لا بد أولا وقبل كل شيء من تهنئة الشعب الفلسطيني على هذا الإنجاز الديموقراطي الجديد المتثل في المشاركة العالية في الانتخابات المحلية إذ بلغت أكثر من 85%. وبعد إعلان نتائج الأنتخابات البلدية في قطاع غزة بصورة رسمية والتي فاقت فيها نسبة المشاركة 85% وكان فوز حماس المؤزر فيها بنسبة أكثر من 65% من مقاعد المجالس البلدية، دبجت المقالات ذات العناوين المستفزة التي ترى فوز حماس إنذارا للقوى السياسية الأخرى وعناوين أخرى تضع مستقبل فتح على المحك. مما دفع البعض من "فتح" أن يفتح النار على المحتفلين بهذا الفوز مع العلم أن "فتح" قبل أسابيع في رام الله خرجت بالآلاف فرحا لفوز (أبي مازن). فلماذا هذه الحمى المتصاعدة نتيجة فوز حماس؟ وهل كان فوزها مفاجأة؟ ولماذا فازت حماس هذا الفوز الكبير؟ وماذا يعني ذلك للخريطة السياسية الفلسطينية؟

إذا أردنا أن نكون ديموقراطيين وأننا اتخذنا القرار التاريخي للتحول إلى مجتمع ديموقراطي يجب أن نعترف بالنتائج المترتبة على ذلك دون استعداء القوى على بعضها البعض ودون استفزاز معنوي أو مادي كما حصل في وسط غزة البارحة من اشتباك وقع فيه الجرحى الذي لن يفهمه الشعب الفلسطيني إلا أنه استفزاز واعتداء صارخ على حرية التعبير. إذن فلنكف عن هذه الهرطقات والشعارات البالية التي لم تجلب لنا إلا الويلات في السابق. وبدلا من ذلك على القوى المتضررة أن تدرس أوضاعها جيدا وتأخذ العبر والدروس مما حصل في الانتخابات المحلية، التي كانت ديموقراطية وشفافة وحرة بكل المعايير الرسمية وغير الرسمية، كي يستفيدوا من ذلك في الانتخابات القادمة وهي التي ستقرر المسيرة السياسية لسنوات عدة.

لم يكن في الواقع فوز حماس مفاجئا في غزة وخاصة الكل كان يتحدث عن تواجدها ونفوذها الكبيرين بين صفوف الشعب الفلسطيني المسحوق في غزة لأسباب متنوعة سنتطرق إليها فيما بعد. ولكن المفاجأة هي الفوز الكبير الذي حظيت به خلال الانتخابات المحلية وهذا ما أثار حفيظة القوى الأخرى.

أما نفوذ حماس وشعبيتها المتغلغلة في أوساط الشعب في غزة فيرجع إلى أمور عديدة. لعل أولها هو الحضور الاجتماعي الذي يتمثل في مد يد العون إلى المحتاجين والمرضى عبر مؤسسات الجمعيات خيرية والمستوصفات والعيادات الصحية التي تقدم العلاج المجاني وتثقيف الشباب عبر النوادي الثقافية والرياضية والمنابر الإعلامية المختلفة. مارست ذلك كما يروي شهود العيان بكل اقتدار وشفافية ودون محسوبيات أو محاباة البعض على البعض الآخر. ولم تكن حماس الوحيدة في هذا المجال وإنما كانت فتح أيضا تمارس دورها أيضا عبر الهلال الأحمر وصامد وجمعية أسر الشهداء والإعلام المركزي. ولكن شاب هذا العمل، بغض النظر عن حجمه، الفساد والمحسوبية والواسطة مما دفع عامة الناس اللجوء إلى حماس ومؤسساتها للحصول على العون الذي لم يستطيعوا الحصول عليه من مؤسسات فتح وخاصة بعد اتفاقيات أوسلو. وثاني هذه الأسباب هو تبني حماس للخطاب الديني في تعاملها على جميع الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبلا شك أن الخطاب الديني كان العامل المؤثر في اجتذاب آلاف الأنصار إلى حركة حماس وخاصة في فترة أطلق عليها "الصحوة الإسلامية." وثالث هذه العوامل هو رفع شعار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال في الوقت الذي أسقطت فتح الكفاح المسلح وتبنت السلام كخيار استراتيجي وما تبع ذلك من اتفاقيات أوسلو ودخول السلطة إلى الأراضي الفلسطينية المقيدة بأغلال أوسلو. وقد يتساءل أحد لقد كانت الانتفاضة الثانية وأخذت فتح زمام المبادرة في المقاومة المسلحة عبر كتائب شهداء الأقصى. ولكن الملاحظ لكل مراقب أن هناك تناقض بين ما كانت تراه كتائب شهداء الأقصى وبين أصحاب القرار في فتح وقيادييها. مما جعل من كتائب شهداء الأقصى جسما مختلفا عن فتح تبين ذلك عبر تصرفات وتصريحات قياديي فتح وكتائب الأقصى. ورابع هذه العوامل هو صمود حركة حماس أمام الهجمة الصهيونية الشرسة للقضاء على الانتفاضة. لعل تعرض قيادة حماس للاغتيالات المتمثلة في اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي والمهندس إسماعيل أبو شنب أضفى على حركة حماس المصداقية والثبات والإيمان بالقضية في الشعار والممارسة. وهذا ما ظهر في التفاف الجماهير حول حركة حماس في جميع مراحل الاعتداءات الوحشية على الشعب الفلسطيني. وأخيرا عزوف حركة حماس عن السلطة. فهي لم تطرح نفسها يوما بديلا عن السلطة أو حتى المشاركة في السلطة. وبهذا تكون قد قرنت القول بالفعل أي نضالها ومقاومتها الاحتلال هو خالص من أجل التحرير والاستقلال ولا مطامع سياسية لها خلال المرحلة التي خلت. وهذا مما زاد في مصداقيتها بين أنصارها وجمهورها.

أما فوز حماس الكبير فله تبعات ومسؤوليات وإرهاصات على الساحة الفلسطينية. بالنسبة لحماس تكون قد حازت على تفويض كامل لبرنامجها السياسي المتمثل في مقاومة الاحتلال وموقفها من جملة الاتفاقيات السابقة والمزمع عقدها مع العدو الصهيوني. بمعنى أن أي اتفاق لا ترضى عنه حماس ومن معها من القوى الإسلامية والوطنية لن يمر. وكذلك سيكون لحماس شأن كبير في دعم اجتثاث الفساد وتثبيت دعائم الأصلاح كما يراه الشعب الفلسطيني. وكذلك هذا الفوز يلقي على الحركة مسؤولية خوض الانتخابات التشريعية وما فوزها في الانتخابات المحلية إلا مؤشر على فوزها في الانتخابات القادمة. وقد يوظف هذا الفوز في حفظ التوازن على الساحة السياسية الفلسطينية وتشارك في صنع القرار الذي يحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية وعدم التخلي أو التنازل عن أي من الثوابت الفلسطينية. ويجب كذلك عدم الاستقواء بهذا الفوز على القوى الأخرى بل يجب توظيفه في صالح القضية والشعب وليكن شعار (الدم الفلسطيني خط أحمر) هو الواقع والدائم أيضا.

أما بالنسبة للقوى الأخرى وخاصة "فتح" فليكن فوز حماس عبرة لهم. وبدلا من ندب الحظ وتوجيه الإنذارات والاشتباكات مع الجماهير، يجب دراسة ما حصل جديا وتفصيليا. ما الذي حصل كي تتراجع شعبية هذه القوى؟ ما الذي فعلته حماس ولم تفعله القوى الأخرى؟ إن نظرة جدية وحقيقية إلى السياسات التي تنتهجها هذه القوى والأساليب المتبعة في ذلك قطعا ستضع الإصبع على مواضع الخلل. إن تجربة الشعب الفلسطيني بمعظمه مع السلطة الوطنية لم تكن حميدة. ولا يخفى على أحد، والآن تتكشف الأمور في أجلى صورها، كمية الفساد الذي حصل والحاصل حاليا في صفوف السلطة. ومع الأسف الشديد أن من يفكر في السلطة يقحم كل "فتح" في مؤسساتها. إن الكثير من فتح بريئون مما حصل ويحصل في السلطة. ولكن الجمهور الفلسطيني لا يفرق، مع الأسف، بين "فتح" الحركة والسلطة. ومن الطبيعي أن يلجأ الأفراد إلى بدائل أخرى عند توفرها.

وعلى جميع القوى أيضا أن تدرك أن هناك جزءا كبيرا من الشعب الفلسطيني صامت لم يقل كلمته بعد. وعلى القوى ذاتها أن تعمل على تفعيل الجماهير الصامتة عبر البرامج السياسية المعبرة عن طموحات هذا الشعب الصامد وعبر القضاء على الفساد والفاسدين والمفسدين وعبر الحرص على ألاّ تعطي نصرا للسفاح شارون وزبانيته الصهاينة من أي نوع كان. عندئذ فقط، تستطيع هذه القوى أن تستعيد ثقة الشعب الفلسطيني بها في الانتخابات التشريعية الحرة الشفافة والديموقراطية.

[email protected]