بعد خَضٍّ ورَضٍّ وقيام وقعود ومفاوضات وإعداد وتصريحات من هنا وهناك وصل شارون السفاح إلى شرم الشيخ (سيء الصيت لما شهده من مؤتمرات فاشلة لا تساوي حبر البيانات التي صدرت عنها).وعلى الرغم من أن ابتعاد الأمريكيين ظاهريا عن المؤتمر وكأن الأمر لا يعنيهم إلاّ أنه من غير المعقول ولا المنطقي أن ينعقد مؤتمر يخصهم ويخص حليفهم الاستراتيجي دون أن يكونوا المايسترو الحقيقي له أو أن يباركوه على الأقل. وليس من المعقول أن يبادر رئيس أكبر دولة عربية بالدعوة لمثل هذا المؤتمر وهو الحليف القوي للأمريكيين دون علمهم وخاصة إذا علمنا أنه يخطط لإعادة انتخابه لفترة رئاسية أخرى وأن مثل انعقاد هذا المؤتمر هو بمثابة الضوء الأخضر للتجديد لولاية خامسة. فلم لا يكون هذا المؤتمر مجرد مناورات سياسية، والغرض منها إرغام مجلس الشعب المصري على ضرورة التجديد للرئيس لست سنوات أخرى؟ ولكن مهما كانت الأسباب التي تكمن وراء انعقاد هذا المؤتمر عربيا وأمريكيا إلا أنه تم انعقاده وبالتالي فلننظر إلى نتائجه ونحلل حيثياته وبياناته بتجرد وحيادية كاملة.

لقد حذرت من الإفراط في التفاؤل بما يمكن أن يسفر عنه هذا المؤتمر بدعوى أن هناك متغيرات شهدتها المنطقة وجعلت الفرصة مواتية للتحرك في اتجاه القمم ولكن مشروعات شارون ليست من بين تلك المتغيرات حتما بدليل ما حصل قبل وأثناء وبعد المؤتمر. لقد شعرت بالغثيان عندما رأيت شارون مصافحا ومتحدثا ومتنقلا بين ردهات المؤتمر ليس لشخصه هو ولكن لإدراكي أن هناك من يثق به ويأخذ كلامه على محمل الجد وأن هناك حقا صفحة جديدة فتحت على صعيد "السلام". لقد جاء الفلسطينيون إلى المؤتمر والأمل يحدوهم في تحقيق الانسحاب من المدن الفلسطينية،والإفراج عن جميع الأسرى وخاصة أسرى ما قبل أوسلو، وإعادة المبعدين إلى ذويهم، ووقف الاعتقالات والاغتيالات والانتهاكات والتدمير وملاحقة المقاومين وبالإضافة إلى ذلك طرح جميع محاور القضية على الطاولة ومطالبة "إسرائيل" باتخاذ الخطوات الكفيلة ببدء مرحلة جدية من تطبيق "خارطة الطريق". فماذا تحقق من كل ذلك في المؤتمر؟

إن المراقب لتشكيلات الوفود يكتشف عدم جدية "إسرائيل" بالقمة ولا بأصحاب القمة. وكما يقال "يقرأ المكتوب من عنوانه". لقد رافق شارون وفد من مستشاريه الأمنيين فقط ولم يصحبه أي وزير في وزرائه لا من العمل ولا من الليكود وحتى لوحظ غياب وزير الخارجية نفسه كي لا تثار اي قضايا سياسية أثناء المؤتمر. وأما عربنا المستعربة فالوفود مستوفية من القمة إلى القاع ابتداء من الملك\الرئيس إلى رئيس التشريفات. فما معنى ذلك؟

من المتعارف عليه في أعراف المؤتمرات والاجتماعات، صغرت أم كبرت، أن يكون هناك جدول أعمال يتم بحثه وتداوله وكذلك يتم صياغة بيان مشترك يعلن للملأ ما تم الاتفاق عليه مع آليات تنفيذ ما اتفق عليه. ولكن في هذا المؤتمر العتيد لم نر جدول أعمال ولا ما يحزنون وكذلك لم يصدر أي بيان مشترك وتم الاكتفاء بكلمات رؤساء الوفود وهذا يعني أنه لا يوجد التزام مكتوب وموثق بما تم الاتفاق عليه إن وجد. فجاء التزام "إسرائيل" الشفوي الوحيد بعبارات مبهمة بوقف العمليات العسكرية (بصورة مؤقتة حتى يتم نزع سلاح المقاومة والقضاء على بنيتها التحتية) مقابل توقف عنف الفلسطينيين. لاحط هنا استخدام المصطلحات التي تجرم الفلسطينيين وتوحي بأن "إسرائيل" كانت تدافع عن نفسها. ومن هنا كان الفلسطينيون في واد وشارون في واد آخر حيث أنه ماض في مشروعه دون توقف ناهيك عن شهود الزور من العربان (بضم العين وتسكين الراء).
لقد حقق شارون مكاسب كثيرة من وراء هذا المؤتمر:

لها، إعادة السفيرين الأردني والمصري إلى تل أبيب وإعادة الدفء للعلاقات بين الكيان الصهيوني من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى وقد لبى الرئيس المصري بكل سرور دعوة شارون لزيارة الكيان الصهيوني. لقد أعلن وزيرا خارجية مصر والأردن عن هذه الخطوة حتى قبل انفضاض المؤتمر وكأنهم كانوا يسابقون الزمن خوفا من أن يأتيهم شارون بمفاجآت لا قبل لهم بها.

ثانيا، نجح شارون في تجيير المؤتمر لما يريده هو فكانت القضية الأمنية هي الأهم وهي الحاضرة وهي التي أخذت الحيّز الأكبر في التزاماته.

ثالثا، إعادة تأهيل شارون كرجل سلام مما سيفتح الباب أمام "إسرائيل" واسعا لإقامة العلاقات العلنية مع معظم الدول العربية والتطبيع في جيمع المجالات حيث لم تغب هذه الفكرة عن شارون حيث قالها صراحة لا لبس فيها أنه يتطلع إلى إقامة علاقات كاملة سياسية واقتصادية وأمنية لمحاربة الأصولية الإسلامية. ولقد بدأت مثل هذه المبادرات حتى قبل انعقاد القمة فورد أن وفدا صهيونيا أجرى محادثات مع مسؤولين في أبوظبي ودبي من أجل تدشين علاقات تجارية.

رابعا، استعادة التناغم والتواؤم والتوافق بين الموقفين الأمريكي والصهيوني على أن القضية الأمنية هي أولى أولوياتهما في المرحلة الراهنة وذلك قبل القمة حيث عيّنت (كوندي) منسقا أمنيا يشرف على الخطوات والتحضيرات الأمنية على الجانب الفلسطيني وبعد القمة صرحت من باريس أن على السلطة الفلسطينية أن تقوم بضرب فصائل المقاومة والقضاء على بنيتها التحتية وأن وقف إطلاق النار لا يكفي كما أراد وصرح شارون تماما.

خامسا، سيتيح المؤتمر لأمريكا التفرغ لمشروعها في العراق لتسوي الأمور بهدوء ودون إزعاج في فلسطين وكما يقول المثل:"خلا الميدان لحميدان." وتوحي لبعض لدول العربية أنها وسيط نزيه وهكذا تكون أمريكا قد أحرزت نجاحا في إدارة الأزمة.

كان من المفروض ألا ينعقد مؤتمر تأهيل للسفاحين وللعلاقات العامة قبل أن تتم الخطوات الأولية التي أمل الفلسطينيون في تحقيقها. أما الآن وبعد انفضاض السامر فلن يكون شارون ملزما بتحقيق أي شيء ملموس لدى الشعب الفلسطيني. وسيقول دعونا نجلس ونتفاوض سنة.. سنتان.. ثلاثة.. عشرة .... كان على الفلسطينيين ألاّ يذهبوا قبل تحقيق بعض الخطوات الملموسة على الأرض، على الأقل، التي أعلنوا موافقة الإسرائلييين عليها ولم يكتفوا بذلك شفويا. كيف يرتضون دخول شارون إلى الفضاء العالمي والعربي من أوسع الأبواب دون أن يعطي شيئا؟ لقد أتى شارون إلى شرم الشيخ ومشروعه متواصل المتمثل في:
-استمرار بناء جدار الفصل العنصري بوتيرة متسارعة في مناطق اسكاكا وسلفيت وبعمق 22 كم داخل اراضي الضفة الغربية، وكذلك في مناطق القدس وبيت لحم والخليل.
-الاعلان عن تطبيق قانون أملاك الغائبين على القدس الشرقية، وهدم حي المنطار في صور باهر.
-تحويل حاجز قلنديا الى نقطة حدود، واستكمال تطويق القدس بجدار الفصل العنصري البشع فيما يستهدف تكريس واقع ضم القدس من جانب، والمضي في تهويدها من جانب آخر.
-استمرار أعمال الاجتياحات والاعتقالات وقتل الأطفال كما حدث في رفح للطفلة (نوران الديب) التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، واستمرار التنكيل والإهانة النفسية والجسدية للناس على اكثر من سبعمئة حاجز في الاراضي المحتلة.
-استمرار التوسع والتمدد في الاستيطان وفي إنشاء الطرق الالتفافية وقضم ومصادرة الأراضي في ظل اتفاقيات أمنية قادمة.
إن مشاركة شارون، الذي تعتبره الشعوب العربية سفاحا ومصاص دماء الفلسطينيين، في القمة الرباعية تعد انتصاراً عظيماً له. إن مشاركة شارون في القمة الرباعية تثبت صواب، في نظر الصهاينة، سياسته وهي ثمرة عناده وإصراره على التمسك بقناعاته.
ولا شك أن هذه القمة ناجمة عن ضغوط أمريكية وعربية قوية على الفلسطنيين لإغلاق الملف الفلسطيني استثماراً لما يسمى بالفرصة التاريخية التي لاحت بعد التخلص من الرئيس ياسر عرفات. وكل يضغط لمصلحته فالعرب يريدون التخلص من هذا الصداع المزمن لهم والتقرب والزلفى للولايات المتحدة الأمريكية لإعادة تأهيل أنظمتها والبقاء في مراكز الحكم والأمريكيون يضغطون استجابة للمصالح الاستراتيجية التي تربطهم مع الكيان الصهيوني علاوة على رغبتهم في التهدئة في المنطقة وللتركيز كما سلف القول على إدارة ورطتها في العراق وللتعامل مع الملف النووي الإيراني ولا يتحقق ذلك إلاّ بإطلاق ما يسمى بعملية "سلام" قد تدوم إلى عشرات السنين.
ولا شك أيضا أن الشعب الفلسطيني تواق إلى السلام الحقيقي والعادل وتواق إلى إنهاء العدوان الصهيوني بكل أشكاله وهو بحاجة إلى فترة يلتقط فيها الأنفاس إلا أنه بالتأكيد وبالقطع لا يقبل الاستسلام لإرادة الكيان الصهيوني والانصياع للإملاءات الصهيونية. ولهذا وذاك ليس المطلوب المفاوضات فقط وإنما المحافظة على وتيرة الكفاح والنضال وعلى الصمود والحفاظ على الوحدة الوطنية حتى تؤدي المفاوضات إلى نتائج ملموسة. فما يزال الطريق طويلا ومفتوحا على كل الاحتمالات. فما زالت أحلامنا بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ترتطم بجدار الفصل العنصري وبالاستيطان الذي يقوض بناء الدولة الحقيقية وما يزال الفساد الذي لا يقل خطورة عن الاحتلال ينخر في مؤسساتنا. فلا بد من استراتيجية شاملة للإصلاح الذي يجتث كل أشكال الفساد والإفساد بشخوصه ومظاهره وتكريس الديموقراطية التي تستقطب جميع مكونات الشعب الفلسطيني للمشاركة الفاعلة في إرساء أسس الحرية والاستقلال.