أرباعها فلا بد من أن أكون بجوار الحقيقة لأقول أن الشاعر البعثي محمد جميل شلش صاغ طموحاته الوظيفية في نشر العديد من المطبوعات حين كان مديرا عاما مسؤولا في وزارة الإعلام عضدته آنئذ مجموعة من الشباب المثقف عبر اتجاههم لاثبات قيم معرفية وطنية عامة. لكن سرعان ما عزلت مجموعة شلش بعد جولة النزهة الثقافية الأولى حين بدأ الاتجاه واضحا في فترة لاحقة لتأكيد لائحة قيم جديدة هي قيم تمجيد قيادة صدام حسين وتمجيد ثقافة الحرب والعدوان .

اختفت ظاهرة النقد الفني والسياسي ونشر الفكر " التقدمي " مع صعود صدام حسين من مركز السلطة الثانية إلى مركز السلطة المطلقة الأولى عام 1979 وقد امتلكت هذه الفترة خاصيتها الأساسية في تنسيب أسماء جديدة لصدام حسين : القائد الضرورة.. القائد القومي الملهم.. عدو الصهيونية والإمبريالية.. وغيرها حتى بلغ عددها 99 اسما نشرت ببوستر خاص منتصف الثمانينات. وقد تم التمهيد لثقافة جديدة بمعايير خاصة محمولة على ميزانيات خيالية كان منها :

1- نشر كتاب عن صدام حسين من تأليف الكاتب المصري أمير اسكندر. أظهره بطلا إنسانيا قوميا لا مثيل له ونموذجا تأمليا فاعلا في التاريخ الحديث للأمة العربية.. وقد كوفئ الكاتب بمال نقدي غزير وبتحمل كامل تكاليف دراسة الدكتوراه في فرنسا وبتحمل كامل تكاليف إصدار مجلة ( المنار ) الصادرة من فرنسا والتي تطبع في مطابع الدار العربية ببغداد وهي المطابع الخاصة بالمخابرات العراقية.

2- نشر كتاب ثان عن سيرة حياة الرئيس صدام حسين ألفه الصحفي اللبناني فؤاد مطر بعد سلسلة لقاءات ومقابلات مع الرئيس بلغت 18 ساعة وقد رصدت للكتاب ميزانية ضخمة مع مكافأة إصدار مجلة ( التضامن ) في لندن. وطبعت في العامين الاخيرين من عمرها بمطابع المخابرات العراقية في بغداد..

3- الأهمية التاريخية لثقافة صدام حسين قد بلغت ذروتها " الوطنية " في صفحات كتاب المصري عادل حسين عن تأميم النفط ركز فيه على " الروح الكفاحية " لدى صدام حسين ضد الاستعمار واحتكاراته النفطية. ( ملاحظة : لم تسعفني ذاكرتي في هذه اللحظة استعادة عنوان الكتاب ) وقد نشر باللغتين العربية والإنكليزية بتمويل سخي من القصر الجمهوري .

4- تم تحويل رواية عبد الأمير معلة إلى فلم سينمائي روائي طويل بعد أن تم اختيار هذه الرواية من بين 24 عملا روائيا خاصا كانت لجنة معينة من صدام حسين قد كلفت روائيين بعثيين لتناول سيرة صدام حسين. كما تم تخصيص 12 مليون دولار ميزانية خاصة لانتاج فلم ( القادسية ) لمخرجه صلاح أبو سيف كعامل مساعد لترويج مفهوم وثقافة ( قادسية صدام ) على نطاق واسع.

5- كما نشر برزان التكريتي كتابه المعنون محاولات اغتيال صدام حسين لتمجيد شخصية صدام حسين بلغ عدد المطبوع منه 600 ألف نسخة وهو أعلى رقم قياسي لطبع كتاب في الوطن العربي حتى الآن.

6- تم تأسيس دار المأمون للنشر والترجمة لإنجاز مهمة تحويل كل خطاب من خطب صدام حسين إلى كتب وكراريس تطبع بالعربية والإنكليزية والروسية والفرنسية بواقع 50 ألف نسخة من كل كتاب ولا اغفل هنا ان دار المأمون قد أنجزت روائع من الكتب الأجنبية والروايات المترجمة أثناء أدارتها من قبل ناجي الحديثي.

7- اصدر الرجل الأمي نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان 15 كتابا بمعدل يزيد على 300 صفحة ( كتبها سكرتيره) تناولت سيرة صدام حسين وعبقريته في مختلف الشئون القيادية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. ألخ وتم طبع 25 ألف نسخة من كل كتاب.

8- ولغرض استكمال عبقرية صدام حسين أصدر عدد من الباحثين الأكاديميين كتابا عن ( مدينة تكريت ) بأربعة مجلدات ضخمة ذات طباعة ممتازة وبورق صقيل وفيها يظهر تزييف واضح للتاريخ والجغرافيا.

9- في فترة الثمانينات والتسعينات انشغلت المطابع العراقية الرسمية والأهلية بأدب وثقافة وقادسية صدام وطبع ملايين النسخ لمئات من دواوين الشعر وقصص الحرب وكلها تمجد القوة ومظاهرها والعنف الحيواني وبشاعته.

10- كما صدرت ملايين النسخ من الكتب التاريخية والسياسية و" الفكرية من مختلف الباحثين في الجامعات العراقية بلغ عددها أكثر من 3000 كتاب زيفت التاريخ والحقائق من اجل تمجيد صدام حسين وكسب رضاه.

هذه محمولات أمثلة من ذاكرتي عن ثقافة السلطة التي سادت في " المرحلة " التي أشار إليها فاضل ثامر بمعان منفصلة ومنعزلة عن تركيبة السلطة في تلك " المرحلة " بينما المفترض ان يتناولها بالتحليل النقدي الموضوعي وبطريقة تفكير تحكمها الحيادية من دون الخضوع لأي سلب لمنهجه النقدي فقد غطت المطبوعات السلبية في تلك المرحلة مئات الأضعاف مما نشر إيجابيا أو إنسانيا أو تقدميا كما يعتقد.. ! وكان عليه كناقد ان يأخذ مئات الوقائع الثقافية ببحث تمهيدي حتى أثناء مقابلته القصيرة مع" موقع إيلاف " وان يرتب تلك الوقائع ترتيبا تصاعديا بوصفها أجزاء من حقائق وكي لا يقع بتفكير " استدلالي " خطير بقوله (بعض النقاط صار فيها نوعا من الإخفاق والتهاون وقبول سياسات النظام ولكنها حالات طارئة محدودة..وظل الرصيد الإبداعي هو رصيد متواصل ومتكامل..).

فبالله عليك يا سيدي القارئ هل ان ما فعلته القيادة الثقافية الفاشية في العراق طيلة 35 سنة يصنف وفق " حالات طارئة محدودة .." حقاً كما قال فاضل ثامر..؟ هل ان قتل الصحفي ضرغام هاشم ( وهو بعثي ) كان حالة طارئة..؟ أم أن إعدام عبد الخالق السامرائي ( قيادي بعثي ) كان حالة طارئة.. أم أن تسميم الشاعر شفيق الكمالي كان حالة طارئة..؟

يلاحظ القارئ إنني اعتمد على أمثلتي على ممارسات قمع الفاشية للمثقفين البعثيين أنفسهم كي لا تطمس أمثلتي وتتحول إلى فكرة غير حيادية إذا ما أوردت عشرات الأمثلة الأخرى لقتل وإعدام صفاء الحافظ وصباح الدرة ( مثقفين شيوعيين ) أو محمد باقر الصدر ( مثقف إسلامي ) و رؤوف زهدي وعبد الخالق معروف ( من كردستان ) وغيرهم.

يتعين عليّ أن أقدم للصديق فاضل ثامر مثال حالة طارئة فعلا في ممارسات الفاشية الثقافية تعني أول ما تعني مأزق المثقفين العراقيين في الداخل، بإيراد واقعة الكاتب العراقي عزيز السيد جاسم لما فيها من طبيعة وحشية تعبر بوضوح عن خطر المنهج الذي جعل فاضل ثامر يرى ان المرحلة السابقة قدمت الكثير من العطاءات الممتازة.

كانت عقيدة عزيز السيد جاسم بعثية وقد برهن على علاقته مع سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال الكثير من المناصب الثقافية والإعلامية في الدولة التي تقلدها عن كفاءة وجدارة فعلاً، وليس هناك من شك لدى القادة في الدولة وحزب البعث عن صدق عقيدته، لكن الفاشية الثقافية لا تضع مثل هذه الاعتبارات في المقام الأول وبعض تفاصيل ما جرى لهذا الكاتب أكثر ملاءمة للباحث في نظرية ثقافة الداخل ( الموصوفة من قبل فاضل ثامر بأنها إنسانية.. وطنية.. تقدمية..ألخ ) ففي مجرى الأحداث التي مر بها الكاتب كثير من البراهين على عنف نظام صدام حسين وثقافته حتى مع كوادره الثقافية.

إن قصة عزيز السيد جاسم هي واحدة من آلاف القصص التي مرت بالمثقفين العراقيين وبالثقافة العراقية وهي بالأساس قصة إسقاط الإنسانية والإنسان في عراق ( المرحلة السابقة ).. وليس من الصعب على الباحثين أو النقاد من المثقفين في الداخل والخارج أن يكتشفوا دلائل جدلية في مسيرة السلطة الفاشية.

لقد بدأ شك السلطة الثقافية الفاشية بفكر وتاريخ وعلاقات عزيز السيد جاسم بعد تأليفه كتابه عن علي أبن أبي طالب معتبرا إياه منهجا لبلوغ فكرة الحق في الإمامة والخلافة. لم يرق مضمون الكتاب لرقابة وزارة الإعلام فمنعت نشره. لجأ المؤلف إلى دار نشر لبنانية مرحبة به كموقف من مواقف الإنسان من الحرية. ما أن تم توزيع الكتاب في ( خارج ) العراق – وليس في داخله - حتى أنكشف العقل الثقافي العدواني في مستوى وزارة الإعلام العراقية أولا وفي مستوى دائرة صدام حسين أيضا. هاج وماج هذا العقل بوجه كتاب عن عليّ وبوجه مؤلفه . أتم صورة لهذا الهياج وأكملها تجلت باعتقال عزيز السيد جاسم بأمر مباشر من الرئيس صدام حسين نفسه.

سارت عملية الاعتقال مسارا مختلفا عن جميع صور الاعتقالات الأخرى لمثقفين وناس اعتياديين آخرين.

كان وجود عزيز السيد جاسم بغرفة انفرادية في سجن مديرية الأمن العامة مشروطا بشروط عقلية و " ثقافية " محددة بصورة فاشية قاسية .. فبأمر خاص من رئيس الدولة لا يطلق سراح عزيز السيد جاسم إلا بشرط إنجاز خمسة كتب : الأربعة الأولى عن الخلفاء الراشدين والخامس عن صدام حسين ومن غير إنجاز هذا الشرط لا ينال عزيز حريته بعد الآن بل ينال حقيقة موته داخل السجن وهو المصاب بمرض القلب.

لا يدري أحد كيف سارت حياته داخل السجن وهو المشروط عقليا. لا شك أنه واجه خلال أربعة شهور داخل زنزانته صور العقل المزيف وصور القسر والإرهاب وصور الدعوات الكاذبة إلى الوحدة و الحرية والاشتراكية وصور شعارات العدوان على إيران وحرق كردستان وشعبها بالسلاح وآخرها السلاح الكيماوي، ولم يجد، كما يبدو، مناص غير الموافقة على الشرط، فأنجز خمسة كتب عن أبي بكر الصديق وعمر أبن الخطاب وعثمان بن عفان وكتاب جديد عن علي ابن أبى طالب وكان الكتاب الخامس وهو أكبرها جميعا وأرقاها ورقا وطباعة بعنوان ( صدام حسين عملاق الرافدين )..

أطلق سراحه بعقل متمزق لكنه لم يسلم من الموت الذي جاء إليه بعد انتفاضة 1991 حين أوكل له ضميره التصريح ببعض كلمات قالها – لم يكتبها – بحق فعلة غزو الكويت.

أليس جديرا بالباحث ان ينظر من هذه الزاوية إلى حال الثقافة العراقية في زمن السلطة الفاشية..؟ إن فاضل ثامر بالذات يملك قدراته الخاصة على استجلاء الحقائق واكتشاف حقيقة أن نظام صدام حسين ونظامه هو مصدر جميع الشرور والآثام التي لحقت بالثقافة والمثقفين العراقيين الذين لم يجدوا أمامهم غير طريق التنازل عن " مكان " وطنهم والبحث عن " مكان " آمن لهم ولثقافة وطنهم.

لا بد من النظر إلى انقسام روح المثقف العراقي في تلك " المرحلة السوداء " إلى نصفين.. النصف الأول بأكثرية صامتة لا يملك غير النظر إلى خطايا النظام، والآخر يتمثل بمعاناة آلام الغربة ونتائجها.

وقد يكون من الأنسب فحص أسباب سقوط الثقافة الفاشية ودراسة نتائجها ومعرفة آثارها بدلا من تزكيتها حتى ولو جزئيا ومجاذبة مثقفي الخارج بظلال كما لو كانوا غرباء مدعوين لـ" التواصل والتعاون " كما جاء في كلام فاضل ثامر .

تلك دعوتي إلى الصديق فاضل ثامر ليبلغ الحق بمنهجه النقدي فالذهن العظيم هو عظيم بتجربته أولاً..