في الشهر الجاري بدأت قناة (العربية) تحثُّ خطاها نحو الجديد من برامجها الأسبوعية، وبالأمس الأول أتحفت مشاهديها ببرنامج جديد اسمه (استفتاء على الهواء)، وهو برنامج تلفا ـ إذاعي يتوخى تقديم استطلاع لرأي الجمهور في قضية ما، وكان موضوع حلقة السبت الماضي (ظاهرة الخطف وطبيعة تعامل الحكومات معها)، وبلا ريب أنها موضوعة ساخنة، خصوصا بعد أن أخذت هذه القضية أبعادا ساخرة ومأساوية معا سواء في العراق أم في روسيا، وبلا ريب أيضا أن برامج الاستطلاع هي واحدة من البرامج المهمة في حياة الشعوب المتقدمة؛ فجل الحكومات ومراكز الأبحاث تعتمد على بعض نتائجها في رسم سياسات التعامل مع الرأي العام، أما في الوطن العربي فكثيرا ما تحفتنا الفضائيات المتلفزة ببرامج استطلاعات عن الفنانين العرب، عن المطربات والمطربين، وعن الممثلات والممثلين، ولا بأس فلهؤلاء دورهم في المجتمع، ولكن للأسف جُل أدوارهم باتت مؤذية على المجتمع ولا أقول كل؛ فمنهم الغث ومنهم السمين! وللإنصاف أقول هناك بعض البرامج السياسية نزل عند رأي الجمهور جزئيا لكنه النزول المشوب بلوثة الأيديولوجية التي تؤمن بها القناة، نزول مُدعم بما تراه هيئة التحرير من أهمية في استدراج بعض الضيوف أو المتصلين من الحبايب والأصدقاء، لكننا مع برنامج (استفتاء على الهواء) في العربية في وضع أحسبه يختلف، واعتقد، مؤقتا، إننا بإزاء شفافية إعلامية مغايرة؛ فالناس الذين شاركوا في البرنامج بأصواتهم وبآرائهم هم من دون لبس في الانتقاء أو اختيار مسبَّق أو حتى رعاية من هيئة تحرير البرنامج لفتح البرنامج لأفراد دون غيرهم، وتلك حتى الآن إحدى فضائل البرنامج، وكتعبير رمزي عن هذه الشفافية فتح البرنامج عدسته على (مركز الرصد) التي كانت بإدارة الإذاعية، خفيفة الظل، (سميرة ازغيدر) التي قدَّمت خُلاصات رَقَمية بين حين وآخر من وقت البرنامج لتكون حافزا على مزيد مشاركات من المشاهدين.
ومع أن الإذاعي الصبور (أحمد حسني) قد أبدى مرونة مع المتصلين أو المستطلعة آراؤهم من المشاهدين إلا أن هذا البرنامج كشف عن أميّة يعانيها الإعلام العربي في برامج من هذا النوع، هذه الأميّة التي غالبا ما يكرِّسها الجمهور العربي، فهو لا يجيد التعامل مع تقاليد برامج من هذا النوع؛ فلا احترام للزمن التلفزي، ولا تقدير لما يريد منه الاستطلاع، ولا فهم كامل لموضوعة الحلقة، ناهيك عن تشابك الأفكار، بل وأحيانا تناقضها في الجُمل التي يصيرها المُستطلع رأيه في كلامه خلال المدة الزمنية القصيرة والنادرة الممنوحة له في البرنامج، فكم هي مسئولية الإعلام العربي كبيرة لإرساء تقاليد التعامل مع برامج من هذا النوع؟ وكم يحتاج المشاهد العربي إلى برامج من هذا النوع ليتعلَّم حرفة احترام الزمن التلفزي، وطريقة ضغط الأفكار في لحظات زمنية قليلة من دون الخروج على الموضوع؟ بلا شك سنحتاج إلى برامج كثيرة، وسنتحاج إلى إعلاميين صبورين على مشاهد عربي متعطش إلى الكلام أمام ذاته (الرأي العام) في زمن عاش فيه عقود وعقود من القمع والإسكات ولجم حرية التعبير عن الرأي!! والأمنية أن يكون (استفتاء على الهواء) الوردة التي تزرعها (العربية) في خرائب الإعلام العربي اللاجمة لصوت الإنسان العربي المقموع.
من جهة، وقد يبدو الأمر داخليا يهمُّ (العربية) ذاتها، سؤال مهم يتبادر إلى الأذهان هو: من يقطف ثمار هذا البرنامج؟ بالتأكيد قطف المشاهد ثمار البرنامج عندما أقدم الأخير على تقديم خلاصة رَقَمية لنتائج الاستطلاع، وبالتأكيد أن كذا عدد من مراكز البحوث المعنية في تل أبيب والقاهرة وبيروت وبغداد وطهران وموسكو وواشنطن وباريس، ودوائر المخابرات في هذه الدول قد قطفت الثمرة الرَقَمية التي انتهى إليها البرنامج، ولكن ماذا بعد ذلك؟ فهذه المؤسسات ستحوِّل الخُلاصة الرَقَمية إلى معامل التحليل السياسي والأمني. أما المُشاهد فسيحوِّلها إلى قناعة للحديث في المقاهي والجلسات الخاصة، بالنسبة لي كباحث متواضع سأحوِّل الخُلاصة الرَقَمية إلى ثابت معلوماتي للبحث والدراسة والاستنتاج، بيد أن الثقة المهزوزة بين الباحث العربي والإعلام العربي المتلفز غالبا ما تجعل الباحث العربي يسخر من خُلاصات رَقَمية من هذا النوع؛ لأنه ما زال يعتقد أن كل شيء يتم طبخه في التلفازات العربية من وراء الكواليس، ومعنى ذلك أن إعلامنا بحاجة إلى تعزيز الثقة بينه والباحث العربي، ومنه السياسي والاقتصادي والاستراتيجي، ولكن كيف الحال وإن أمام قناة (العربية) فرصة كبيرة لوضع الخُلاصة الرَقمية على محك الاختبار بين الباحثين والخبراء والمتخصصين؟ أمام (العربية) فرصة لأن تقطف هي نفسها الثمار، وتعيد إنتاجها من جديد، فماذا سيجري لو تنقذ (العربية) بعض برامجها التي أخذت تترمَّل بسبب ما: (الإعداد، الإخراج، اختيار الموضوع، اختيار الضيوف، الرؤية الفكرية، الرؤية الميديائية)؟ ماذا سيجري لو أخذ برنامج (بالمرصاد) خلاصة برنامج (استفتاء على الهواء) لطرحة على مائدته الحوارية، ولفتح آفاق الخلاصة، وللكشف عن أعطال الرؤية التي يفكِّر فيها الجمهور أو النخبة من المتخصصين والخبراء لنرى أيهما الأكثر ارتباطا بهموم الواقع ومجرياته، بهموم الإنسان العربي وآلامه؟
بلا شك أن خطوةً من هذا النوع ستفتح البُعد الأُفقي في برامج (العربية) الأسبوعية، وتغادر البعد الرأس المهيمن على إعلامنا التلفزي، لا سيما وأن لقناة (العربية) تجربة ناجحة في بعض برامجها؛ وذلك عندما كرست بُعداً أُفقيا وتجاوريّا بين برنامج (الطبعة الأخيرة) العصي على التجدُّد، والبرنامج المتجدد دائما (السلطة الرابعة)، فكلاهما يقدِّم لوحة متكاملة عن شئون الصحافة في العالم بما فيه الوطن العربي، وكلاهما يصل الجغرافيا ببعضها، والرؤى رغم اختلافها، فلمَ لا تصل العربية (استفتاء على الهواء) ببرامج مثل (بالمرصاد)، و(من العراق)، و(نقطة نظام) بل لمَ لا نقود الخُلاصة الرَقَمية إلى برنامج (الساعة الثامنة) مثلا؟ وبالتالي لمَ لا يثق إعلامنا المرئي بخُلاصاته الذاتية حتى يتمكَّن من كسب ثقة الجمهور إلى ما يصل إليه الإعلام ذاته من خُلاصات رَقَمية تخص الإنسان العربي قبل غيره؟
كاتب عراقي ـ الإمارات
[email protected]
التعليقات