&
هاشم صالح
ظلت الحداثة&واثقة من نفسها، بل ومغرورة بذاتها حتى عام 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الاولى. ثم تلتها بعدئذ بعشرين سنة فقط الحرب العالمية الثانية (1939-1945). عندئذ تلقت الحداثة الغربية ضربة موجعة ما كان لأحد يتوقعها. فقد كنا نتوقع ان تقدم العلم مستمر الى ما لا نهاية، وكذلك تقدم الحضارة والتمدن والرقي. كنا نتوقع بان العقل قد اصبح سيد الموقف بشكل لا مرجوع عنه. وفجأة تنفجر الأهواء الهائجة والعصبيات القومية فتدمر حضارة رائعة كان بناؤها قد استغرق ثلاثة قرون متواصلة. هنا نجد ان الفلسفة الهيغلية تبدو عاجزة عن تفسير الموقف. فعقل التنوير أثبت فشله في القضاء على الغرائز الانانية والوحشية المتجذرة في اعماق الانسان. ولذا راحت الاهواء اللاعقلانية تكتسح أكثر الأمم البشرية تقدما ورقيا كالأمة الفرنسية، والألمانية، والانكليزية..الخ.
وهكذا فقد عقل التنوير سيادته المطلقة التي كان يتمتع بها سابقا، بل وأخذت الشكوك تحوم حوله، وكذلك الانتقادات. لأول مرة يصبح العقل في قفص الاتهام! فهل فقدت الحضارة عقلها، أم جنّ جنونها؟ وكيف؟ واذا كان العقل قد فقد مصداقيته، فماذا تبقى لنا؟ على هذه الاسئلة راح الفلاسفة والادباء الكبار يجيبون بعد ان صدمتهم انباء المجازر المرعبة التي ارتكبت اثناء الحربين العالميتين. عندئذ اختلت ثقة الحداثة بنفسها لاول مرة، وفقدت الكثير من جاذبيتها وهيبتها. وكانت نكسة حقيقية لكل المؤمنين بالحضارة والتقدم.
فرويد: اللاوعي يتحكم بنا اكثر من الوعي
في الواقع ان فرويد كان قد اجاب على ذلك بشكل ما عندما قال بان البشرية تمتلك في اعماقها شهوة التدمير الذاتي او الانتحار الجماعي. ومعلوم ان نظرية فرويد حول علم نفس الأعماق (أو التحليل النفسي) كانت قد شكلت بقدرة العقل على السيطرة على كل شيء. فليس بالعقل وحده يحيا الإنسان، انما بالعواطف المتفجرة أيضا أحيانا اللاعقلانية. ثم بيّن لنا فرويد ان الانسان ليس سيدا في بيته على عكس ما يتوهم. فوعيه ليس وحده الذي يتحكم فيه، وانما لاوعيه ايضا. وهكذا وجّه فرويد ضربة قوية لنظرية العقل الكلاسيكي الممتدة من ديكارت الى عصر التنوير والتي كانت تتوهم بان العقل هو سيد الموقف بدون منازع. ثم جاء فرويد لكي يكتشف تلك القارة العائلة، المظلمة والخطرة، والتي تدعى باللاوعي، وقال بانها هي التي تتحكم بتصرفاتنا وسلوكنا مثل الوعي واكثر.
لقد دمر فرويد التصور الكلاسيكي السائد عن العقل، وبالتالي عن الانسان. وكان ذلك يعتبر بمثابة خلخلة كبيرة في تاريخ الفكر. ثم جاء بعده فلاسفة مدرسة فرانكفورت من امثال أدورنو وهوركهايمر، وقالوا بما بمعناه: ان البربرية التي تجلّت اثناء الحرب العالمية الثانية تدفعنا دفعا لطرح السؤال التالي: لماذا دمّر العقل نفسه بنفسه؟ أليست هذه هي السمة الاساسية للقرن العشرين؟ فالعقل أخذ يبدو منذ الان فصاعدا بصفته أداة حسابية وقمعية ولم يعد أداة تحريرية. صحيح انه أتاح لنا ان نسيطر على الطبيعة كما قال ديكارت، ولكنه أدى ايضا الى سيطرة الانسان على الانسان، بل واستئصاله له بشكل جماعي احيانا. ثم أردف أدورنو يقول "لقد هيمن عقل التنوير طيلة الفترة الماضية بفضل المفهوم، أدلته الأساسية. ولكنه لا يخدم في نهاية المطاف التفتح الانساني الحر. فكيف يمكن ان هذا العقل، الغالي جدا على فلاسفة التنوير، قد فقد قيمته؟ كيف يمكن ان نفهم هذا التدمير الذاتي للذات؟ لا يمكن ان نفهمه الا على اساس ان العقل مستخدم هنا كقوة اجرائية، أو كأداة انتهازية وحسابية باردة هدفها خدمة البورجوازية والرأسمالية، وليس خدمة البحث عن الحقيقة".
لا ريب ان هذا الكلام متشائم اكثر من اللزوم. ولا يمكن ان نفهمه الا ضمن سياقه الذي كتب فيه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. فالنفوس كانت مظلمة انذاك، والفلاسفة كانوا ثائرين على كل ما هو عقل، او علم، او تكنولوجيا. وكانوا يعتبرون العقلانية التكنولوجية بمثابة المسؤولة عن الكارثة.
اندريه بريتون والكتابة بدون أي مراقبة من العقل
ولكن ليس الفلاسفة كانوا هم وحدهم الثائرين على الحداثة التكنولوجية التي دمرت مدن أوروبا، وانما الادباء والشعراء أيضا. فهم قالوا: وداعاً أيها العقل! ينبغي ألا ننسى ان الحركة السوريالية كانت قد اندلعت بعد الحرب العالمية الأولى، وكرد فعل على فظائعها ومجازرها. وفي المانيفست الاول& للسوريالية يكتب اندريه بريتون قائلا بما معناه "ان السوريالية تعني الاوتوماتيكية النفسانية الصِرْفة التي نعبر من خلالها أما شفهيا واما كتابيا واما بأي طريقة اخرى عن كيفية الاشتغال الحقيقية للفكر. انها املاء للفكر خارج أي مراقبة يقوم بها العقل، وخارج أي انشغالات جمالية او اخلاقية". هكذا اصبح العقل مرادفا للقمع، والكبت، واصبحت الثورة عليه فرضا واجبا. وفي الستينات لم يقل ميشيل فوكو شيئا اخر عندما ألّف كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي". ومن المعلوم انه اختتمه بصفحات رائعة يثني فيها على الجنون" جنون العباقرة من امثال هولدرلين، او نيتشه او فان غوخ او انطونان ارتو.. ودعا العقل لكي ينحني امام هذا الجنون وليس العكس.
مرض العقل او العقل المريض
لا يمكن فهم رد الفعل الهائج هذا على العقلانية الوضعية والتكنولوجية الا اذا تموضعنا داخل السياق الاوروبي الذي ذاق الأمرين من الحربين العالميتين، والذي كانت خيبة أمله كبيرة جدا بالوضع الذي آلت اليه الحداثة. هكذا راح الفلاسفة والادباء والشعراء يشكون في ان تكون للعقل أسس متينة يرتكز عليها، او ضمانة موثوقة تمنعه من الانقلاب الى نقيضه: أي اللاعقل والهيجان المجنون (لنتخيل هتلر هنا، ولو للحظة، وهو يخطب في الجماهير الالمانية بكل عصبية ونزق، وكيف يجيّش الملايين لتدمير ذاتها وتدمير اوروبا..). لذلك راح فلاسفة فرنفكروت يتحدثون عن مرض العقل او العقل المريض، هذا العقل الذي ولّد في اوروبا الحضارية والمترفة والبورجوازية كل الحركات الفاشية والنازية والتوتاليتارية. فهذه الحركات منظمة ايضا تنظيما عقلانيا صارما، ومن هنا فعاليتها وشرورها. وفي كتابه "كسوف العقل" يكتب هوركهايمر بما معناه: "ان مرض العقل ليس حدثا طارئا في التاريخ، وانما هو مرتبط بارهاب المفهوم& او المصطلح البارد، وبمبدأ الفساد الأزلي المرتبط بكل مصطلح بارد. وبما ان العقل تولّد عن الرغبة العصبية او الانفعالية الهادفة الى السيطرة على الطبيعة، فانه يمثل فعلا ممارسة ارهابية او استبدادية..".
نقاشات اوروبية واميركية حول "ما بعد الحداثة"
هذا الهجوم العنيف على العقل قد يدهشنا اليوم، بل ويصدمنا. فماذا نفعل بدون عقل؟ ولكن ينبغي ان نموضعه ضمن سياقه كما قلنا. فقد كفر مثقفو أوروبا وفلاسفتها بكل عقل او علم بعد كل ما حصل. ولكن ينبغي ان نعلم ان محاكمة عقل التنوير (أي عقل الحداثة) بمثل هذه القسوة من قبل مدرسة فرانكفورت اولا، ثم من قبل ميشيل فوكو وجماعته لاحقا، تقع الآن في صلب المناقشة الكبرى الدائرة حاليا في اوروبا واميركا حول نقد الحداثة او ضورة تجاوزها الى "ما بعد الحداثة". وهي مناقشة فلسفية عميقة جدا ولا استطيع الخوض فيها هنا لانها تتطلب صفحات مطولة وتطويرات معقدة. ولكن ربما عدت اليها لاحقا عندما سأتحدث عن "الخطاب الفلسفي للحداثة" والصراع الذي خاضه هابرماس ضد مدرسة فرانفكورت، وميشيل فوكو، والتيار النيتشوي او العدمي الذي يريد القضاء على المنجزات الايجابية للحداثة. وهنا تطرح اشكالية "ما بعد الحداثة" بكل أبعادها. سوف اكتفي حاليا بالقول بان هابرماس يريد ان ينقذ مشروع الحداثة، وان يعيد لعقلانية التنوير الثقة بنفسها بعد كل الخضّات والهزات والانحرافات التي تعرضت لها في هذا القرن العشرين المنصرم...
لكن لا ينبغي ان نفهم هذا الكلام ان القرن العشرين كان كله وبالاً على الحداثة. فالواقع ان العلم خقق فيه تقدما وانجازات رائعة. يكفي ان نفكر باستكشاف الفضاء والوصول الى سطح القمر، او بكل المخترعات الحديثة التي سهلت حياة الانسان، ثم بتقدم الطلب.. الخ يكفي ان نفكر بثورة الفيزياء الحديثة في نصفه الاول، وثورة علم الاحياء او البيولوجيا في النصف الثاني من القرن، والتي توجت مؤخرا، باكتشاف الجينوم البشري.
ينبغي انقاذ العقل وليس طمس انجازات الحداثة
صحيح ان ضحايا الشيوعية ومعسكرات الاعتقال والتعذيب يتجاوز المائة مليون شخص. وقل الأمر ذاته عن ضحايا الحركات التوتاليتارية الأخرى كالنازية والفاشية واليمين المتطرف بكل اشكاله وانواعه. ولكن العقلانية الحضارية انتصرت في نهاية المطاف، والديمقراطية أصبحت حقيقة واقعة وراسخة في المجتمعات الأوروبية المتقدمة. وقل الأمر ذاته عن دولة الحق& والقانون التي تضمن الحريات الاساسية لجميع المواطنين. وبالتالي فلا ينبغي ان نستهين بانجازات الحداثة. ول أحد يعرف قيمتها إلا من فقدها. لا تعرف قيمتها إلا شعوبنا التي تعاني من الفقر والجوع والتعصب الديني، والحروب الأهلية، والاستبداد السياسي، والأفق المسدود. وبالتالي فاذا كنت قد ركزت على سلبيات الحداثة في هذا المقال فليس من اجل طمس إيجابياتها او الدعوة للعودة الى ما قبل الحداثة! فما الى هذا قصدت. وأنا هنا اتبع خط هابرماس المدافع عن عقلانية التنوير بعد مراجعتها وتنقيحها بالطبع، وليس خط فوكو والعدميين النيتشويين الذين يريدون تدمير الحداثة او الاطاحة بها. اقول ذلك على الرغم من احترامي لمدرسة فرانكفورت وانجازات ميشيل فوكو والانتقادات الوجيهة والصائبة التي وجهت لانحرافات الحداثة الرأسمالية الغربية. ولكن ينبغي إنقاذ العقل في نهاية المطاف، لا إغراق السفينة بركابها.. وبعد ردة الفعل اليائسة (والمفهومة) بل والمشروعة على كوارث الحداثة الرأسمالية اللاانسانية، تجيء مرحلة الفعل والحكمة والتفكير الهادئ والرصين. وهنا تكمن مهمة الفلسفة منذ اقدم الازمان - منذ اليونان- وحتى يومنا هذا.
الفلسفة يعني حب الحكمة
الفلسفة تعني حب الحكمة. ولعل تطرف الحضارة الغربية في الخط العلموي، الوضعي، البارد، هو سبب انحراف الحداثة وفقدانها لجوهرها الانساني الذي كانت تتمتع به في البداية اثناء عصر التنوير الكبير (عصر جان جاك روسو وايمانويل كانط، والكبار الاخرين). نعم لقد حرف مشروعهم عن خطه الصحيح في لحظة ما، لكي يخدم مصالح طبقة قائدة واستعلائية: هي الطبقة الرأسمالية التي لا تشبع. والدليل على ذلك تنافس شركاتها حاليا على عقد الصفقات في بلدان العالم الثالث، وشعوبه تئن تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان. بالطبع فان اخر شيء يمكن ان نطلبه من الشركات الرأسمالية هو ان يكون لها قلب، او عواطف انسانية.. ولكن.
هوسيرل: العقلانية الفلسفية ومجد أوروبا

أحيانا اتساءل: أليس العقل العلموي والتكنولوجي البارد هو سبب انحراف الحداثة وفقدانها لجوهرها الانساني؟ من المعلوم ان الفلسفة الوضعية لـ"حلقة فيينا" لا تؤمن الا بالأرقام، والوقائع الثابتة، والتجارب المخبرية، والمعادلات الرياضية. وكل ما عدا ذلك تعتبره ميتافيزيقا، ولغوا لا معنى له. ولذلك فان التكنوقراط الذين ينتمون الى هذا التيار هاجموا الفلسفة في عهد الرئيس جيسكار ديستان باعتبار انه لا مردود اقتصادي من ورائها! هنا تكمن أزمة الحضارة الغربية: كل شيء لا يؤدي الى مردود اقتصادي، او ربح، او فائدة، لا معنى له. وهكذا بُتِر العقل في أحد بعديه: البعد الفلسفي الانساني، ولم يبق إلا بعده الثاني، أي البعد المنفعي التكنولوجي. هكذا انحرفت الحداثة عن خطها الصحيح واصبحت ذات بعد واحد فقط: بُعد يهمل ما يشكل جوهر كل حضارة وكل حداثة: انسانية الانسان. وهذا ما انتبه اليه هوسيرل (1859-1938)، مؤسس الفلسفة الظاهراتية (أو الفينومينولوجية).
وككل مفكر كبير راح هوسيرل يشخص مرض الحضارة الأوروبية أو أزمتها. وراح يخوض المعركة على جبهتين: ضد اللاعقلانيين، وضد الوضعيين الجدد الذين يختصرون الفلسفة الى مجرد معادلات رياضية. وقال بان عقلانيتهم التي يتبجحون بها وبدقتها وصرامتها ليست الا عقلانية مزيفة وضيقة. فهم يعتقدون بانهم يتحدثون باسم العلم والعقل، ولكنهم في الواقع يتمسكون بالوقائع المادية البحتة المفرغة من كل معنى وكل حقيقة. وفي كتابه "أزمة البشرية الأوروبية والفلسفة" يقول هوسيرل ما معناه:
"أن أزمة وجود أوروبا لا يمكن ان تحل الا بوجهين: إما أن تنقرض اوروبا عن طريق الابتعاد عن مشروعها العقلاني الخاص الذي يشكل معناها الحقيقي والحيوي ثم تغطس في الحق على الروح وفي البربرية الهمجية. وإما ان تنبعث أوروبا عن طريق روح الفلسفة وذلك بفضل بطولة العقل الذي سوف يتجاوز عندئذ، وبشكل نهائي، الوضعية الطبيعية المغرقة في ماديتها". هكذا نجد ان الحل، بحسب هوسيرل، يكمن في العقلانية الفلسفية التي صنعت مجد أوروبا على مدار القرون، وبخاصة في القرون الاربعة الماضية: قرون الحداثة.