القاهرةـ من محمود قرني: بدأت فكرة هذا الاستطلاع قبل تفجر الازمة التي نشبت اثر نشر الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي عددا من المقالات بجريدة الاهرام القاهرية ضد قصيدة النثر كال فيها اتهامات متعددة، رأي انها جذرية وكفيلة بازالة اثر هذا النوع الشعري من الوجود، بادئا بربط الشعر ربطا تلازميا بالوزن معتبرا ان الخروج من الوزن هو خروج، لا محالة، من الشعر! ونحن لن نجعل هذه التقدمة ساحة للرد علي ما يذهب اليه حجازي أو غيره من الذين يقفون موقفا معاديا من هذه القصيدة، لانه ـ ببساطة ـ لا يعني الكثير، سواء شبّه القصيدة الجديدة بالأميبا او بالطاووس، لان النص موجود وقائم بشكل كاسح، في الوقت الذي تراجعت فيه بشكل لافت قصيدة التفعيلة ليس بزعم استنفادها كافة اغراضها، ولكن لان القطاع الاشمل من الشعراء تحول الي قصيدة النثر. ويمكن الزعم الان ـ رغم أرتال الشعراء الجدد ـ ان القصيدة المصرية تمر بلحظة خصبة، بعد ان حفر شعراء النص الجديد طرقا ممهدة لتجاربهم باتت تتأكد كل يوم ومع كل ديوان جديد، وبرز عديد من الاسماء التي ينعقد عليها امل كبير في انجاز شعرية عربية جديدة. لا سيما بعد ان تخلص الشعراء من المواصفات والمواضعات الفجة والمتطرفة التي اشاعوها مع بداية هذا النص حول تحطيم وتجاوز الأشكال الشعرية الأخري.
لذلك اقترحت القدس العربي في هذا الاستطلاع الاسئلة التالية:
قصيدة النثر المصرية تمضي الان نحو انجاز مشروعها محتفية بتمايزات خاصة، وتبدو اليومية المفرطة والتفاصيل الصغيرة اكثر الملامح بروزا. فالي اي مدي استطاعت هذه اليومية المفرطة انجاز شعرية مختلفة؟ وهل هذه اليومية تحتمل ان تكون سجلا مجتمعيا راصدا لآلام الخارج؟
والي اي مدي استطاعت سردية هذا النص الالمام بملامح المكان وروحيته، وما مدي صحة نسبة قصيدة النثر المصرية الي القصيدة الشامية واللبنانية تحديدا؟ وهل كل نص نثري جديد مطالب باحتذاء هذه التفاصيل والسرديات، وتجاهل القضايا الكبري واللغة حتي يصبح جديدا؟
هذه الاسئلة المتشعبة ولكن المتقاطعة عند نقطة مركزية واحدة هي التي وجهت الي طائفة من الشعراء والشاعرات والنقاد الذين واللواتي لا نزعم انهم ممثلون نهائيون للمشهد الشعري والنقدي في مصر ولكنهم يمثلون المشهد الفاعل بمعظم جوانبه. وكان غياب بعض الاسماء خارجا عن ارادتنا فالبعض تهرب من الاجابة لأسباب تخصه مثلما فعل عماد ابو صالح واحمد يماني، ورفض البعض الاخر الإجابة مثل محمد بدوي، وعدم وجود البعض الاخر داخل البلاد مثل علاء خالد ومحمد عيد ابراهيم.
اما بالنسبة للنقاد المشاركين فقد اخترنا الا تكون الاسماء من بين اللامعين من نقادنا، لاننا نعتقد ان هؤلاء ـ في الاغلب ـ يتناولون القصيدة الجديدة بأدوات قديمة، او يكررون مواقفهم وهي منشورة عشرات المرات، لذلك فان النقاد المشاركين في هذا الاستطلاع، وان اختلفنا حول اقوال بعضهم، الا انهم يمثلون جدة، نسبية، فيما يقولون، وان غلبت النظرة العلمية والمنهجية علي منظورات النقد الراهن، فانها لاشك سوف تكتمل مع الجهد والنظر بعين موضوعية الي النص الجديد.
هنا الاجابات:
&
النموذج اللبناني طائفي ماروني!

الشاعر أحمد طه
ولَجَتْ قضية قصيدة النثر في اللغة العربية اكثر الطرق تعقيدا ووعورة، منذ بدأت مزاحمة قصيدة التفعيلة في اواخر الخمسينيات، وذلك عبر مجلة شعر اللبنانية الشهيرة، فقد صوبت اليها الاتهامات وكذا الي اصحابها والداعين لها، والتي بدأت ـ اعني الاتهامات ـ في حفل الادب، واتسمت لتشمل في النهاية تهما تقترب من التخابر مع العدو الغربي والخيانة العظمي!
صحيح ان مناقشة هذا الرافد الجديد في شعر اللغة العربية لابد وان تقود الي ثقافة الاخر الغربي والي تفسير طبيعة العلاقة معه ثقافيا، وهل هي حوار ام تبعية، ام محض تقليد ساذج وقشري، حيث ان تأثير الابداع الغربي علي الاداب العربية الجديدة وفي مقدمتها قصيدة النثر لا يمكن الشك فيه او محاولة نفيه، غير ان ولوج هذا الطريق في عصر الاستقطاب الايديولــوجي كــــان لابد وان يؤدي الي خروج القضية من حفل الادب والفن الي حقل فاسد التربة وهو حقل الصراع السياسي الديماجوجي.
ورغم انقضاء ذلك العصر تاريخيا، سواء بنهاية تلك النظم الشمولية والعسكرية بموتها الاكلينيكي ـ رغم بقاء السترات المموهة والشعارات الديماغوجية ـ وكذا بسقوط بيروت كبؤرة ثقافية ليبرالية في منطقة الشرق الاوسط ـ بما انتهت اليه الحرب الاهلية اللبنانية، الا ان قصيدة النثر المصرية، التي بدأ ميلادها الفعلي في السبعينات واكتمل نموها وامتدادها في التسعينات سرعان ما وجهت اليها نفس الاسلحة ـ التي اصبحت فاسدة ـ التي وجهت من قبل الي القصيدة اللبنانية بل ان انتشار المد السلفي اضاف اسلحة اضافية الي الاسلحة القديمة في وجه ذلك الرافد الشعري الجديد.
فهل يعني ذلك ان قصيدة النثر المصرية تعد امتدادا لنظيرتها اللبنانية، التي سبقتها زمنيا بحوالي ربع قرن من الزمان؟
ان الاجابة الجاهزة لدي انصار المدرسة البيروتية هي الايجاب بلا تحفظ، وهي اجابة لا تختلف عن دعاوي مماثلة زعمت في الماضي ان النهضة العربية الحديثة صنعها تلامذة الارساليات التبشيرية الغربية علي الارض اللبنانية، او تلك التي زعمت ان تطور موسيقي الشعر العربي جاء نتيجة التأثر بالتراتيل الكنسية.
النموذج اللبناني النهضوي ـ في رأينا ـ لا يمكنه الانتقال خارج لبنان، بل ازعم انه عاجز عن الانتقال خارج الطائفة المارونية التي اقامته وذلك ثابت من النظر الي مسيرة الشعر اللبناني نفسه، فمنذ السبعينيات بدأ شعر الجنوب اللبناني في الاتساع والتمدد، ليسيطر علي الشعر اللبناني حتي التسعينيات، وهذا النموذج الشعري لم يبدأ بما انتهت اليه المدرسة العربية الشعرية المجاورة الفلسطينية والعراقية.
الشعر البيروتي، او شعر الطائفة المارونية ومحيطها الثقافي المحدود، يؤرخ له انصار تلك المدرسة بداية من جبران كرائد اول، وتلك واقعة ثابتة، فما ارساه جبران من قيم شعرية وفكرية ما زال مهيمنا علي ذلك الشعر سواء في موضوعاته التي يغلب عليها الهم الميتافيزيقي غالبا والوجودي احيانا، او اعتبار المسيح كنموذج للانسان الكامل، او باعتبار الكتاب المقدس هو الكتاب المركزي الذي ينتهي اليه دائما رموز الحداثة اللبنانية سواء كانوا من اصحاب الشعر الموزون المقفي او من اصحاب قصيدة الشعر الحر.
فقد اعاد رموز النهضة الشعرية البيروتية صياغة هذا الكتاب من خلال رؤية ابداعية ولغوية او شعرية بداية من جبران وحتي انسي الحاج مرورا بالياس شبكة وتوفيق صايغ ويوسف الخال وغيرهم، بالاضافة الي ان انقطاع هذه الطائفة عن المجتمع اللبناني ككل، ومحيطها العربي عامة اتاح لها الخوض في التجريب بغير كوابح اجتماعية او مكانية.
ولهذا كان من السهل دائما طمس هذه النهضة في كل تحول يصيب الكتلة اللبنانية المتعددة، لصالح القوي الطائفية الجديدة وهو ما حدث بالفعل مؤخراً.
لهذا فان جذور ومرتكزات قصيدة النثر المصرية تعود للتفاعلات المعقدة الخاصة بالمجتمع المصري، ولهذا فان كل تطور او تحول يتم في مصر لا يمكن النكوص عنه او محوه لانه يتم وسط شروط اجتماعية ووفق تفاعلات تتم في مجتمع كامل وهو ما لا يتوافر في الكتلة السكانية التي تسكن الارض اللبنانية.
واذا نظرنا الي قصيدة النثر البيروتية ونظيرتها المصرية نجد ان الاولي وضعت اطارا حديديا لمحيط قصيدة النثر، بينما بدأت القصيدة المصرية بأفق مفتوح وطرحت كمؤشر لتحول ثقافي واجتماعي وسياسي طرأ علي المجتمع المصري بعد الفترة القومية الشمولية، ونتيجة لتحللها، اجتماعيا وسياسيا وفكريا، فالقصيدة المصرية ذات افق اجتماعي لا يمكن اخفاء معالمه ولم تتمحور حول الهم الميتافيزيقي. او الذاتي الضيق، وليست لها علاقة بالكتابة الجبرانية الدينية او بامتداداتها في مجلة شعر ، بل انني ازعم من خلال متابعتي ومعرفتي الشخصية والشعرية بشعراء قصيدة النثر المصرية، انهم لم يطلعوا اطلاقا علي مجلة شعر البيروتية ولا علي شعر رموز هذه المدرسة الكبار، حتي ولو ادعي بعضهم غير ذلك.
لقد احتفت القصيدة اللبنانية باللغة، وكان التشكيل اللغوي (البلاغي والمجازي) يمثل المرتكز الجمالي الاساسي لها، بينما، اعتمدت القصيدة المصرية علي موت المجاز والبلاغة لصالح الرؤية الشعرية التي تتخلق باكتمال القصيدة. كما ان القصيدة المصرية ليســـت لها مرجعيات غربية شعرية مباشرة بل ان اهم مرجعياتها لا يعود الي الفنون المعتمدة علي اللغة بــــل علي العين وعلي جهة النظر اي الزاوية التي ينظر بها الشاعر الي مفردات حياته وواقعه الصغيرة ليحولها الي كيان شعري ينتمي اليه ولا ينتمي الي ذلك المصدر الذي غذي وما زال القصيدة البيروتية في مرحلة الازمة الحالية.
ضد المراكز والأطراف

الشاعر فتحي عبد الله

ان شعرية قصيدة النثر في مصر، لا يمكن فصلها عن حيوية الاداء الشعري الجديد في العالم العربي، ولا يمكن عزلها عن التعدد الاجتماعي والصراعات اليومية التي تأخذ اشكالا جديدة تبدأ بالعنف المباشر، الذي لا يعتمد علي الطقوس والاشارات ثم العنف الرمزي من خلال الوسائط، بدءا من الكتابة و انتهاء بالصورة، ليخلص الي اللذائذية المفرطة، التي تسعي الي خلق رموز جديدة قابلة للاستهلاك الفوري، دون عمق او احساس بالتاريخ، ومما يزيد من حضور وفاعلية هذه الأشكال في الآونة الاخيرة، التزايد المستمر لسلطة المعرفة وتغيرها الدائم لتتناسب مع ما يحدث في العالم من تغييرات جذرية، تضع الشعرية كلها موضوع المساءلة والاتهام، لا لتنفيها وانما لتسقط منها ما هو هش ولين، اخذ شعريته من اللغة، ولا يمت للشاعر والانفعالات الجديدة بصلة. واظن ان نصيب هذه الشعرية بمصر قليل، فما زالت النصوص في اغلبها تعتمد البناء الموروث من القصيدة الحديثة، وهذا لا ينفي الأشكال المقترحة من بعض الشعراء، ولكن يشير الي فاعليتها المحدودة وعدم الالتفات لها، والانشغال بما هو شائع وقائم علي التجريد والاطلاق، وكأن الشعرية سابقة للحظة الكتابة مثل الحديث الدائم والمتكرر عن التفاصيل الصغيرة وكأنها العمود الجديد لقصيدة النثر ان التفاصيل تختلف من شاعر الي آخر، وتتحقق في كل نص بطريقة مختلفة، وبالرغم من اهميتها للشعر حيث انها وجدت في الشعرية العربية منذ القدم، وبطريقة تناسب الشاعر والزمن الذي يعيشه الا انها اصبحت في الآونة الاخيرة مركز الشعرية الي درجة ان ضعاف المواهب يتخذونها طريقا الي الشعــــر او علامة عليه. ومعظم ما قدم من نصوص شعرية في مصر، تحت هذا الهاجس لا يمت للشعر بصلة، وانما الذين قدموا تجاربهم معتمدين علي ما اتيح لهم من مفردات الشعر (وهي كثيرة) فانهم استخدموها بطريقة جديدة، انتجت شعرا.
ومن ضمن الشائعات التي لازمت قصيدة النثر في مصر انها قصيدة مفارقة وقصيرة ولا بد ان تحدث نوعا من التهكم والسخرية، فجاءت معظم النصوص التي تعتمد هذه الطريقة ذهنية وقائمة علي التصور الارسطي، الذي يلغي الخيال ويلغي كل ما هو شخصي وانساني. وتكون المفارقة ضعيفة، لانها لفظية بالاساس ولا تعكس تناقضات الحياة، بل تكرس لاحاديثها او ثنائيتها الحادة والفارغة من الفعل الحقيقي، ولا شك ان المفارقة احدي طرق الشعر، لكنها ليست الباب الواسع له. ومن هنا فان النصوص الشعرية القائمة علي المفارقة في قصيدة النثر بمصر، وهي كثيرة كانت تكرارا وتقليدا ولم ينج من هذا المأزق الا التجارب القليلة التي تدرك صعوبة هذا الشكل وما يناسبه من تجارب. لقد تحرر هذا النمط الادائي (قصيدة النثر) من سلطة النوع والتجنيس، وسعي بديمقراطية نادرة لرد الاعتبار لكل ما هو مهمل ومحذوف من الاداءات الشخصية كالحركة والايماءة بما في ذلك لغة الجسد وآليات السماع والمشاهدة ليعلن من قيمة المجاز القائم علي المشهد، سواء كان هذا المشهد مسرحيا او سينمائيا وركز علي توليد الدلالة من العلاقات لا من اللغة او من الحركة او ترتيب المشهد او من كل ذلك، وفتح هذا النمط الباب واسعا لكل ما هو انساني ومشترك بين الجماعات البشرية وهذا لا ينفي خصوصية مكان الشاعر ولا ما ينتظمه من علاقات روحية ومادية، شرط الا تكون عنصرية او ايديولوجية، تعلي من قيمة الجغرافيا علي حساب الفعل الانساني. وقد حرر هذا النمط الادائي الثقافة العربية من صراع المركز والاطراف ولا يعود الي هذا الصراع الا الباحثون عن وجود اجتماعي او سياسي لم تحققه لهم النصوص او من الموتورين الطائفيين، الذين يعلون من قيمة جغرافيتهم الخاصة وثقافتهم في مواجهة الآخر وهؤلاء لا ينتمون لنموذج الشعرية الجديد الا في الشكل فقط، وهم في الحقيقة كلاسيكيون تجاوزهم التاريخ ولا دور لهم فيما يحدث الآن سواء علي صعيد الشعرية او علي صعيد الفعل الثقافي وتمثل قصيدة النثر، العلاقة الفارقة للتقاطع مع ما بعد الحداثة، بكل اشكالياتها وخياراتها المتعددة، وهذا ليس ناتجا عن التقليد والتغريب او التأثير والتأثر بمفهومه القديم وانما في جزء منه الي تقارب ما هو ثقافي وابداعي في كل حقب التاريخ، اي يعود الي طبيعته الشعرية في كل اللغات، وفي جزء اخر منه الي طبيعة الحقبة المعاشة، التي تلعب سرعة الاتصالات والمعلومات دورا كبيرا في انتاج المعرفة وتدويلها، دون احتكار او استعلاء ومن هنا يلعب السرد والحكاية الصغيرة دور البطولة لا الحكايات الكبري ولا المجاز اللغوي، وانا اعتقد ان كل الشعريات الجديدة في العالم، لا ترفض التاريخ بل تعيد صياغته بطريقة جديدة، لا تعتمد علي الانتقاء والتوفيق.
اما اللغة فهي شيء اساسي في الشعر وهي الاداة واما ان تكون عضوية مناسبة للتجربة واما ان تكون غير ذلك كأن يماهي الشاعر بينها وبين الشعر او ان يعتبرها مجرد وسيلة.
لغة يومية ضد الماضي
الشاعر ميلاد زكريا

ثمة لبس واضح او سوء فهم كبير وراء ظهور تلك المقولة في السنوات الاولي من التسعينيات، حتي اصبحت تبدو وكأنها لون شعري خاص وجديد، وكأن اليومية واستخدام التفاصيل محطة جديدة في تاريخ الشعر المصري او العربي بصفة عامة.
هذا اللبس مردود الي خطأ اجرائي فادح، خطأ يتصور ان لغة الشعر لابد ان تكون ذات مواصفات خاصة، لغة مفارقة علوية تهبط علي الشاعر من السماء. والسبب الاساسي في ظهور هذا التصور العجيب يرجع في المقام الاول الي الانفصال الحاد بين تطور اللغة وانحرافاتها المتواصلة وبين تعامل الشاعر مع هذا التطور. ونتيجة لذلك ترسخ مفهوم غريب بأن الشعر لابد ان يأتي علي نحو مشابه لهذه الحالة:
لعمري القنا الشوارع تمري
من تلاع الطلي نجيعا صبيبا
وأقصد هنا انه في نفس الوقت الذي تبدلت فيه مفردات اللغة كاملة تقريبا ظل الشعراء يستندون الي مفردات بعينها ظنا منهم ان لغة غير هذه تصبح كفرا بدين الشعر.
وبالتالي اصبح لدينا متحف لغوي محدود يأخذ منه الشعراء دون ان يفي باحتياجات القصيدة بالفعل، لانها في النهاية مفردات لقوم آخرين، اقصد هنا مثلا ان شاعرا مثل احمد شوقي كان يكتب بلغة ابي تمام وليس لغة النصف الاول من القرن العشرين.
كان الشاعر القديم يكتب تفاصيله اليومية والمفردات والاحداث التي تقع فعلا بشكل يومي في اطار مدركاته وحتي هذه اللحظة يصر البعض علي استعادة هذه اللغة المجمدة علي اساس انها اللغة الاصلية للشعر، بل ان هؤلاء يطالبون الشعراء جميعا بالعودة لهذا الاصل الميت، يطالبون انسانا تحيط به السيارات والقطارات والتليفونات واجهزة الكمبيوتر والاسلحة النووية والبنطلونات والبلوزات والانترنت وناطحات السحاب.. الخ ان يلغي كل هذا الوجود وكل هذه اللغة ليكتب بنفس مشاعر ولغة انسان كان يعيش في الصحراء ولا يحيط به سوي الابل والخيام والرمل والسيوف والرمام.. الخ! وكأنهم بالضبط يطلبون من الشاعر ان يظل عائشا في الماضي وسط عالم يسبق الغد في كل ثانية من هنا وعندما انتبه شعراء قصيدة النثر تحديدا الي هذه الهوة السحيقة التي تفصل بين الشاعر ولغة الحياة عادوا الي القاعدة الاولي للكتابة وهي ضرورة ان يكتب الشاعر بلغة الناس ومفرداتهم وتفاصيلهم مثلما كان يفعل الشاعر القديم تماما.. في واقع الامر ان الشــــاعر من الطبيعي ان يكتب تفاصيله ومفردات محيطه والا سيبدو كما لو كان هو الوحيد الذي يرتدي ملابس التنكر في حفل ليس تنكريا.
من هنا اخلص الي القول ان شاعر التفاصيل اليومية الصغيرة هــــو نفسه الشاعر الحقيقي المتفاعل مع مجتمعه، هو القــــادر ان يكتب عن الناس وعن نفسه بصدق، وبالتالي فان كل شاعر مطالب بالفعل ان يعتقد بهذه الطريقة وبهذه اللغة، ليس من قبيل التجديد، وانما بهدف ان يكون شاعرا فعلا.
كيف اعيش مثلا في بولاق الدكرور وفي اللحظة التي اسير فيها في احد شوارع هذا الحي الشعبي يختلط صوت مقلاة الفلافل بصوت المنادي علي البرتقال وصوت السيارات وموسيقي الكاسيتات بصوت المشاجرات الصغيرة بصوت النرد في المقهي واكتب بيت شعر كهذا:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
بسقط اللوي بين الدخول فحومل
اين هي هذه الدخول واين هذا اللوي واين هذا الـ حومل ، الطبيعي هنا ان استبدل هذه الاماكن الثلاثة مثلا بـ (بولاق الدكرور ـ كوبري الخشب ـ ناهية) التي تمثل اجزاء من تفاصيل هذا الحي، وهذا هو بالضبط ما يفعله شعراء النثر حاليا، يستبدلون مفردات الزمن الماضي بمفرداتهم وحيواتهم الخاصة وباللغة المفهومة المتداولة، الشاعر هنا لا يتجاهل القضايا الكبري ولكنه يعبر عنها بلغة اهله، وهو ايضا لا يتجاهل اللغة بل هو الذي يستخدمها، والشاعر الذي يصر علي استخدام لغة الاقدمين هو الذي يمكن ان نطلق عليه لقب تارك اللغة لانه يتنصل من مسؤوليته تجاه واقعه ويهرب الي الماضي.
اما فيما يتعلق بقضية نسبة الاتجاهات الشعرية في مصر حاليا الي القصيدة اللبنانية فأعتقد ـ في وجهة نظري ـ انه اتهام خائب ولا يرتكز علي اصول نظرية حقيقية تدعمه ويشبه الي حد كبير رد قصيدة النثر في العالم كله الي قصيدة النثر الفرنسية، واعتقد ان قراءة واحدة لنصوص النثر المصرية المتميزة سوف تكشف دون جهد عن انتمائها الكامل للبنية المصرية، فما بالك اذا كان اصحـــاب هذا الاتهام انفسهم لا يستطيعون تحديد مواصفات واضحة لقصيدة النثر اللبنانية، فكيف استطاعوا العثور علي نظائر لمثل هذه المواصفات في قصيدة النثر المصرية!
السبق اللبناني زمني فقط

الشاعر محمود خير الله

ملمح اليومية المفرطة والتفاصيل الصغيرة الاكثر انتشارا وتمييزا لقصيدة النثر يعكس ضمن ما يعكس رغبة قوية للخروج من اسر القصيدة العربية السابقة، قصيدة العمود الشعري والتفعيلة ، ويعكس ايضا رؤية شعراء النثر للانهيار التاريخي الخطير الذي شهده المجتمع العربي في السنوات العشرين الاخيرة، من غياب كافة المشروعات القومية علي أيدي حكام البرجوازية الكولونيالية المسيطرة في اغلب الاوطان العربية، اظن ان قصيدة النثر ـ بوعي احيانا وبغير وعي احيانا اخري ـ مثلت آلة الرفض الشعرية لتفشي القمع في المجتمعات العربية، وتساقط ورقة التوت عن الانظمة المتخلفة الحاكمة، تحدثت قصيدة النثر عن هاجس التفاصيل اليومية لهدم أسطورة النظام الشعري الصارم، بينما تبنت احباطات الانسان في مواجهة مهالكه اليومية، واعتمدت علي نثرية الحياة وعفويتها، في مواجهة الصرامة العمودية والتفعيلية التي اهلكت الانسان العربي اوائل ومنتصف القرن العشرين، حيث هزمنا بأشعار موزونة وقمعنا بكلام مقفي، كان علي العشراء ان يبحثوا عن سبيل لهدم البناء الشكلي الذي يتعالي علي الاحباط اليومي في الشارع العربي، ويتعالي علي الواقع، ويفضل التحليق في سماء الغيبوبة، ثمة شعراء نثر يسيئون لهذا الفهم والاسماء كثيرة في مصر وغيرها، هناك ادعياء، الا ان الفرز الحقيقي لا يترك دعيا.
ـ لابد ان تنغمس قصيدة النثر في صياغة احباطات الهزيمة اليومية للمحروم والخائف والمتراجع والهش من البشر، هذه العوالم الكئيبة هي المحيط الذي ستسبح فيه قصيدة النثر، حيث تحول الحكم اللغوي بقصيدة السبعينات الي بيان عن قداسة صرف ما، بينما كتاب البيان يموتون جوعا او عطشاً او خوفا من سلطة ما، كان هذا مند عشرين عاما، اما الآن فالامر مختلف، اصبح الصراع الطبقي واضحا جدا، لا تملك قوة تضليلية ان تغيبه او ان تشوهه، لا الدين ولا التلفزيون ولا مباراة كرة اصبحت قادرة علي التعتيم، كل شيء واضح، كل شيء مؤلم، لما لا تكون القصيدة النثرية واضحة ومؤلمة؟
احتفي وقصيدتي بالانسان، لأدافع عن انسانيته المهدرة، مثلما تفعل الفنون في اعلي مراحلها، علي مدار تاريخ الشعر العربي القديم، لم تضعف القصيدة العربية الا عندما كانت تستبعد آلام الناس لتتحدث عن آلام الذات الفردية، او لتتحدث عن آلام الشاعر مع اللغة، تضعف القصيدة حينما يضعف الوعي الطبقي لدي الشاعر، اطفال عرايا ينامون ليلتهم علي حواف الارصفة، وبجوارهم زجاج مصقول لواجهات اطعمة امريكية او فرنسية او شركات عابرة للقارات، الشاعر الاعمي يري هذا المشهد ويفكر في صياغة قصيدة عن الحب الالهي مثلا، بينما الشاعر الرائي سيفكر بطريقة مختلفة تماما، سيري علي الاقل ان علاقة ما بين هؤلاء العرايا ونظافة واجهة هذه الشركات من كل دول العالم.
ـ تنتسب قصيدة النثر المصرية الي الشامية او اللبنانية في بعض قصائد لشعراء مصريين متواضعي القيمة والقامة، مثل هؤلاء لا يصلحون لشيء لا في الشعر ولا في الحياة، واري ان خلف كل حجر في الشارع الضيق توجد قصيدة تتمني من شاعر ان يكتبها، اما اذا كان الشاعر اعمي فسيفرح حينما يكتبها بدلا منه وديع سعادة وسيقلده بلا شك، اما اذا كان مبدعا فسيكتبها ويتألم، وربما يقرأها شاعر اعمي ويقلده.
سبقت قصيدة النثر اللبنانية اخواتها العربية زمنيا فقط، وهذا ليس معيار قيمة، اذا استطاعت القصيدة اللبنانية ان تكون كاشفة للصراعات الطبقية والانسانية في لبنان، فهذا يدعو للفرح، ويكمل القوي العربي اما اذا كانت الاسبقية زمانية فقط فما جدواها اذن؟ اري المشهد اللبناني والمصري والسوري حافلا بأسماء جديدة. ستأخذ مسار قصيدة الشعر العربي الي مشارب جديدة، اذا كانت واعية بما تكتب.
يحاول البعض ارجـــاع قصـــيدة النــــثر المصرية الي العهد الفرعوني، ما جدوي ذلك، اذا كان بعض شعراء قصيدة النثر اليوم في مصر، يجهلون الكثير عن واقعهم وتراثــــهم الشفـــاهي ومرجعيتهم الفكرية، وهؤلاء لا يعول عليهم او علي قصائدهم.
ـ القضايا الكبري ما معني هذه الفرية؟ من الذي يحدد حجم القضية، هذه صغيرة، وهذه كبيرة، الانسان في هزائمه اليومية امام محلات بيع الاطعمة الرخيصة قضية كبري ، الموظف امام رئيسه المختلس قضية كبري . الفتاة حين يفاجئها الحيض لأول مرة وهي تسير في الشارع قضية كبري ليســــت القضية الكبري هي الوطن وحده، لان الوطن مطلقا هكذا، يضم الحاكم والمحكوم، المشبع والجائع، النائم علي الرصيف وراكب السيارة الفارهة، فأي جزء من الوطن هو القضية الكبري ؟
هذه الفرية ابدعها منظرون من عهود بائدة، وقصيدة النثر تمشي فوق رؤوسهم بحذاء من حديد، ربما لتمزق هذه الاوهام التي تعشش فيها.
ـ في ظني ان قصيدة النثر هي السهل الممتنع، هي سردية ونثرية وتبدو عفوية غير ممنهجة في احيان كثيرة، لكنها سردية واعية ونثرية لا تلتقط غير الجذري، وممنهجة بصورة لا يجب ان تلحظ، لهذا السبب، يسقط شعراء كثيرون في هوة العادية ولانهم غبر مبدعين يظنون ان هذا العادي هو الشعر، وهؤلاء يكتبون قصيدة لا تتناقض مع شروط منافذ النشر المصرية والعربية، وتجد لهم قصائد كل صباح في جريدة او مجلة، وهم حريصون علي القصائد المغسولة من التابو السياسي، بينما بعض قـصائدهم يحتفي بالتابو الجنسي، وهي صيغة منفرة حيث يعلمون ان السلطة القمعية لا تسمح بهدم التابو السياسي، وقد تسمح بضرب التابو الجنسي اذا كان لا بد من هدم تابو ما، وعليه فهم شعراء متواطئون مع السلطة بطريقة ما.
ـ قصيدة النثر الجيدة هي التي تملك مبررات قوة لغتها او ضعفــــها، لان اللغــــة ليســــت غاية من القصيدة، وليست مجرد وسيلة عابرة من ناحية اخري، اللغة في قصيدة النثر يجب ان تكون دقيقة ومستخدمة استخدامات صحيحة، لكن الغاية هو الانسان الذي تصفه هذه القصيدة، الصورة اذن وسيلة تتعامل واللغة معاملة يجب ان تكون يقظة ودقيقة. اذا اهتمت قصيدة باللغة وبانفجار الدلالات المتواصل ضعفت لان غاية الفن لم تتحقق وهي الانسان، اذا اهتمت بسرد تفاصيل ميتة عن حياة مواطن دون ادراك للتافه وغير الجذري، ضعفت القصيدة ايضا، لانها لم تملك الوعي الذي يفرق بين الشعري ـ في اللحظة الملتقطة ـ وغير الشعري او غير الهادف.
اعرف شعراء لا يقيمون جملة صحيحة لغويا، بعضهم صححت له ديوانه قبل ان يطبعه، هؤلاء يفتقدون وسيلة الكتابة ولا يملكون سلطة التعبير المتميز بل هؤلاء هم الذين يقلدون غيرهم، وهم مكفوفون شعريا، لان اللغة للشاعر هي الفأس للفلاح، وضربة الفأس السليمة هي التي تنتج محصولا سليما.
عمل الشاعر لا يشبه عمل الجواهرجي المنمق والمتكلف، بل يشبه شاعر قصيدة النثر الفلاح الذي يرعي ارضه ويتقــــن ضربـــــة الفأس ويهيئ المياه للمحصول الجديد، يعرف المواسم ويلقي بدقة بذوره، حتي تتساوي الارض بالزرع في رؤية كلية شاملة وحين يروي ارضه يكون كل شيء في مكانه السليم، ويخرج الجمال في نمو سريع ودقيق للنباتات، هكذا الشاعر لا يهتم باللغة بل يتقنها، لا يهتم بتجارب الآخرين بـــــل يعرفـــها جيدا ويتشرب خبرتهم وهكذا. اذا اعتقد الفلاح ان محصوله يجب ان يخرج جميلا كلوحة فنية، لن يزرع ابدا، هو يتقن اولا ثم يزرع فيخرج المحصول جميلا ووفيرا.
الاشعار المضيئة لدي المتنبي هي التي تقول بلغة بسيطة معني عميقا، ـ مثلا الفلاح تماما ـ فهو قدم انتاجية المحصول علي الجمال، اما احمد شوقي فقصيدته هي التجسيد الامثل للتكلف والاهتمام البالغ بجمال دون محصول، ودون انتاجية، كلنا يعرف كم نمق احمد شوقي من قصائد، لم يبق منها الا القليل جدا. (عن القدس العربي).

&