من المفترض أن يلعب المثقف دوراً اساساً في التنمية البشرية من منطلق قدرته على التنظير ووضع الخطط والاستراتيجيات، وفق نظرته الأكثر اتساعاً، ومن خلال اتصاله المباشر مع الشريحة الأكبر من الناس. هذه هي الصورة المثالية للمثقف الرسولي، الذي يكون من الناس وإليهم، الملتزم، المؤمن بمبدأ لا يتغير تبعاً للظرف والهوى، بل صاحب عقيدة مرتكزة على تجربة ودراية، لا تخالطها المصالح الذاتية، فهو من يضيء شمعة يهتدي بها الناس في الطريق الحالك الظلام. فأين المثقف العربي من هذه الصورة؟

كثير من الإيديولوجيات التي سادت الفكر العربي منذ بدايات اتصال المثقف بالخارج، جاءت لهدف التغيير، تغيير الوضع المأزوم سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وكانت تركز على الجانب الفكري لعالم عربي تتسيده الأمية والبداوة، لكن هذه الإيديولوجيات بمعظمها تحولت إلى واقع سياسي، وتحولت إلى ذرائع لتسلط شرائح من العسكريين والمدنيين على مقاليد الحكم، ولتبرر القمع رغم إنها كانت ترفع شعار الشعب، وهذا ما أسهم في تردي الوضع في الوطن العربي الذي بقي بين مطرقة هذه الأيديولوجيات المستوردة والبعيدة كل البعد عن الفكر العربي، وسندان الدول الاستعمارية التي رأت في الدول العربية لقمة سائغة وسط التأزم السائد، وبالتالي يكون المثقف هو من هيأ المناخ لهكذا وضع.

وبالنظر إلى حال المثقف العربي في وقتنا الحالي الذي يعيش في حالة من الازدواجية بين شعاراته المكرورة بدعمه للشعب والبوليتاريا، والتكنوقراط في وجه التسلط السياسي، وبين بحثه الحثيث عن المصلحة المادية الشخصية التي تتعارض مع الفكر الذي يروج له، فمثقف فاحش الغنى يرتدي ملابس بما قيمته العشرة آلاف دولار من أشهر بيوت الأزياء الأوربية، تكفي لعشاء ألف أسرة، أو عشرات الآلاف من أرغفة الخبز التي تسد جوع المساكين، لا يمكن أن يقنعني نتاجه الأدبي الذي ينضح بالتباكي على هم الناس الفقراء، والصيادين والفلاحين، وأنه للناس ومنهم، والمثقف الذي يتباكى على مجاهد خطفته يد القمع الصهيونية، ويسوق الخبر والدموع تبلل وجهه، وبعد ساعات يتوسط دائرة طرب رخيص، لا يمكن ان يقنعني بما يردد في نتاجه الثقافي من شعارات إذ تتعارض مع الواقع، فلا يتطابق هذا النوع من المثقفين مع أبي ذر مثلاً، الذي كان يردد ( عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهراً سيفه)، ولم يكن أبو ذر يسبح على شواطيء جزر الكناري او يصطاف في سويسرا، بل عرضته قناعاته للنفي، بينما المثقف الحالي الذي تغيرت عنده المعايير وباتت تتوازى مع مصالحه في تعامله مع الأعداء المفترضين ( المتسلطين)، فها هو يتصالح معهم ويروج لهم ويلمع من صورهم في ما يمتلك من مساحات توفرت له على اساس الشعارات التي كان يرفعها، فكثير من المثقفين الذين كانوا يعتبرون الخليج بئر نفط وخيمة وجمل، وعقلية بدوية غير صالحة للتعديل، هاهم تتغير اعتباراتهم حسب قيمة الشيك المدفوع، للمشاركة في مهرجان ثقافي حكومي، ولن تدفعهم القيمة الفكرية لمهرجان شعبي محدود الميزانية، للمشاركة. وبالرغم فإنهم يتحولون إلى كائنات أرفع من النقد ويجيشون المريدين للذود عنهم وصد كل موجة تتقاطع معهم. هكذا مثقفين لا يمكن أن يكونوا امتداداً للأنبياء والرسل الذين جاءوا بعقيدة التغيير ولم تثنهم عنها لا سلطة ولا مال.

وبعيداً عن الدافع المادي المصلحي لحراكهم الثقافي، فترى أفكارهم عرضة للتغير والتبدل وفقاً لاستلزامات الواقع، دون النظر بعمق بمدى مطابقة هذه الرؤى للفكر السليم الواعي، فشخصية مثل صدام حسين لم يكن إفرازاً لحالة سياسية بقدر ما كان نتاجاً لتغذية المثقف العربي وتضخيمه لذات صدام، فمنذ الانقلاب البعثي على حكومة عبد الكريم قاسم، بدأ المثقفون ومن كونها ذات معالم قومية باعتناق الفكر البعثي والترويج له، كأنه العلاج الناجع لمعضلة الأمة العربية وخروجها من نفقها المظلم، وظهر هذا الدعم جلياً إثر خوضه للحرب مع إيران، فاسهب المثقفون في إطلاق الصفات والمسميات كونه العربي البطل الذي يحميهم من المد المجوسي الفارسي، فصار هذا القاتل حارساً للبوابة الشرقية، مما ضخم ذاته التي تفردت وحول الحزب والعراق برمته إلى صدام، ورغم الجرائم الفظيعة التي ارتكبها بحق الشعب العراقي بكل أطيافه السياسية والعرقية والدينية، فقد تغاضى المثقف العربي عن هذه الشريحة من الناس الذين أدعى انتماءه لهم، وأخذ يغذي اكثر فأكثر غرور القائد الضرورة فافرد له الدوواين الشعرية والروايات والقصص، واعطاه من النعوت ما ليست لإله.

وبعد ارتكابه لحماقة غزو الكويت، تبدلت بوصلة الرؤية فصار صدام طاغية وسبباً في شق الصف العربي، وضرراً على القومية العربية، وسبباً في كل الإخفاقات التي مني بها العرب بعد 1990، وما أن تحركت أمريكا والتي سهلت له المرور إلى الكويت للتدخل في إخراجه منها ، حتى جن جنون البوصلة فلم تعد الرؤية واضحة.....

وتتغير معايير المثقف العربي بعد العدوان الامريكي على العراق الذي افرز عن سقوط نظام الطاغية، وجره مقيداً من حفرة إلى زنزانة أمريكية، وكان هذا المشهد قد هز كيان العروبيين والمؤدلجين، وكأن طامة قد نزلت على العرب، وأفردوا المقالات التي تدعو إلى إنقاذه من الأسر وتشكيل هيئة دفاع عنه في المحكمة، متناسين تماماً كل الجرائم الجلية التي ارتكبها واعترفوا بها حال انقلب عليهم وغزا الكويت، ضاربين بعرض الحائط مشاعر الملايين من العراقيين المهجرين، والذين عاشوا تحت وطأة نظامه، وكأن كل الدماء البريئة والبيوت التي حولها إلى مآتم، لا تمت بصلة للشريحة التي آمنوا بها ودعموها بشعاراتهم الجوفاء، وكأنه قد عاد قائداً ضرورة، سيصلح ما انكسر من حال، وكأن وهم الوحدة العربية سيتحقق على يديه الملطخة بوحل الذل.

هذه آلية هي التفكير عند المثقف العربي الذي تتغير معالمه وفق المصالح الذاتية، او الإيديولوجية، التي حولت العربي إلى آلة تلقي لطرازات تفكير وتشكل لا صلة لها بهويتنا المشرقية التي غابت في الزحمة، ويجب أن يحمل المثقف فكراً يجوز بنا هذا النفق المظلم الطويل، حتى لا يكرس هذا الخراب المضني.

[email protected]