ملف حول حكاية صبي حارة حريك (1)
ريما زهار من بيروت: يعود العماد ميشال عون الى لبنان بعد غياب قسري دام نحو 15 عامًا في باريس، ويستعد اللبنانيون لاستقباله السبت المقبل في 7 آيار (مايو) ولهذه المناسبة تفتح "إيلاف" ملفًا كاملًا على حلقات عدة تعرّف فيه عن هذا الجنرال العائد الى قلب الوطن...
السيادة الوطنية
من عايش أو خبر طفولة العماد عون وفتوته وشبابه يعرف سر تشدده بموضوع السيادة الوطنية وحساسيته البالغة تجاه أي هيمنة خارجية على الشؤون اللبنانية الداخلية، هذا السر ليس مرده كما يعتقد البعض الى كون الرجل عسكريًا، بقدر ما كان حافزًا له لاختيار السلك العسكري ودخول المدرسة الحربية، فالفتى ميشال عون نشأ في حارة حريك وترعرع داخل حزام البؤس، بدأ بحال خوف من "عسكر الانتداب" والاحساس بالاهانة الوطنية كلما كان يشاهد "السنغالي" يتحرش باحدى السيدات اللبنانيات في إطار الممارسات السيئة التي رافقت وجود جيوش الانتداب على الأرض اللبنانية، كما ذاق وشاهد ويلات الحرب العالمية الثانية وما رافقها من فقر وظروف معيشية ضاغطة، ولم يكد يشعر بزوال كابوس الجيوش الأجنبية حتى حصلت الهجرة الفلسطينية الى لبنان هربًا من الجرائم الاسرائيلية البشعة في فلسطين. وسرعان ما صار للفلسطينيين في لبنان جيشهم مع ما نجم عن هذا " الجيش" من مشكلات مع اللبنانيين أدت فيما بعد الى اصدار الأوامر لعسكريي الجيش اللبناني بعدم ارتداء بزاتهم العسكرية في مناطق وجود المنظمات الفلسطينية والأماكن المجاورة لها وأثناء انتقالهم على بعض الطرق حيث كانت تقام الحواجز الفلسطينية المسلحة.
كان من الصعب جدًا على الملازم الأول الشاب ميشال عون أن يضطر الى خلع بزته لعسكرية وارتداء اللباس المدني كلما أراد أن يأتي في إجازة الى منزله في حارة حريك. يضاف الى ذلك حكايات والده ووالدته عن "العسكر العثماني" وضروب التنكيل التي مارسها ضد المواطنين اللبنانيين، كل ذلك شحن نفسية العماد عون بحوافز رفض كل وجود عسكري غير لبناني، كما نمى فيها حلم " لبنان القوي" القادر على ردع الاعتداء عليه ومنع تحول أرضه الى مسرح اللعبة الدولية التي تتخذ من شعبه ضحايا لها كما حصل في الجنوب اللبناني مسقط رأس ذوي العماد عون على أيدي اسرائيل والمنظمات الفلسطسنية.
حكاية طفولة صبي حارة حريك
"في ذات مساء، في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1935، ولد طفل، كما يولد أي طفل آخر في العالم. وكان جرس كنيسة مار مخايل، يبعث برنينه وطنينه الى البعيد، ويتغلل بين الأشجار والبساتين التي تغطي المساحات بين البحر والسفوح.
"صبي! صبي!" صرخت المرأة في الدار معلنة أن السيدة الحامل ماري عون، ولدت صبيًا. ودار الحديث عما إذا كان الطفل الجديد، هو أشقر أو حنطي أو أسمر.
لكن سرعان ما خف البحث في هذا المجال، بعدما بدأ الوالد نعيم بتقديم ضيافة الحلوى الى الجيران الزائرين الذين سرهم خبر ولادة صبي لجيرانهم.
وجاء من يسأل والد الصبي: ماذا ستسميه؟
فقال: جاء اسمه معه : ميشال.
إنه ميشال عون، والده نعيم وفد جده الياس الى حارة حريك منذ 125 عامًا تقريبًا، آتيًا من قرية " مراح المكنونية" الواقعة قرب قيتولي قضاء جزين في لبنان الجنوبي.
ونعيم، كان وحيدًا لأبويه، تزوج ابنة عمه ماري، التي عادت مع أهلها من المهجر وهي تحمل الجنسية الأميركية وانجب منها ثلاثة صبيان وثلاث بنات وهم:
الياس، روبير، ميشال، رينيه انطوانيت وجانيت.
ربي ميشال في عائلة متدينة، متمسكة بالتقاليد تسكن بيتًا متواضعًا، يديرها والد يعمل في بيع الحليب وتسهر عليها أم حكيمة ذكية تأثر بها طفلًا وشابًا.
ميشال عون الطفل إذًا ابصر النور في حارة حريك وعاش فيها على ما يقول عارفوه طفولة "برية" بين البساتين وأشجار الليمون والزعرور والنخيل.
ومن هنا كان تعلقه بالطبيعة ومعرفته الواسعة بأنواع النبات وطبائع الحيوان، ومن بيئته الفقيرة ولد في نفسه التطلع الى المثل والطموح الى تغيير الواقع وهذا ما تجلى نهجًا في شبابه وفي حياته العسكرية والسياسية.
وعاشت عائلة عون تربطها قربى وصلات متينة بعائلات الحارة المنتمية الى الطائفة الاسلامية وبصورة خاصة بعائلة عون الشيعية التي يقيم معظم أبنائها في منطقة الشياح المجاورة وتعود بجذورها الى قرية هونين الجنوبية.
وهذا ما انعكس على نشأة ميشال عون الماروني داخل هذه المجموعة المصغرة عن التعايش، وداخل هذه الطبقات المتوسطة مما جعله في مسيرة حياته يكره الطائفية أو التمييز المذهبي، ويعبر عن هموم الطبقات الفقيرة، فحارة حريك التي طالتها رياح التمدن، لم تطلق طابعها الريفي، وانعكست على نفسية ابن الحارة الذي يجمع البساطة ودماثة الخلق.
مرحلة الدراسة
وقال العماد في مذكراته:
"كان الفقر بالنسبة لنا عاملًا طارئًا، فجدي كان ميسورًا، لكنه، رغم يسره، سافر الى الولايات المتحدة كسائر الذين سافروا سعيًا وراء الثروة، وكان ذلك عام 1904، حيث استقر به المقام في مدينة نيو هامشاير وفي هذه المدينة ولدت أمي.
وينتقل العماد بالحديث مع الذكريات الى يوم خرج من مدسة المعارف فيقول:
"وتركت المدرسة حزينًا، لأن وضعنا المادي لم يسمح لي بمتابعة دروسي، فالتحقت بأحد المشاغل لأتعلم مهنة صناعة الكرتون حيث أمضيت عامًا يشدني الحنين الى المدرسة.
وتشاء الظروف، ان يتحسن وضعنا المادي قليلًا وكان ذلك بفضل ارتفاع أسعار الليمون والحليب، فعدت الى المدرسة وانتسبت هذه المرة الى مدرسة الفرير في فرن الشباك، حيث بذلت جهودًا كبيرة كي أعوض ما فاتني في السنة السابقة، ونتيجة جهودي التي لم تعرف مني سوى المثابرة، تمكنت من أن أقفز في سنة واحدة صفين معوضًا بذلك السنة التي أضعتها في صناعة الكرتون.
(الحلقة المقبلة في المدرسة الحربية وقائدًا للجيش)
التعليقات