عنوان هذه المقالة قد يبدو استفزازيّا للوهلة الأولى، ولكنّنا ما إن ندخل في صميم الموضوع ونحاول تبيّنه حتّى يبدو لنا تشخيصا مطابقا للحالة التي نعاني منها اليوم. العنف عند العرب أضحى هدفا في حدّ ذاته، لا وسيلة لتحقيق غاية لا يمكن إدراكها إلاّ به. وعندما يكون العنف هو الهدف، فإنّ من يدعو إليه لا بدّ أن يخفّف من وطأته على المستوى الإنسانيّ للمخاطبين به أو المجنّدين له، بجرعة كبيرة من الإيديولوجيا الدّينيّة بحيث يغدو عنفا مقدّسا، لذلك نسمع كثيرا عن الحقد المقدّس والجهاد المقدّس والحرب المقدّسة، وعن الكراهية كفريضة دينيّة، والميز الدّينيّ على أسس إيمانيّة، وهلمّ جرّا.
ويبدو للنّاظر في التّاريخ أنّ مؤسّسات العنف تزدهر كلّما كان الانحطاط مريعا في الشّعوب التي تتخذه آنذاك وسيلة نضاليّة.
ذلك أنّ الشّعوب المنحطّة لا تنحطّ في جانب واحد من الحياة، وإنّما في كلّ مناحيها، بما في ذلك الجانب الرّوحيّ، لأنّ الانحطاط كلّ لا يتجزّأ. وحيث أنّ هذا الانحطاط، ولا أقول "التّخلّف" لا يمكن النّهوض منه إلاّ بتلمّس طريق التّقدّم، فإنّ استعصاء الوصول إلى هذه الطّريق يجعل هذه الأقوام البائسة فريسة سهلة للشّعارات الإيديولوجيّة الخلاصيّة، وتلبّس عليها هذه الشّعارات الواقع وتزيّن لها العنف، فتسرع إلى خلق طقوس جديدة لممارسته، وتربط ذلك العنف بأسطورة مؤسّسة منتزعة من تاريخانيّتها. وبذلك تكون الأسطورة الآتية من عمق الماضي والطّوباويّة المبشّرة بفردوس المستقبل وجهين لعملة واحدة.
وقد حصل في الغرب إبّان العصر الوسيط ما يشعر العرب بانحطاطه وعدم قدرته على دحر العرب المتقدّمين على أراضيه، وعدم قدرته على اللّحاق بهم في العلوم والعمران. فقد التجأت الأديرة الكاثوليكيّة إلى إرسال انتحاريّين يتوافدون على قرطبة وغرناطة، ويدخلون المساجد ويسبّون الرّسول محمّدا طلبا للشّهادة. وفعلا جرى تقتيلهم من قبل المسلمين، ولم يغيّروا شيئا من التّاريخ بتلك التّضحية الغبيّة. هذا هو واقع العرب اليوم : إنّهم يمجّدون الانتحار بدعوى الجهاد، أي أنّهم يموتون من أجل شيء مقدّس متعال، ولا يموتون من أجل الوطن المتعيّن، لأنّ الموت من أجل الوطن يحتاج إلى الإيمان بحتميّة المواطنة والمصالح الدّنيويّة المشروعة التي هي في نظرهم لا تستحقّ القرابين البشريّة. بل إنّهم يرفضون أصلا فكرة المواطنة في مشروعهم السّياسيّ لأنّ الكثير منهم يفكّر في إنشاء خلافة راشدة ترتبط بالآخرة أكثر من ارتباطها بالدّنيا، ويفكّر في دستور يقوم على قواعد ميتافيزيقيّة كالإعلان عن الإسلام دينا للدّولة، واعتبار الشّريعة مصدرا للتّشريع، وإقامة العقوبات البدنيّة المقدّسة على المخالفين، والاعتقاد بنقاء دار الإسلام ودنس دار الحرب.
واللاّفت للنّظر أنّ هذه النّظرة للحياة ليست وقفا على الإسلاميّين، بل يشاطرهم فيها إلى حدّ بعيد القوميّون الذين لا يزالون يحملون شعارات الوحدة العربيّة كضرورة حتميّة، ويتكلّمون عن الدّولة القوميّة المبتغاة وكأنّها حقيقة شاخصة، وينبذون الدّولة القطريّة وكأنّها وهم، ويؤمنون بذبح اليهود وتحرير فلسطين من البحر إلى النّهر، ويعتبرون العرب جنسا نقيّا لا تشوبه شائبة من الأعراق الأخرى... لذلك نراهم يعيشون في خرائب أفكارهم، ويندهشون من سقوط مقولاتهم الواحدة تلو الأخرى : فالأمريكان لم ينتحروا على أسوار بغداد مثلما كانوا يأملون، و"الجنس العربيّ" عندما تخلّص من براثن أفكارهم قرّر أن ينتخب رئيسا لا يجري في عروقه الدّم العربيّ المقدّس، واحتلال دولة عربيّة لأخرى كما حصل في الكويت ولبنان اندحر بشكل مخز، وتبيّن أنّه لا يشبه توحيد إيطاليا على يد غاريبالدي أوألمانيا على يد بيسمارك، وتبيّن أنّه ترك جروحا غائرة في وجدان الشّعوب التي ابتليت به.
وكذلك شأن الشّعارات العتي رفعوها وفشلوا في تحقيقها مثل الوحدة والاشتراكيّة والحرّيّة، فقد أضحت ابتهالات علمانيّة، بحيث ترى القوميّ اليوم يقول : اللّهمّ حقّق الوحدة اللّهمّ انصر الاشتراكيّة اللّهم انشر الحرّيّة وقد تسمع صوت جماهير مخدّرة وبائسة ترفع عقيرتها بـ"آمين".
لذلك لم يعد لهؤلاء القوميّين من بدّ في التّحالف مع الإسلاميّين من أجل التّحريض على العنف ودفع الشّباب الغرّ إلى الانتحار في سبيل شعارات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ولم يعد لحامليها أيّ برنامج سياسيّ يطرحونه على الجماهير المحبطة إلاّ أن يطالبوها بالانتحار باسم الدّين السّياسيّ أو باسم الأمّة الدّينيّة.
لذلك أرى أنّ ما يخلّص هؤلاء من هذا العصاب هو إقامة سرادقين للحداد وتقبّل العزاء : سرادق للحداد الإسلامويّ يتقبّل فيه الإسلاميّون العزاء في دولة الخلافة، وفي الإسلام كدين وحيد حقّ، وفي تصوّرهم لإله يحابيهم بجعلهم خير أمّة، وفي الجهاد الذي ما عاد فريضة بل وسيلة لقتل الآخرين، وفي سيادة الرّجل على المرأة كأمر نهائيّ لا يقبل النّقاش...
أمّا القوميّون، فيجب أن يقيموا سرادقا لتقبّل العزاء في فقدان الأندلس وحيفا ويافا ولواء الإسكندرون، وفي شعاراتهم غير القابلة للتّحقّق من وحدة واشتراكيّة وحرّيّة...، وفي سموّ العنصر العربيّ على غيره من البشر ومن الأقلّيّات القابعة بين ظهرانيهم.
إذا فعلوا ذلك، فسنعزّيهم ونطلب لهم الصّبر والسّلوان، وإذا رفضوا العزاء وإقامة الحداد، فإنّ أرواحا كثيرة ستزهق ودماء غزيرة ستهرق من أجل أموات لم يتقبّلوا فكرة الموت، أو من أجل العبث الذي سيتردّى مع سيزيف العربيّ إلى الهاوية.
- آخر تحديث :
التعليقات