كيث ألسن
&
تمركزت الصوفية منذ ظهورها، حول فكرة واحدة هي وحدانية الله. ومن المثير ان نذكر ان عنصر الحب الآلهي قد دخل في الواقع الى الصوفية التي خرجت من رحم الحركات الزهدية على يد رابعة العدوية العراقية، ( ت ـ 801 م ) التي كانت تقول ان عبادة الله لا يجب ان تكون خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة، بل لجماله السرمدي و كما قال ايضا، الامام علي(رض): ألهي ما عبدتك خوفا من النار ولا طمعا بالجنة لكنني رايتك أهلا للعبادة. وقد كان مقدراً لفكرة الحب هذه ان تتخلل الصوفية فيما بعد، حباً خالصاً مكرساً للخالق المتجلي في كل شيء. ويشهد القرآن الكريم على وجود آيات الله " أينما تولوا ثمة وجه الله . فكل شيء ينطق بعظمته وحكمته وابداعه، وظهرت الصوفية (التي تستمد احدى معانيها من كلمة "صوف" العربية، وهي رداء الزهاد الصوفي ) بعد حوالى قرن على وفاة الرسول محمد(ص) ( 632 م) وتقلبت في اشكال عدة من بغداد الى اندونيسيا الى غرب افريقيا حيثما حط المسلمون الرحال في تلك البلاد. وكانت و لا تزال الموسيقى تشكل عنصرا هاما في الطقوس الصوفية التي تعتمد على الوزن الشعري والصورة الدينية التي يوحي بها المتصوفة في ملاحمهم وأشعارهم امثال ابن عربي والشيرازي، وفريد الدين العطار والحلاج وغيرهم.
يصف الصوفي الهندي حضرت عنايت خان "قانون الموسيقى" بانه "قانون الحياة، وحس التناسب، وشريعة الانسجام، التي تحقق التوازن، انه القانون الكامن وراء جميع مظاهر الحياة، الذي يحافظ على سلامة هذا الكون ويتبين غايته القصوى في جميع ارجائه، محققاً غرضه". ويرى بأن "الموسيقى هي كل ما يمكن لوجداننا ان يدركه حتى الآن من الصورة الكبرى ". وقد قال حافظ الشيرازي الشاعر الصوفي بوضوح " بأن الحياة ذاتها سماع (موسيقى) " فلا غرور اذاً في ان نجد،& بناء على ما تقدم، بان الموسيقى قد تكون خير وعاء لتجسيد عمق وقوة الروحانية الصوفية.
و عن ما يميز الموسيقى الصوفية عن غيرها من الموسيقى ذكر الموسيقي العربي أحمد مختار: الموسيقى الصوفية غير منفصلة عن الموسيقى الشرقية الكلاسيكية ومن الصعب إعطاءها خصوصية او تعريف منفصل عن تلك الموسيقى بالمعنى العلمي الأكاديمي، ولكن في هذا الجانب نستطيع ان نشير الى بعض الخصائص التي تعطي للموسيقى الصوفية سماتها البارزة، مثلاً: هي تتضمن نماذج إيقاعية خاصة تتصف ببطئ السرعة و التعقيد، أستخدام الشعر العرفاني حيث يمتزج مع اللحن الذي يبُنى بطريقة هرمية متصاعدة في الروحية و التكنيك، أستخدام المرددين أو جوقات المنشدين ليرددوا الجملة الاخيرة من كل مقطع شعري فقط، الموسيقى الصوفية و الشرقية متآلفتين ومتقارنتين الى درجة أن بعض الشعراء الصوفين يستخدمون أسماء الآلات الموسيقية و عض الترنيمات لوصف او ترجمة مشاعرهم التي لها خصوصية.
اما من جانب روحي فأن الموسيقى أذا حتلت مكانها في الفراغ الكوني الصحيح سوف تأثر بالحجر، كما قال الصوفي الكبيرابن عربي، لذا تسعى الموسيقى الصوفية الى التقرب من المطلق، فتراها ترمي الى الإيحاء و الابتعاد عن العالم المادي، و اداءها بحق هو تحقيق لغايتها، وهذه مهمة شاقة جدا.
ويقول حسين عمومي، عازف الناي العالمي الشهير " ان الموسيقى تعتمد على الجو الروحاني للشعر، وعلى وزن الشعر ومعناه، بحيث لا يسع المغني عند الأداء أهمال معنى القصيدة لان إيقاع الوزن الشعري للقصيدة هو الذي يخلق الإيقاع الموسيقي، بينما يخلق معنى القصيدة الجو العام للموسيقى.
&
كيف تؤدى هذه الموسيقى؟
&
يغني المنشد في المحافل الموسيقية التي تقام في "خانة كاة" او بيوت الصوفية، شعراً من وضع شعراء الصوفية الكبار، بصحبة آلة مثل الطنبور اوالعود او الناي ودف واحد على الاقل، وقد يصل عدد ضاربي الدفوف الى خمسين في المناسبات الكبيرة. ينشد المغني جملة، لتجيب عليها الآلة الموسيقية التي قد تكرر احياناً نفس الجملة التي غنيت قبل قليل موسيقياً، او قد تردفها بما يوازيها هارمونياً وليس مجرد نسخها حرفيا، رغم بقاء هذة الجملة على حالها في الظاهر. ويعتقد عمومي الذي يمارس الغناء ايضاً انه لا يمكن الفصل بين العناصر الغنائية والآلاتية العزفية لانها وثيقة الصلة ببعضها لدرجة يتعين فيها على الموسيقي ان يكون بارعاً في الاثنين معاً، وهو ما نجده في التربية الموسيقية الصوفية. ويقول عمومي " نبتدأ جميعاً بالغناء، ولكن قلة قليلة من العازفين تستمر على هذا النهج. و يوجد فرق كبير بين العازفين غير المغنين، وبين غيرهم من العازفين الذين يغنون. وذلك لان الاخيرين يبحثون في صميم القصائد عن روحية معينة كامنة فيها، وعندما لا تصدح حناجرهم بالغناء ينتابهم حينذاك شعور بفقدان شيء ما. ولا يمكن الفصل بين الموسيقى الصوفية ونظيرتها التقليدية الشرقية. فكلاهما تستندان على أرث من القطع اللحنية تدعى الواحدة منها (وصلة) او (ركن) تتراوح مابين 400 ـ 500 قطعة، تنتظم حسب بنائها الموسيقي في اثني عشر(مقاماً ). ويعتمد الجزء الرئيسي من كل معزوفة موسيقية على الارتجال في العزف كتنويع على هذه المقامات ضمن حدود معلومة. ولا يمكن للموسيقي البراعة في هذا المجال الا بعد سنين من الدراسة المتعمقة والتتلمذ على يد أستاذ من جهابذة هذا الفن. ولا يبرع في هذا المجال من كل جيل الا القلة.
كان هنالك فضلا كبيرا للموسيقى العربية التي هاجرت مع دخول العرب الى الاندلس و انتقلت مع الكثير من مجالات الحياة الى الغرب و كذلك ادبيات المتصوفة، حيث ساهمت الموسيقى و الادبيات بخلق خيال ديني خصب في الفن الاوربي في القرون الوسطى حتى يومنا هذا و ما نراه في كتابات الشعراء والموسيقيين المعاصرين اليوم هو خير دليل على ذلك وأعمال الأمريكي روبرت بالي تدل على التاثر الصوفي بشعراء مثل الشيرازي و ابن عربي، وكثير من الاعمال الموسيقية حتى و صل هذا التأثير الى اشهر مغنيات البوب في الغرب مادونا حيث غنت للرومي احد القصائد بطريقة معاصرة فيها الكثير من سمات الموسيقى الصوفية. و لو رجعنا الى الوراء قليلا لوجدنا ان كتاب كثيرون قد ترجموا اعمال شعراء الصوفية و أصبحت الاعمال الصوفية متداولة منذ 1856 في بريطانيا عندما ترجم أدورد فيزكراد رباعيات عمر الخيام وبذلك فتح الباب امام الراغبين بدخول هذا العالم الروحي. و هنالك جانبين في الصوفية جذبا المتلقي الغربي هما الشعر والموسيقى، وفي بداية القرن العشرين اصبحت هذه العناصرالصوفية منتشرة بين الموسيقين والادباء و الفنانيين، وعلى اثر ذلك نشرت جامعة اوكسفور الانكليزية في عام 1917مجلداً تحت عنوان ( العبارات الصوفية )،& وفي الثلاثينيات وضع مؤلفون موسيقيون كبار اعمالهم متأثيرن بهذه الأفكار الروحية، حتى وصلت الى موسيقى البوب وذلك في السبعينيات عندما بدأت فرقة البيتلس ولأول مرة العلاقة بين نجوم البوب و العالم الروحي. واليوم هنالك من يعتقد ان الموسيقى الصوفية الشرقية، سوف تبقى معبر عن العالم الروحي الذي يلجأ اليه المرء في زمن الزحام الصوتي وعالم الماديات.
عن جريدة التايمز اللندنية
ترجمة و اعداد: علي سالم