منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14\2\2005 وردود الفعل تتوالى من على صفحات الصحف المكتوبة والمقروءة وفي الفضائيات العربية والأجنبية. ولا شك أن ذلك كان جريمة وعمل إرهابي بجميع المقاييس ومدان من كل ذي عقل وبصيرة. لقد كان الحريري كما ورد على ألسنة القيادات اللبنانية يمثل صمام الأمان وعنصر التوازن بين جميع الأفرقاء في لبنان وكذلك كان رمزا للوحدة الوطنية اللبنانية. وأنه كان على ثوابته القومية والوطنية ورهانه على طاقات الأمة وثوابتها ولم يجنح إلى ما جنحت وتجنح إليه ما أطلق عليه "المعارضة" من الرهان على الخارج. فكان حديثه الأخير لصحيفة السفير لخير دليل على أنه لم يلتحق إلى هذه المعارضة أو حتى يتماهى معها في أي من مطالبها الأقل قليلها هو تفجير الوضع الداخلي في لبنان. وأما ما نشهده من تشدق أطراف المعارضة وتباكيها على الحريري ما هو إلا نفاق مفضوح واستغلال لدمائه. أما وقد استشهد ومضى رحمه الله وأدخله فسيح جناته، لقد أصبح بين يدي الله الباري عز وجل وعلى محبيه ومريديه وأهله أن يحققوا ما كان يصبو إليه في حياته وأن يسيروا على نهجه كي يتعافى لبنان ليبقى عزيزا كريما ومنيعا بوجهه العربي والوطني الناصع الذي كان يريده الرجل.

إن في لبنان اليوم ثوابت لا يمكن التحول عنها والقفز عليها. الثابت الأول بلا شك هو لبنان الوطن بجميع فئاته ومكوناته الوطنية الشريفة والذي لن يسمح لفئة قليلة باعت ضميرها للخارج بأن تهدم ما تم بناؤه من عيش مشترك ومن تآلف ومن إعمار ومن انتصارات سطرها الشعب اللبناني بدمه وبشهدائه. ولن يكون الحريري آخر العهد بالشهداء. وأما الثابت الثاني فهو الإرث الوطني الذي تركه الشهيد الحريري ورفاقه الذي يجب أن يكون نبراسا للوحدة الوطنية التي كان ينشدها الشهيد والتي كان يعمل من أجلها. والثابت الثالث هو أن الشعب اللبناني شب عن الطوق فلن تخدعه شعارات المارقين والموغورين والحاقدين. ففي لبنان المقاومة التي لن يفرط الشعب اللبناني بل العربي بانتصاراتها التي صنعتها بالدم والعرق والتضحيات على مدى عقود من الزمان. وسيلفظ الشعب إن آجلا أو عاجلا الزمرة المتشدقة بالديموقراطية المفصلة على مقاساتهم الشخصية وعلى مقاساتهم الطائفية والمذهبية وأولئك الذين يغيرون ولاءاتهم ومبادئهم كما يغيرون ربطات أعناقهم كل إشراقة شمس. لا شك أن أن لبنان والوطن العربي كله قد فقد أحد رجالاته المخلصين. ندعو الله أن يلهم ذويه ولبنان وأهل لبنان الصبر والسلوان وأن يجنبهم ما يخطط له دببة الكرم بليل. نراهم اليوم يرقصون على ضريح المرحوم ويستغلون سيرته في حياته ومماته. أين كان أكثرهم عندما كان في سدة الحكم. ألم يكن بعض هؤلاء إن لم يكن معظمهم من أشد المعارضين له إبان حكمه؟ . يا سبحان الله! بين يوم وليلة يصبح الحبيب والغالي بل ويختطفونه من لبنان وكأنه لهم وحدهم. لقد أساءوا له في موته كما أساءوا له في حياته. وكان المفترض أن يكون تشييعه مهيبا حزينا يشارك فيه جميع اللبنانيين ويوحدهم في هذا المصاب. ولكن قام البعض بتحريض عائلته مستغلين حزنهم وقامت باختطاف جنازته على أسنة شعاراتهم المسمومة. وأن الثابت أيضا هو وجه لبنان العروبي الوطني وأن هناك من اللبنانيين أنفسهم من يريد تشويه هذا الوجه الوطني للبنان وشطب إنجازات المقاومة وإبعاده عن دائرته العربية. وأما المتحول الذي طفا على السطح في ليل هو ما يطلق عليه "المعارضة" وهي ليست في الحقيقة إلاّ اصطفافات مرحلية وقتية يتخللها مصالح شخصية وفئوية وطائفية. ولم تكن ليعلو صوتها النشاز لولا استغلالها لموت الحريري أبشع استغلال بغوغائية وعدم مسؤولية عبر إطلاق التصريحات النارية وتحريض بعض الفئات لترقص على دماء الحريري. والدليل على ذلك ما حدث أثناء برنامج فضائية الجزيرة "حوار مفتوح" الذي يقدمه الإعلامي المتألق غسان بن جدو. يكفي دليلا ما رأيناه من سيدة فاضلة وهي تقدم رؤيتها العقلانية والحقيقة الدامغة لكل من يريد أن يدرك حقيقة الحدث الصارخ في استشهاد الحريري. لقد قدمت نفسها على أنها مسلمة سنية وهي حزينة على فقد الحريري كغيرها من محبيه ومريديه وكغيرها من الغيارى في الشعب اللبناني على مصير لبنان ولكنها رأت وترى عجبا من هؤلاء الذين حولوا ضريح الحريري إلى ساحة شعارات تفتت لبنان وتستبيح مقدراته ورأت النفاق والاستغلال البشع لدماء الحريري من قبل ما يسمى بالمعارضة. إن الحريري كان ينادي بالوحدة الوطنية. لقد كان سقفه اتفاق الطائف وكان لا يريد الخروج عما اتفق عليه الللبنانيون في اتفاق الطائف وكان أيضا مع العلاقات المميزة مع سوريا. أما ما تنادي له هذه المعارضة هو بلا شك اجترح فتنة طائفية تؤسس لحرب حرب أهلية لا محالة. فهم ينادون بانتداب أجنبي وينادون بتجريد المقاومة من سلاحها ويوافقون على توطين اللاجئين الفلسطينيين. إنها مجموعة معارضات وليست معارضة واحدة لكل من أطرافها حساباته الشخصية والفئوية. ومنهم من يقتات على الفتن ويتمنى أن يعود لبنان إلى ما قبل الحرب الأهلية ليشعل حربا أهلية أخرى.

لا سبيل للبنان ولا لللبنايين جميعا الخروج من هذه المحنة إلا التضامن والتحاور والاحتكام إلى العقل وليس اللجوء إلى الشارع الطائفي. يجب على الأطراف جميعها الأخذ بمبادرة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي أثبت ويثبت كل يوم صدق رؤيته وحكمته ويجب الاحتكام إلى صوت العقل والاتزان كما نوه سيادة البطرك صفير بذلك في نصيحة يوم الأحد. ندعو الله مخلصين أن يجنب لبنان والمنطقة العربية كلها الفتن والطائفية والمذهبية والحروب الأهلية.