(الحلقة الثانية)
القاهرة- نبيل شرف الدين
في الجزء الاول من عرضنا لخريطة انتشار الجماعات الاصولية، والتي تعتبر أحد المفاتيح الأساسية لفهم أسباب الظاهرة وأساليب المواجهة ، تحدثنا عن ثلاثة محاور رئيسة يضم كل محور منها عدداً من الجماعات والتيارات الفرعية& التي تدور جميعها في فلك المحور الرئيس. وبعد المحر السلفي، نتناول اليوم المحور الجهادي:

ثانياً: المحور الجهادى :
نأتي للطائفة الثانية أو المحور الثاني من هذه الجماعات ، وهو محور جماعات الجهاد ، ولا نقصد به هنا تلك الجماعة التي اشتهرت إعلامياً بجماعة أو تنظيم الجهاد بل يمتد هذا المفهوم إلى تيار بأسره يضم تلك الجماعات التي تتقلص& وجوه التمايز أو الاختلاف فيما بينها ، وتكاد تنحصر الفوارق الأساسية بين تلك المجموعات في المسميات فحسب أو في شخص أمير الجماعة الذي تتمحور دائماً حوله الجماعة فكرياً وتنظيمياً وحركياً ، وعلى أفضل تقدير يمكن القول بأن الظرف السياسي قد لعب دوراً حاسماً في ظهور واستمرار وتصاعد دور هذه الجماعات كما سنرى تفصيلياً في استعراض نشأتها وحجمها التنظيمي وفعالياتها الحركية ومدى قدرتها على التأثير السياسي والجماهيري ، وخلال السطور التالية سنعرض من خلال السرد التاريخي والتأصيل الفكري لأبرز هذه التنظيمات الجهادية التي ظهرت على الساحة& المصرية خلال العقود الثلاثة الماضية وفقاً لتسلسل ظهورها الزمني مع التركيز على الموقف خلال عقد التسعينات باعتبارها المرحلة المحورية في هذا التناول ، وذلك على النحو التالي :
"تنظيم صالح سرية" :
وهو ذلك التنظيم الذي نشأ على& يد الفلسطيني صالح عبد الله سرية مؤسس جماعة "شباب محمد" ، والتي اشتهرت إعلامياً باسم& "جماعة الفنية العسكرية" ، وذلك لارتباطها بعملية محاولة اقتحام الكلية الفنية العسكرية من خلال تجنيد عدد من طلبتها ، وأما عن صالح سرية فهو من مواليد عام 1933 بقرية جزيم قرب حيفا بفلسطين ، وقد حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة عين شمس عام 1971 ، وتشير المعلومات المتوافرة عنه أنه نشأ في كنف "تقي الدين النبهاني" ذلك الشخص الغامض الذي أسس حزب التحرير الإسلامي ، وكان سرية قد بدأ نشاطه السياسي بالانتماء لمنظمة "فتح" الفلسطينية ، ثم فصل منها ليلتحق بجماعة الإخوان المسلمين بالعراق وطرد منها لأفكاره المتطرفة ، وحضر للقاهرة ليعمل بجامعة الدول العربية وهو مزود بخبرات واسعة في القدرة على التنظيم ، والعمل السري ، وتسييس العسكريين وطرق وأساليب الانقلاب العسكري ، وبالرغم من هذا لم يؤسس سرية مجتمعاً مغلقاً على النحو الذي سلكه شكري مصطفى ، ولكنه مضى يتحسس طريقه بحثاً عن العناصر ذات الميل إلى النشاط الحركي والسري وكان يحرص أثناء اختياره لهم على الالتزام بعدة اعتبارات أبرزها اتسام هؤلاء المرشحين لعضوية تنظيمه المزمع إنشاؤه بصفات محددة كالتهور والاندفاع وعدم سابقة الانخراط في العمل السري من قبل ، وتمكن بالفعل من استقطاب خلية أولى كان أبرز عناصرها نبيل البرعي وحسن الهلاوي اللذان كانا يكونان مع آخرين جماعة محدودة العدد والأنشطة وبالغ أعضاؤها في الالتزام بقواعد السرية والتدقيق في قبول أعضاء جدد أو الانتشار الأفقي حتى التقوا بصالح سرية الذي استطاع توظيف خبراته السابقة في العمل الحركي وأقنعهم بضرورة العمل على محاولة اختراق القطاعات المؤثرة في المجتمع& ، وهكذا مضى يمارس حياته وهو وجماعته بشكل عادى وذلك كإجراء تأميني حتى لا يلفت إليهم أنظار رجال الأمن ، وخصوصا أن عدداً من جماعته كانوا عسكريين كطلاب بالكلية الفنية العسكرية ، وكان يفترض قيامهم بقيادة الطالب& كارم الأناضولي باحتلال مبنى الكلية والاستيلاء على مخزن السلاح بها ثم& التوجه لمهاجمة رئيس الجمهورية والوزراء الذين كان من المقرر اجتماعهم وقتئذ بمصر الجديدة ، ولكن هذه الخطة الساذجة باءت بالفشل وتم إجهاضها في مهدها وحوكم صالح سرية وكارم الأناضولي وأعدما ، وسجن عدد كبير من أعضاء التنظيم ، وانتهى أمر هذه الجماعة بين تشتت أفرادها أو انضمامهم لتنظيمات أخرى .
تنظيم "سالم الرحال" :
وهو التنظيم الثاني الذي يحمل اسم الجهاد ومؤسسه محمد سالم الرحال ، وهو طالب أردني كان يتلقى دراسة أزهرية ويقيم برواق الشوام بالأزهر ، وكانت تجمعه بمحمد عبد السلام فرج صلة الانتماء للتنظيم الأول الذي حمل نفس الاسم أيضاً (الجهاد) والذي كان قد أسسه شخص غامض يدعى على محمد إبراهيم سلامة ، وكان يعمل بإحدى الشركات بمدينة الإسكندرية هي شركة "هايدلكو" ، وألقت أجهزة الأمن القبض عليه ، وانتقل سالم الرحال الإسكندرية إلى القاهرة حيث نشبت بينه وبين فرج خلافات تنظيمية حول أساليب العمل الحركي ووسيلة إقامة الدولة الإسلامية المرجوة ، فبينما كان يرى الرحال أن أسلوب "الانقلاب العسكري" هو الأنسب للمجتمعات العربية ، كان فرج يتمثل خط الإمام الخميني مؤمناً بمنهج "الثورة الشعبية" ، ولذلك لم يجمعهما نشاط مشترك فيما بعد ، ومضى الرحال يعمل على تحقيق أهدافه بتجنيد ضابط بإدارة المدفعية هو الرائد عصام القمري وعدد من ضباط الصف بالإضافة لبعض طلاب جامعة القاهرة ، وقبل أن يبدأ نشاطه عملياً أجهض التنظيم وطرد الرحال من مصر ، وقد انتقلت قيادة هذا التنظيم بعد طرد الرحال من مصر إلى كمال السعيد حبيب ، والذي كان قد تخرج في جامعة القاهرة ونال درجة في الاقتصاد وكان عمره 24 سنة وقد ظل حبيب الذي التزم بأفكار الرحال رئيساً للتنظيم إلى أن قدمه طارق الزمر إلى محمد عبد السلام فرج وقد انضم حبيب مع العديد من أعضاء مجموعته إلى تنظيم محمد عبد السلام فرج ، ورغم أن فكرة التنظيم طرحها محمد عبد السلام فرج في أوائل عام 1979 فإننا لا نستطيع الحديث عن نشاط منظم له إلا في عام 1980 وخلال تلك السنة التقى فرج مع طارق عبد الموجود الزمر الذي كان طالباً بكلية الزراعة وكان يبلغ من العمر 21 عاماً وهو الذي قدم محمد عبد السلام فرج إلى زوج شقيقته عبود عبد اللطيف الزمر الذي كان في الثلاثين من عمره وكان ضابطاً برتبة رائد في المخابرات الحربية أحد أفرع القوات المسلحة المصرية ، وكما اتضح فيما بعد فقد كان عبود الزمر هو المخطط الإستراتيجي في تنظيم محمد عبد السلام فرج كما سنأتي عليه لاحقاً بالتفصيل ، أما سالم الرحال فتشير المعلومات إلى أنه أصيب بمرض عقلي وحجبه أهله عن الناس منذ أكثر من عشر سنوات في العاصمة الأردنية عمان .
"تنظيم الجهاد" : محمد عبد السلام فرج
وهو يمثل التجربة الحركية الثالثة في حلقات محاولات بناء تنظيمات تتبنى الفكر والمنهج الانقلابي لذلك يعتبره المراقبون أحد أخطر التنظيمات نشاطاً ، وأكثرها تنظيماً حتى الآن لما انطوت عليه عملية تكوينه من تراكم لعدة تجارب حركية سابقة ساهمت بشكل أو آخر في بلورة الأسس الفقهية ، وترسيخ المفاهيم التنظيمية التي قام عليها التنظيم ، ومن هنا فقد كان طبيعياً أن تنبثق منه غالبية الجماعات العنقودية التي انتشرت في صعيد مصر لاحقاً ، في أعقاب تلقى التنظيم الأم عدة ضربات أمنية قوية كان من شأنها إجهاض شكله المركزي وتفتيت بنيته التحتية ، وتفكيكه هيكله التنظيمي .
والمعروف أن محمد عبد السلام فرج كان مهندساً في الثلاثين من عمره ـ حينئذ ـ من بلدة الدلنجات بالبحيرة ، وكان قد انسلخ كما أسلفنا من تنظيم الجهاد السكندري الأول ، ثم سافر إلى القاهرة ليعمل مهندساً بجامعة القاهرة وأقام بحي بولاق الدكرور ، وهناك التقى بطارق الزمر وعبود الزمر واستطاع إقناعهما بأفكاره التي ضمنها فيما بعد مؤلفه الشهير "الفريضة الغائبة" ـ والمقصود بها الجهاد ، والذي يعتبره معظم المراقبين الدستور الفكري والحركي لكل التنظيمات والجماعات التي تدور في فلك التيار الجهادي ، وقد طرح فيه& عبد السلام فرج تأصيلاً جديداً لتكتيك المنهج الحركي يعتمد على المزج بين الدعوة العلنية لأدبيات التنظيم والاعتبارات المرعية في العمل التنظيمي السري ،وتعرض بالشرح والتنظير لمصطلح الجهاد وجعله فرض عين على كل مسلم باعتباره أداة التغيير والاستيلاء على مقاليد السلطة وفقاً لتصورات تأسست في مجملها على التراث الفقهي والفكري لرموز هذا الاتجاه بدءاً من ابن تيمية ومروراً بأبي الأعلى المودودي وانتهاء بسيد قطب ، وفي هذا الكتيب استطاع فرج أن يحشد أكبر قدر ممكن من الآراء الأيدلوجية التي ترسخ الرؤية الحركية التي ينشدها التنظيم ضد كل من أسماهم بالكفار والمشركين والطواغيت وتناول العديد من الأمور الفقهية في إطار تنظيمي وحركي مستشهداً ببعض ما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومنها على سبيل المثال الرواية الشهيرة عن مقتل اليهودي كعب بن الأشرف( وغيرها .
وعموما تتضح المعتقدات الواردة في الكتاب من استعراض تلك النصوص الواردة به:
* أن كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين .
* هناك من يقول أن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس والأرض المقدسة والحقيقة أن تحرير الأراضي المقدسة فرض شرعي على كل مسلم ، ولكن يجب توضيح أن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد ،
* الأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر بل هي قوانين وضعها كفار وسيروا عليها المسلمين فبعد ذهاب الخلافة نهائياً في عام 1924 واقتلاع أحكام الإسلام كلها واستبدال أحكام الكفار بها أصبحت حالتهم هي نفس حالة التتار الذين يجب قتالهم وجهادهم
وهكذا تمكن فرج بحنكة تنظيمية ، واقتدار لاشك فيه أن يقنع العديد من الشباب بالانخراط في صفوف تنظيمه أو جماعته خاصة من بين قطاعات طلاب الجامعة الأم في القاهرة فضلاً عن عناصر ذات خبرات عسكرية مثل عبود الزمر وعصام القمري ونبيل المغربي وغيرهم ، وهكذا أصبح فرج بفضل منطقه الفقهي ومنهجه الحركي شخصيه محورية لكل هؤلاء الأعضاء حتى كان لقاؤه بأمراء تنظيم الجماعة الإسلامية بالصعيد ، والذين كانوا هاربين آنذاك من تتبع أجهزة الأمن لهم عقب حوادث العنف الطائفي بالمنيا ، وتمكن من إخفائهم وتدبير أماكن لإيوائهم والعمل على توفير منابع للتمويل تقوم على عدة مصادر بدءاً بفرض الإتاوات وعمليات السطو على محلات الذهب وغيرها ، وعقدت صفقة تنظيمية بينهما ليشتد عود التنظيمين معاً ، الجماعة الإسلامية والجهاد ، وتم بالفعل دمجهما في إطار بنية تنظيمية موحدة ، وتم تأسيس الهيكل التنظيمي لهذا التحالف الجديد على النحو التالي تفصيله بعد& :
"مجلس شورى التنظيم" :
ويضم أحد عشر عضواً& هم& :محمد عبد السلام فرج& وعبود الزمر وناجح عبد الله إبراهيم وكرم زهدي وعلى الشريف وفؤاد حنفي وعصام دربالة وحمدى عبد الرحمن وطلعت قاسم& وعاصم عبد الماجد& وأسامة حافظ ، وتم توزيع العمل مركزياً فيما بينهم شريطة أن يكون مجلس الشورى& هذا هو الهيئة العليا التي تملك سلطة الإدارة وتجنيد الأعضاء والتمويل ، وباختصار كل الأنشطة ما عدا الفتوى التي أسندت لعمر عبد الرحمن والذي صار مرشداً روحياً ومرجعية فكرية فيما يتصل بالخلافات الفقهية بين أعضاء التنظيم ، وقد انبثقت عن هذا المجلس لجان ثلاث هي :
"لجنة الدعوة" :
وهى بمثابة الجهاز الإعلامي والدعائي للتنظيم ، وتختص بإعداد المنشورات والملصقات والنشرات وطباعتها وتوزيعها، وتعمل على نشر فكر التنظيم وفقا لخطة متدرجة فتستقطب في البداية أكبر عدد ممكن من الأعضاء الجدد ، من خلال إعداد الخطب والندوات بالمساجد التي يسيطرون عليها وتنظيم سير الأمور بها والعمل على ضم المزيد من هذه المساجد الأهلية ، بالإضافة لطبع الكتب والمنشورات التي تخدم منهجهم الفكري .
"لجنة العدة" أو "الجناح العسكري" :
وهى المعروفة إعلامياً بالجناح العسكري للتنظيم ، وتشتمل مهامها على إعداد وتزويد التنظيم بالأسلحة والذخيرة والسيارات والرسوم البيانية للأهداف تمهيدا للتعامل معها تخريبياً ، ومن المنطقي أنها تضم عدداً من العسكريين السابقين والشباب المؤهلين بدنياً وفكرياً للمضي في أعمال العنف لاحقاً .
وفي إحدى الوثائق السرية لهذا التنظيم والمرجح أن يكون عبود الزمر هو الذي وضعها ، وتشتمل على شرح تفصيلي لخطة التحرك من خلال لجنة العدة ، وهى بعنوان (مقومات الاستمرار) وتتضمن إستراتيجية التحرك على المحاور التالية :
1 ـ محور التحرك الانقلابي المفاجئ : ويعتمد على إعداد البنية التنظيمية المؤهلة والقادرة على الإطاحة بنظام الحكم القائم والاستيلاء على كافة السلطات بالدولة مع اتخاذ التدابير الاحتياطية للتصدي لأية تحركات معادية للثورة الإسلامية حتى تستقر الأوضاع والأركان التي يقوم عليها الحكم الجديد ، والحقيقة أن هذا المحور يعتمد أسلوب الانقلاب العسكري كخطة حركية للتنظيم على النحو الذي تناوله فيما قبل صالح سرية في مخططه لإقامة الدولة الإسلامية وفقاً لتصوراته التنظيمية .
2 ـ محور دفع الجماهير لتأييد الانقلاب : وهو محور مكمل للمحور السابق حيث يجرى الإعداد لحشد الجماهير في الاتجاه المؤيد للانقلاب المخطط لتنفيذه حسماً لاحتمالات التدخل الأجنبي لمؤازرة النظام القائم أو إعاقة تسلم التنظيم للسلطات في الدولة ، ومن هنا يتحتم وجود تحرك جماهيري يمثل العمق الشعبي لخطة التنظيم الانقلابية ، ويدعم التنظيم أمام الرأي العام العالمي .
3 ـ محور توحيد الجهود والطاقات لتأييد الانقلاب : ويعتمد هذا الجانب من الخطة على توحيد صفوف الفصائل والتنظيمات الإسلامية المتعددة وحشد فعالياتها أثناء المواجهة المرتقبة مع النظام ومؤسساته بالقدر الذي يكفل تنفيذ خطة الانقلاب بنجاح ، مع النظر بعين الاعتبار إلى استفادة كل هذه القوى الداعمة والمؤيدة في حالة التمكن وهو وعد صريح بقطعة من كعكة النجاح لكل من شارك في صنعه .
4 ـ محور التحول إلى الخطط البديلة : والمقصود بالخطط البديلة هي تلك التصورات التي سبق الإعداد لها من قبل بهدف التعامل مع الموقف الجديد إذا تعرضت الخطة الأصلية للفشل أو التدهور كلية أو في أحد عناصرها الرئيسية لأي سبب من الأسباب 0
5 ـ محور التحرك الاضطراري : ويرتبط هذا التحرك بالتوقيت المقرر لتنفيذ الانقلاب ، ولكن في حالة وقوع خلل مفاجئ للنظام الحاكم الحالي بما يتحتم معه ضرورة التحرك الفوري من جانب التنظيم لتنفيذ خطة الانقلاب قبل موعده المحدد وهو الأمر الذي اتضح أنه يتطلب لتنفيذه بذل المزيد من الجهود المكثفة ، واختصار بعض الإجراءات الثانوية مع مراعاة عدم الإخلال بالخطوط العريضة للخطة الأصلية ، كما يجب تفعيل هذا المحور في حالة انكشاف أمر التنظيم من جانب أجهزة الأمن .
6 ـ محور الردع والنصرة : وهو جانب تكتيكي من الخطة العامة للتنظيم يستهدف تفتيت جهود أجهزة الأمن وتشتيت قواها في عدة عمليات متفرقة من شأنها إشاعة الذعر داخل الأوساط& السياسية والشعبية مما يدفعها إلى إحداث تغييرات مستمرة في قيادات أجهزة الأمن وهو الأمر الذي يمنح التنظيم المزيد من الوقت اللازم لإعداد كوادره والمضي في تنفيذ مخططاته وإبعاد الأنظار عن تحركاته أو متابعته بصورة أو بأخرى .
وعلى الرغم من شمولية المحاور التي تضمنتها هذه الخطة إلا أنه ينبغي أن نضع في الاعتبار أنها كانت تتسم بالعمومية التي تقتضي التعامل معها بوصفها مجرد خطوط عريضة ذات طابع إستراتيجي وهو الأمر الذي تداركه أمراء الجماعة في عدة وثائق تنظيمية أخرى اهتمت بالتفاصيل العملية بصورة مباشرة ومن بينها وثيقة بعنوان (مراحل تطور الحركة الإسلامية) والتي تناولت التفاصيل الحركية لتحقيق أهداف التنظيم من خلال آليات محددة ورد ذكرها بالنص في الوثيقة كالاغتيال واختطاف بعض الشخصيات المؤثرة وقطع خطوط المواصلات والاتصالات واحتجاز الممثلين الدبلوماسيين الأجانب بهدف منع التدخل الأجنبي وعلى النحو الذي سلكته الثورة الإيرانية حيال أعضاء السفارة الأمريكية في طهران ، ومن الجدير بالذكر أن هذه الخطة كانت تقتضي مرور ثلاث سنوات حتى يتأهل التنظيم لتنفيذ بنودها ومحاورها وفقاً لأقوال عبود الزمر أمام نيابة أمن الدولة .
"لجنة بيت المال" : أو "اللجنة الاقتـصادية"
وهى بمنزلة وزارة مالية التنظيم وخزانته العامة ، وتهتم بتدبير المال بطرق شتى تبدأ بوسيلة جمع التبرعات من أثرياء الجماعة ومن خلال صناديق التبرعات بالمساجد& ومن العاملين منهم خارج البلاد ، وذلك بالإضافة لعمليات السطو المسلح على محلات الذهب التي أفتى عمر عبد الرحمن بإباحة سرقتها فيما عرف بفتوى الاستحلال ، وقد يمتد نشاط هذه اللجنة للاتصال الخارجي بجهات الدعم الأجنبية سواء كانت أشخاصاً أو هيئات أو مؤسسات سوف نتوقف في موضع آخر لتناولها بشيء من التفصيل المناسب 0
كان هذا السرد السابق عن الشكل المركزي للتنظيم بصورة عامة ، أما عن الإطار المحلى فقد روعي أن يلتزم أمراء المحافظات والمدن والمساجد بهذا الإطار التنظيمي بشكل مصغر ومماثل للبنية الرئيسية لمجلس شورى التنظيم وذلك شريطة أن يشرف عليها أمير المنطقة الذي قد يكون هو نفسه عضوا بمجلس الشورى أو إحدى اللجان المشار إليها ، مع التنويه هنا لاعتبارات أمن العمل السري التي رسخها أيضاً عبود الزمر من واقع خبراته السابقة& كضابط سابق بالمخابرات الحربية ، وقد تلخصت فيما يلي :
1 ـ العلم بقدر حاجة عضو التنظيم إلى المعلومة وأسندها شرعياً إلى المقولة الشهيرة "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه إلى ما يعنيه"0
2 ـ متابعة أمراء المناطق ورؤساء اللجان وأسرهم سلوكيا وفكريا ورصد تحركاتهم واتصالاتهم وأساليب ممارستهم حياتهم اليومية 0
3 ـ إنشاء ما يشبه جهاز المخابرات الخاص بالتنظيم ، والذي يختص بجمع المعلومات عن أشخاص أو أهداف يراها التنظيم هدفا له 00أو حتى يعتبرها محل بحث لأية أغراض أخرى ، ويتم ذلك من خلال أعداد كبيرة من الصبية والنساء الذين يجهلون بالطبع خطورة الدور الذي يقومون به والمتمثل في زرعهم في المجتمع أو المحيط الذي يسهل تحركهم داخله دون أن يثيروا الانتباه أو توخى الحذر في التعامل معهم .
4 ـ إقرار مبدأ "التقية" ولعل أبرز مظاهر تطبيق هذا المبدأ يتمثل في عدم الالتزام بالمظهر المألوف لأعضاء الجماعات المتطرفة كالزي الأفغاني المميز واللحية المرسلة وخلافه ، وذلك الأمر مقصور على أعضاء لجنة العدة من الكوادر الحركية وعلى بعض الهاربين أو المستهدفين منهم وفقا لكل حالة على حدة .
وبهذا الاستعراض يتضح أن التنظيم قد قطع شوطاً رهيباً في بنائه وتقسيم الأدوار داخله ، ولكن الصراع على إمارة التنظيم كان على أشده بين أمراء الصعيد من ناحية وفرج من ناحية أخرى ، وعبود الزمر من ناحية ثالثة ، وكاد أن يتمزق شملهم لولا أنهم اتفقوا على اختيار عمر عبد الرحمن الأستاذ بكلية الشريعة بالأزهر لعرض إمارة التنظيم عليه لعدة اعتبارات منها تخصصه في أصول الدين وعلوم الحديث ، وفكره المتطرف المعلن ، هذا فضلا عن كونه يفوقهم جميعاً في العمر وبالفعل توجه موفدون من الفريقين لمقابلته والتقوا به مرة بمنزله في بنى سويف ، ومرة أخرى بمنزله الثاني في الفيوم ، وطرحوا عليه أفكارهم ومواضع خلافاتهم الفكرية والتنظيمية ودعوه لقيادة التحالف المزمع عقده بين الجماعتين ، وقبل دعوتهم بعد مداولات وعمل على فض الاشتباك بين الأمراء بمنطق السمع والطاعة ، وانفرد هو بحق إصدار الفتوى ورئاسة لجنة العلماء التي تم إنشاؤها ، ومضى هذا التنظيم المحكم يمارس أنشطته في طول البلاد وعرضها حتى أفاق الجميع على صوت الرصاصات التي اخترقت صدر السادات ، وتلتها أحداث مذبحة أسيوط الشهيرة ، وهنا تعرضوا لعمليات أمنية متكررة أسفرت عن فض ذلك الشكل المركزي السابق للتنظيم ، وإن تكونت من بقاياه العديد من الخلايا العنقودية في صعيد مصر ظلت كلها تتبنى ذات المنهج الفكري وتعمل وفقاً للأطر التنظيمية& السابقة ، ولكن بدلا من العمليات الكبرى لجأت لوسيلة الكر والفر وعمليات العنف الفردية المتفرقة هنا وهناك وذلك بهدف إنهاك أجهزة الأمن وإشاعة جو من الارتباك على المستوى السياسي والأمني بالبلاد ، وإثبات الذات والتواجد على الساحة .
وأما عن رؤيتهم للشورى : فلعل ما ورد على لسان منظر التنظيم وعرابه الأول محمد عبد السلام فرج أمام النيابة ما يوضح لنا مفهومهم للشورى ، فقد ورد بأقواله في التحقيقات( رداً على سؤال عن قواعد الشورى التي يتبعها :
"ينفرد الأمير باختيار الموضوع المطروح للشورى أولا ، وبعدها يختار من يستشيرهم من أعضاء المجلس ، والشورى لا ترد على الأصول العامة ، بل تنحصر في المسائل الفرعية اليومية أو العارضة ، ومع هذا كله فالشورى ليست ملزمة بل معلمة للأمير ، فله أن يأخذ بها أو ينفرد برأيه ولو اجتمعت الأمة بأسرها على خلاف ما ذهب إليه 00 فالأمر مفوض للأمير بموجب البيعة وعلى الكافة السمع والطاعة" .
وحول وضع هذه الجماعات الآن ، فقد مضت نحو أربع سنوات من الهدوء أعقبت ست سنوات دموية ولا يزال الجدل قائما حول ما إذا كانت مصر قد نجحت في استئصال شأفة هذه الجماعات المتطرفة أم انه الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فعلي الرغم من عدم وقوع أية أعمال عنف تذكر منذ عام 1997 ، يرى المراقبون انه ليس من المؤكد حتى الآن ما إذا كانت هذه الجماعات الراديكالية قد تخلت عن حلمها في إقامة دولة إسلامية وفقا لمفاهيمها عن طريق العنف ، أم أن الأمر لا يعدو فرصة لالتقاط أنفاسها وانتظار الأوضاع المواتية لتعود للعنف .
وكانت أكبر عملية تشهدها مصر قبل الهدوء الحالي هي المذبحة التي قتل فيها أعضاء في الجماعة الإسلامية 58 سائحا أجنبيا وأربعة مصريين في مدينة الأقصر في نوفمبر عام 1997 بعد أربعة أشهر فقط من توجيه بعض زعمائها نداء عرف بمبادرة "وقف العنف" .
وكان القادة السجناء لتنظيم الجماعة الإسلامية في مصر قد أعلنوا من محبسهم في "سجن طرة" في يوليو من نفس العام مبادرة لوقف العنف من جانب واحد. ولم تفشل مذبحة الأقصر دعوتهم السلمية ، وفي مارس من العام 1998 ألقي قادة الجماعة المقيمون في الخارج بثقلهم وراء نداء زملائهم السجناء لوقف إطلاق النار منهين رسميا ست سنوات من العنف الذي راح ضحيته نحو 1200 شخص معظمهم من الشرطة وأعضاء الجماعة .
لكن المراقبين يؤكدون أن مبادرة "وقف العنف" لم تكن السبب الوحيد وراء الهدوء الذي ساد مصر في أعقاب مذبحة الأقصر ، بل يعود الأمر أيضاً إلى أن سلطات الأمن المصرية قد أحرزت نجاحا كبيرا في توجيه ضربات قوية للجماعات الأصولية عموماً في مصر .
أما على صعيد جماعة "الجهاد" فقد شهدت خلال السنوات الماضية جملة من التفاعلات التي جرت داخل بنية التنظيم ، وأفضت إلى استقالة أيمن الظواهري من موقع القيادة المحلية للتنظيم ، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل التنظيم الذي يعد من أبرز الحركات الأصولية المصرية ، وعلي رغم أن عمليات العنف التي نفذها عناصر التنظيم لم تكن بالكثافة نفسها التي كانت عليها عمليات تنظيم الجماعة الإسلامية إلا أنها كانت الأضخم والأعنف ، والأكثر تعقيداً ، بدءاً من محاولتي اغتيال رئيس الوزراء السابق الدكتور عاطف صدقي ووزير الداخلية السابق حسن الألفي العام 1993، ومروراً بتفجير السفارة المصرية في باكستان العام 1995 ، وانتهاء بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في أغسطس العام 1998 والتي يعتقد أن التنظيم كان طرفاً في العمليتين من خلال تحالف الظواهري في فبراير من العام 1998 مع تنظيم القاعدة الذي يقوده اسامة بن لادن تحت لافتة ما يعرف بـ "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" .
(يتبع)