مسامير جاسم المطير 871
لا أريد الحديث عن البيئة السياسية التي عاش فيها مظفر النواب ولا أريد الحديث عن حياته الصعبة في هذه البيئة من اضطهاد وقمع وتضحيات كما لا أريد الحديث عن الوضع الذي يعانيه في غربته المؤسية عن وطنه العراق منذ 36 عاماولا أريد أن أتحدث عن تجربته الشعرية وكلماته النابضة بالوطنية والإنسانية وبالوضوح التام وبالموسيقية الموحية وبالإيقاع الدفيء المتفاعل مع أحاسيس الناس، فكل ذلك وغيره من التفاصيل باتت معروفة ليس فقط أمام المهتمين بشعره حفظا ومتابعة ونقدا فهو يملك موقعا آخر تحتضنه قلوب ملايين العراقيين لان قضية مظفر النواب هي قضية الشعب العراقي عامة ففي تصور المثقفين العراقيين مثل جماهير شعبهم أن مظفر النواب يمثل طليعة من طلائع النضال في التراث السياسي العراقي وفي حاضره الثقافي أيضا.
على أية حال ما دفعني لكتابة هذه السطور هو قراءتي لمقالة السيد د. خالد منتصر في جريدة إيلاف الإلكترونيةيوم 8 نيسان 2005 بعنوانٍ ( قصائد البيتزا وأشعار هوم دليفري ) وهو عنوان لا يخلو من غرض محدد لاعلاقة له بالنقد الأدبي أو الشعري أراده الكاتب أن يكون مثيرا أو انه رغب أن يمتد تأثيره إلى مدى بعيد بين الكتاب والقراء من العراقيين والعرب متخيلاانه سيتجاوز فعلا الدائرة المحدودة عادة لقراء المقالات السريعة التي تجتذبهم العناوين المثيرة.
في مقالته سطورلا أعتقد أنها تتصل بأي حال من الأحوال مع محاولة فهم الشاعر مظفر النواب بأمسية مدينة أبو ظبي - المجمع الثقافي – ولمناسبة دورة معرض الكتاب الدولي أو مع حق مظفر النواب أن يقرأ ما يشاء وأن يختار بنفسه ما يشاء للقراءة. فقد كتبت المقالة من قبل الدكتور خالد بفلسفة متعالية أطلقت "حكما" نهائيا وبتأكيد يبدو للقارئ أنه تام وغير قابل للنقض أو التغيير..! فقد أعطى الكاتب لنفسه حق الوصف المباشر لقراءات شعرية أختارها مظفر النواب بنفسه لنفسه ولجمهوره – وهو جمهور ليس جديدا في أكثريته - في محيط ثقافي معاش بلحظة وجوده على المنصة ودون أن يضع بحسبانه أن الدكتور خالد منتصر قد يتحول بتلك المناسبة وفي زمانها ومكانها إلى مفسر بطريقة علية إلى ناقد أدبي وعالم اجتماع ومؤرخ في آن واحدة وفي مقال واحد وبصفحة واحدة. فقد فاجئنا أثناء ممارسته النقدية لتلك الأمسية بتمثل أشياء خارجية عند قراءة مظفر لـ"جزء" من أحدى قصائده وليس "كلها"..!
لم يجند الدكتور خالد منتصر فرقة أو فيلقا من الشبهات ليلصقها بشعر مظفر النواب لكنه اخترع بدعة واحدة ليوجه اتهاما غير قابل بنظره للاستئناف وهي تهمة المساومة حول قضية مظفر النواب بشعره وبالذات حول قصيدته المعروفة القدس عروس عروبتكم وكأنما نظم مظفر النواب هذه القصيدة لا لتنتشر وتنشر في كل مكان ولا أن يداولها الناس في فلسطين وغيرها ولا يقرأها في أهم المواقف حساسية وحرجة وإنما نظمها مظفر كي يأتي يوم – كما حدث أمس – ليكتب خالد منتصر غامزا الروح الوطنية المتأججة منذ زمان بعيد في شعر مظفر ومناسبات ألقائه . وقد وجدت في مقالته القصيرة جدارغبة لدى الدكتور خالد منتصر في استخدام النقد الحر للنيل من "الآخر" حتى ولو كان "الآخر" قامة شعرية – جماهيريةشامخة كقامة مظفر النواب. تماما كما أشار جان بول سارتر ذات يوم عندما فكر في الحرية التي قد يمارسها "بعض الناس" عندما يعتقد هذا البعض بأن السكين صنعت فقط للقطع أو القتل وليس لها منافع أخر!
لم يكن مظفر النواب منذ قصيدته الشعبية " للريل وحمد " مجرد مشروع قصيدة، ولم يكن من هواة نشر الدواوين، ولم يكن من هواة العيش الهادئ الهانئ، بل كان مناضلا مهموما بآفة الاستعمار وبحقوق الشعوب المناضلة من أجل حريتها وكرامتهاوبأساليب الغدر والقتل التي مارسها البعثيون والقوميون والرجعيون والفاشيون في كل بقعة على الأرض العراقية. كان شاعرا يحمل مُثله في بيوت شعره على أوراقه وفي صوته وفي طريقة خطابه مع المستمعين. كان داعية لتغيير عقول الحكام والمحكومين، كان هذا الشاعر لا يكتفي بـ"التنظير الشعري" كما فعل آخرونبل بضروة العمل والتضحية من أجل انتصار العدالة .
قال الدكتور خالد منتصر في مقالته (ولذلك كان حجم الصدمة هائلاً حين علمنا بأن مظفر النواب قد قرر حذف فقرات كاملة من هذه القصيدة عندما ألقاها في معرض كتاب أبو ظبي إرضاء للحكام هناك، وهذا التصرف يطرح أسئلة كثيرة ويثير قضايا هامة منها أن هذه القصيدة بمجرد كتابتها تقاسمنا ملكيتها نحن الجمهور مع كاتبها فهل يحق له فجأة وبدون سابق إنذار أن يتنازل عن أجزاء منها تماشياً مع موقف ما أو إرضاء لحاكم أو شيخ ..) وقد جاءت كلمة "علمنا" في مقالته وكأنها شيء جازم كان قد حصل هذا "العلم" كتغيير في موقف مظفر النواب على المستوى القومي! كان الأفضل على الكاتب خالد منتصر أن يورد الفعل "حسبنا أو استنتجنا" بدلا من "علمنا"لكان أكثر تقبلا في دعوته للحوار حول هذه النقطة . فما بين كلمتي أو فعلي "علمنا" و"استنتجنا " مساحة واسعة هي نفس المساحة الواقعة بين حسن النية في الكتابة النقدية وسوء النية في ما وراء النقد في مثل تساؤله عن حق مظفر النواب في "التنازل" عن أجزاء من قصيدته كما "علم" الدكتور خالد منتصر نفسه، وردّ عليه آخرون بإيضاح، وهو الذي لم يستخدم فعل "أظن" لأنه يعرف أن بعض الظن إثم..!
لكن لماذا فاته أن مظفر النواب هو صاحب قصيدة "البراءة" التي أدان فيها كل من يتخلى أو "يتنازل" عن معتقداته وأفكاره و"أظن" أن مظفر قرأ هذه القصيدة في ذات الليلة ..؟ ومثلما ان شعرية التعبير تكون حسب موهبة الشاعرفان استجلاء تلك الشعريةواختياراتها تكون حسب موهبة "حيز" المتلقي وسيكولوجيته في لحظة ما من اللحظات، وإما سوى ذلك فان نظرية "البيتزا والهوم دليفري" التي تحدث عنها الدكتور خالد منتصر لم تكن موفقة ولا تدخل في أسس ومناهج وأساليب حرية الشاعر في الاختيار أو في طريقة أو حجم ما يختاره من قصائده بقصد الإلقاء.
لماذا فات عليه أن غالبية الحاضرين إلى أمسيته الشعرية في مدينة أبو ظبي كانوا من العراقيين المقيمين فيها وأن خطابات مظفر الشعرية الموجهة لهم كانت أغلبها إن لم تكن كلها – لا أعلم – من شعره في الوجع العراقي وفي الغزل العراقي والهم العراقي.. وأن قراءة "بعض" مقاطع من قصيدة "القدس عروس عروبتكم" جاء بناء على "طلبات المستمعين" في نهاية الأمسية وليس تخطيطا مسبقا لها!
ترى هل نستمر نواجه الحالة اللاشرعية في مصائب "النقد الأدبي " على نظرية أن طموح البعض في الكتابة والقول لا يمر بنظرهم إلا عبر طعن الآخرين تطبيقا لما قاله جان بول سارتر عن نظرية صنع السكاكين!
بصرة لاهاي
اقرأ أيضا:
التعليقات