مريد انقلب على شيخه وطموحه بلا حدود
طه يرأس الحكومة السودانية وعينه على الرئاسة


طلحة جبريل من الخرطوم : يتردد على نطاق واسع هنا أن على عثمان طه نائب الرئيس ، والذي قاد مفاوضات السلام مع جون قرنق ، سيتولى رئاسة الحكومةا لسودانية خلال المرحلة الانتقالية. ونصت "اتفاقية نيروبي" التي وضعت حداً للحرب في جنوب البلاد على تولى جون قرنق منصب النائب الاول للرئيس ، وهو المنصب الذي يشغله حالياً على عثمان طه . بيد ان مصادر مطلعة تقول إن على عثمان طه يتطلع في الواقع إلى رئاسة الجمهورية ، ويسير نحو الهدف بأناة وتوءدة . ومنذ إزاحة حسن الترابي عن الواجهة وإبعاده عن السلطة يلعب على عثمان طه دوراً أساسيا في الخرطوم . وهو الآن رجل النظام القوي الذي يجمع كل شيء بين يديه .

"على عثمان"كما يختصر السودانيون اسمه، كان في الواقع أحد الأساسيين الذين خططوا لانقلاب 30 يونيو 1989 الذي جاء " بالجبهة القومية الإسلامية" للحكم ، وهو أول تنظيم أصولي تولى السلطة في العالم العربي . كان على عثمان طه زعيماً للمعارضة في البرلمان حين وقع الانقلاب الذي نفذه ضباط موالون للجبهة الإسلامية بقيادة العميد آنذاك عمر حسن أحمد البشير.

يقول على عثمان محمد طه إنه اضطر للتخفي بعد وقوع الانقلاب . ويمضي في روايته قائلاً لصحيفة محلية" كنت ليلة الثلاثين من يونيو مطلوباً للأجهزة الأمنية وفي الموقع الذي كنت فيه أوشكت الشرطة أن تعتقلني وانا أتدبر أمري لانتقل من موقع إلى آخر ، ليلتها لم أكن بمنزلي وعند حدوث التحرك العسكري (الانقلاب) لم أعد إلى داري إلا بعد أسابيع بعد أن استقرت الأوضاع " . ويواصل راوية تغطيها الظلال فيقول " وفاء لمن أوونا في منازلهم تلك الأيام فإننا مدينون لهم كثيراً ...وسنذكرهم عندما يأتي وقت الحديث تفصيلاً عن تلك الايام التي مررنا فيها بمواقف وتجارب طريفة وأحاسيس عجيبة" .

لكن من سوء حظ على عثمان طه أن حسن الترابي الذي أصبح الآن خصماً معتقلاً ادلى برواية مختلفة حين قال في حوار نشر قبل اعتقاله " قررنا في الحركة الاسلامية ان يذهب البشير (الرئيس عمر البشير) ومعه على عثمان طه الى القصر و اذهب انا الى السجن " .كان توزيع الادوار يقتضي ذلك .
يقولون في الخرطوم إن على عثمان طه ينطبق عليه ذلك القول " المريد الذي إنقلب على شيخه " .
كان " المريد " هو على عثمان وكان " الشيخ " هو حسن الترابي .

"الشيخ" الآن في السجن من جديد لكن هذه المرة بقرار من الاتباع وليس " باتفاق" معهم ، و " المريد " في القصر يمسك بكل الخيوط . فاوض جون قرنق قرابة سنتين واقتضت المفاوضات ان "يتنازل" على عثمان عن منصبه الحالي " النائب الاول لرئيس الجمهورية " ويتخلى قرنق عن السلاح ويقبل اتفاقية تجعله " نائباً للرئيس " و " رئيساً لحكومة الجنوب " ... وفي وقت لاحق ربما "رئيساً لجمهورية الجنوب " .

وسيتفاوض على عثمان طه لاحقاً مع متمردي دارفور (أقصى غرب البلاد) . وهو الذي سبق وان تفاوض مع المعارضة الشمالية. وهو تحديداً الذي سيوقع معه اتفاقاً الشهر المقبل.

لكن من هو علي عثمان محمد طه رجل النظام القوي ؟
ينحدر علي عثمان طه من قبيلة "الشايقية" وهي قبيلة عربية تعيش في أقصى شمال السودان تعود جذورها الى الهجرات العربية الاولى للسودان حيث تقول المصادر إنها جاءت من شمال الجزيرة العربية وجنوب العراق .

قبيلة تعمل في الزراعة على ضفاف النيل ، وكانت القبيلة الوحيدة التي قاتلت الاتراك عندما دخلوا السودان في القرن التاسع عشر . ويفضل "الشايقية" العمل في الجيش تبعاً لخلفيتهم العسكرية كمقاتلين أشداء .
ولد على عثمان طه من أبوين ينتميان إلى قبيلة "الشايقية" في حي شعبي من تلك الأحياء التي كان يقيم فيها الوافدون من "الشايقية" في الخرطوم . جاء والده من قرية " الكرفاب" في منطقة "الشايقية" الى حي " السجانة" الذي كان يقع وقتها في أطراف العاصمة واصبح الآن بعد التمدد العمراني للخرطوم في قلبها .

ولد على عثمان طه(58 عاماً) في " السجانة " وهناك سيفقد والدته "جمال"( اسم يطلقه السودانيون على الذكور والإناث) التي توفيت وسنه لم تتجاوز عشر سنوات .

ثم انتقلت الأسرة الى منازل ملحقة بحديقة الحيوانات على شاطئ النيل ، حيث عمل والد على عثمان حارساً في الحديقة . هناك نشأ وتربى على عثمان والتحق بمدرسة قريبة من " حديقة الحيوانات ".

سيتم تفكيك الحديقة في ظل النظام الحالي وتوزيع حيواناتها على عدة جهات . لم تعد هناك "حديقة للحيوانات" في الخرطوم . وفسر الناس الأمر عدة تفسيرات . وكانت هناك تأويلات .

درس على عثمان طه حتى المرحلة الثانوية في مدرسة "الخرطوم الثانوية القديمة" ثم التحق بجامعة الخرطوم منتصف الستينات بكلية الحقوق . كان الالتحاق بجامعة الخرطوم ، وهي جامعة متميزة ، في تلك السنوات وقفاً على الطلاب النجباء والمجتهدين . والمؤكد ان علي عثمان كان منهم .
انضم على عثمان طه لحلقات " الاخوان المسلمين" في المرحلة الثانوية ، وعندما التحق بالجامعة سيصبح من قياديي التنظيم الطلابي الذي كان يعرف وقتها باسم " الاتجاه الاسلامي " في مقابل التنظيم اليساري الذي يعرف باسم " الجبهة الديمقراطية" .
سيتدرج طه في التنظيم حتى أصبح زعيماً طلابياً ، ليتولى رئاسة " اتحاد طلاب جامعة الخرطوم " . وكل الذين تولوا رئاسة هذا الاتحاد أصبح لهم شأن من بعد في الحياة السياسية في بلد ينشغل أهله بالسياسة بكيفية ملفتة . ومعظم من كانوا معه في ذلك الاتحاد سيتولون مناصب قيادية في دولة " التوجه الحضاري" التي قرر اهل " الاسلام السياسي" تشييدها في السودان ، بعد انقلاب عام 1989 .

بعد التخرج من الجامعة عمل على عثمان محمد طه في سلك القضاء الى أن اصبح "قاضي استئناف " .
ثم ترك القضاء بعد ان اصدر حكماً بالاعدام و أدى فريضة الحج بعد ذلك الحكم .ثم تحول الى المحاماة .

عندما تحالف الرئيس الأسبق جعفر نميري مع الإسلاميين ، وكان النميري بدأ يساريا يحتفل بعيد لينين، اصبح على عثمان طه عضواً في البرلمان ، وتقلدت قيادات من الاسلاميين مسؤوليات حكومية أبان فترة التحالف ، وتنقل حسن الترابي وقتها ما بين منصب " النائب العام " و " مستشار الرئيس " . وقبل سقوط نميري بفترة قصيرة إنقلب على "الاسلاميين" واعتقل بعضهم . بيد انهم كانوا استفادوا من نعيم السلطة في بناء تنظيم قوي سيعرف لاحقاً باسم " الجبهة القومية الاسلامية" وضموا اليه بعض الحركات الصوفية التي تعج بها البلاد .

حين انتفض السودانيون ضد نميري عام 1985 و كان وقتها يتعالج في اميركا، استثمر الاسلاميون اعتقال بعضهم من طرف نميري وقدموا أنفسهم " كمضهدين " كذلك من طرف نظام" الرئيس المخلوع " .

خاضت الجبهة الاسلامية الانتخابات على قدم المساواة مع الاحزاب الاخرى في فترة الديمقراطية الثالثة، وحققت نتائج جيدة مستفيدة من قوتها التنظيمية التي شيدتها خلال عهد جعفر نميري .

كان من حسن حظ علي عثمان طه الذي سيصبح الرجل الثاني في التنظيم ،سقوط حسن الترابي في " دائرة الصحافة" جنوب الخرطوم حيث يوجد" حي الصحافة" الذي سميت الدائرة باسمه، وبالتالي لم يصبح الترابي عضواً في البرلمان في العهد الديمقراطي .
أصبح على عثمان طه رئيس المجموعة البرلمانية للحزب في البرلمان وبالتالي " زعيم المعارضة" للحكومة الائتلافية التي كان يقودها الصادق المهدي وتضم "حزب الامة" و " الاتحادي الديمقراطي " . وبدأ نجم على طه يسطع كسياسي لامع.

وفي تلك الفترة راح على عثمان طه يجوب البلاد شمالاً وجنوباً . وكان يخشى في تلك الجولات معسكرات الجيش " للتضامن مع القوات المسلحة التي تقاتل المتمردين في جنوب البلاد " . لكن الجولات وزيارات معسكرات الجيش " لرفع الروح المعنوية للضباط والجنود " كانت تهدف الى أمر آخر سيتضح لاحقاً .

حين وقعت الاحزاب السودانية ميثاقاً ينص على معارضة أي إنقلاب عسكري ومنذ اليوم الاول . تلكأت " الجبهة القومية الاسلامية " في التوقيع . ثم تحول "التلكؤ" الى " تحفظ" و" التحفظ" الى "امتناع" و " "الامتناع" الى تدبير إنقلاب .
وبعد فترة " المطاردة من طرف الشرطة " عقب "انقلاب 30 يونيو" الذي سيصبح اسمه " ثورة الانقاذ" سيتولى على عثمان طه وزارة " التخطيط الاجتماعي " التي كانت ترمي الى "صياغة المجتمع والدولة" بما يتسق ورؤية " الاسلاميين " . ثم اصبح وزيراً للخارجية ليحدد علاقات السودان مع العالم الخارجي .

وتولى بعد ذلك منصب " النائب الاول " ومن خلاله جمع كل الخيوط بين يديه.
رجل الخرطوم القوي صامت . يسمع كثيراً . يتحدث قليلاً . لا أحد يعرف ما يفكر فيه . يربك خصومه .حياة اجتماعية متحفظة . ذكي . عابس إذا أراد، مبتسم إذا رغب . صوته خفيض فيه بحة. يفضل ان يربح بالنقاط وليس بالضربة القاضية . رجل كواليس لا تشده الأضواء . له ذاكرة فيل . لا ينسى . ينتظر الفرصة ليوظف الوقت لتقوية أوراقه الرابحة .بارع في تكتيك الغموض والتمويه . رجل مناورات . السياسة عنده هي توظيف المال و فن الانتظار .