خالد الرويعي
صالح العزاز.. وداعاً نسيانهم لا يكفــــي.
واستعادتهم من المستحيل&
&
&
بحلول فجر الأحد الماضي.. كان صالح العزاز.. قد رحل.. مخلفا 34 ربيعاً من عمره في حب الكتابة وجسد الصورة. مات صاحب (الجنادرية والحدث) وصاحب معرض (بلا حدود)، مات (الأزرق)الذي كان ينشد (المستحيل) مات صالح العزاز. فما بين هيوستن و الرياض كان أصدقاء الفقيد يترقبون أخباره بالأمل وبالدعوات الصادقة في كل وقت، حتي أن جسد الثقافة (موقع مجلة الإقلاع الإلكترونية) أفردت قسماً خاصاً لمحبي ومعارف الفقيد آن تواجده في (هيوستن) يتداولون فيه أملاً مشتركاً وصلوات ودعوات تتمني خروج الفقيد من ظلام المرض آنذاك. فها هي ذا من سمت نفسها (وحيدة، كما النبتة الصغيرة تلك!) تكتب ابتهالاً ناصعاً تقول فيه: ابتهال لـ جسد.. يخفت قنديله يرقد في المستشفي.. (العزاز صالح) جسدٌ كالخرقة.. مثقوب الحياة تفر عصافير شهيقه.. من أجهزة طبية قاسية و.. الأمل يتنامي في ابتهال نرفعه في ثلث أخير يغادر الليل (صالح العزاز) صمتت كاميرته..في وقت يستشري المرض في جسده يلتهمه.. حتي امتص عافية نوره لطائف إلهية..تنزل عليه برحمة.. ومغفرة.. وعتق من النار لنبتهل.. بدعوة في ظاهر الغيب لـ الصالح (صالح العزاز) نتوسل بحب طالبين فيوضات ربانية تغدق عليه لطفاً وعافية كونوا معه.. بدعواتكم الطيبة بقلوبكم صالح العزاز من مواليد الخبراء بمنطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية عام 1959م مارس العمل الصحفي في العديد من الجرائد والمجلات السعودية، كما أسهم بكتابة المقالة اليومية وإجراء التحقيقات الصحفية في العديد من الصحف العربية، نشر كتابه الأول (الجنادرية والحدث) بالتعاون مع مواطنه الأستاذ حمد العبدلي. وباعتباره مصورا فوتوغرافيا مقتدراً قام بتزويد كل الصور المضمنة في كتاب (العودة إلي الأرض) الصادر عن إحدي دور النشر البريطانية حول تجربة استخدام الطين كمادة وحيدة لبناء المنازل والأبنية المختلفة، وفي رحاب الصحراء الواسعة أقام معرضاً لصوره الفوتوغرافية عام 95م كما شارك في مسابقة اتحاد المصورين العالمي الذي أقيم في الصين عام97 واحتل المركز الثاني. نشر كتابه الثاني (المستحيل الأزرق) بالاشتراك مع الشاعر قاسم حداد عام 2000 بترجمة فرنسية للشاعر عبد اللطيف اللعبي وإنجليزية للقاص نعيم عاشور ومراجعة من قبل الدكتور فاطمة الخضر الجيوسي. وكان آخر احتفاء بالكتاب نظمه مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث في أكتوبر الماضي بحضور حداد واللعبي وتعتذر مجيء العزاز لوجوده علي سرير المرض. توفي في الرياض يوم الأحد الماضي 41 ديسمبر 2002 إثر مرض عضال قضاه في العلاج بالولايات المتحدة الأمريكية. الكتابة الأخيرة وكان قبل أن يحتويه الموت قد رسم مشهد مرضه بعبارات لمجلة الإقلاع الإلكترونية وأخري في جريدة الشرق الأوسط قائلاً: (بدأت تجربة المرض بالنسبة لي مثل نهاية عرض فيلم سينمائي، حيث تضاء القاعة وتفتح المخارج وتبدأ الأصوات ترتفع بوجهات النظر المتعددة هذا لا يحدث عادة دون مشاهدة العرض أو الفيلم، وان حدث فإنه لا قيمة له. بالنسبة لي مع المرض شاهدت نفسي بزوايا مختلفة، وبرؤيا فلسفية أكثر عمقاً. أنا لم أتغير كثيراً. لم تستطع الظروف ولا المتغيرات و لا إغراءات الحياة أن تمس أو تطمس ذلك اليقين المزروع في الأعماق منذ الطفولة البريئة، حيث كانت الحياة كذلك. لكن الذي حدث مع المرض أن هذه الأشياء تجاوزت حدودي الشخصية إلي العام، فأصبحت المسألة مطروحة للنقاش لأنني أريد أن انقل رسالة، وأعتقد أن كل إنسان مسلم هو صاحب رسالة أخلاقية وفلسفية لكن عليه أن يدرك كيف يمكن أن ينقل ويوصل هذه الرسالة. أريد أن أؤسس لنوع من الأدب الإنساني بإطار أخلاقي رفيع. فإن أصبت فالحمد لله وان أخطأت فأنا وحدي أتحمل المسؤولية. نعم المرض يحتوي علي كل شيء، لأن الحياة ملهاة كبيرة، والمرض أو الأزمات الكبري من هذا النوع تأخذنا إلي مقاعد المشاهدين لكي نري أنفسنا عن بعد.وأنا هنا (عندما كان في هيوستن) لا أعرف ما إذا كنت سوف أعيش أم أنني سأذهب بالاتجاه الآخر. ووجدت نفسي أمام فرصة عظيمة لتدارك ما يمكن تداركه، وهذه نعمة كبري. كم من الأصدقاء والأقارب والذين نعرفهم ولا نعرفهم ماتوا هكذا مثل لمح البصر. أعتقد انه شيء رائع وجميل أن تكون مسلماً بهذا الطراز الذي تخرجه بيئة (نجد) البسيطة جداً، حيث تبدو الحياة مثل أرض منبسطة بدون تعقيدات فلسفية كبري).
&
&
نص الصورة - صورة النص قاسم حداد ـ صالح العزاز
&
ثمة أحلام قلقة مثل أصحابها. وكلما كان الحلم في جنون صار أكثر جمالا وقدوة علي المغامرة. ثمة مرح كثيف لا يذهب إلي النوم وحيدا، ففي النوم من الثروات ما لا يحصي، وليس عليك إلا أن تطلق أسر تلك الكائنات وترقب بحثها عن قرائن الطريق وأقران الروح. ثمة أرواح كثيرة تطير مثل الحمام، لها الهديل، لها الريح والغناء، ولها أن تمعن في سديم التكوين، كمن يعيد الصورة علي هواه، لعل في الكلام القليل ما يكفي من الدلالة. ثمة أصدقاء يلتقون كثيرا لأول مرة. فما إن فتح لي صاحب الصورة حزائنه، حتي طار بي الجنون نحو الأقاصي، ففي صالح العزاز شيء يغري بالذهاب نحو جمالات التهلكة. ثمة لقاءات خصبة وخطيرة. ولسنا ممن يحلم بالنجاة. ثمة مواعيد لم ترتب من قبل، هندستها لنا المصادفات، فلذ لنا ذلك، وشغفت به شهوة الاكتشاف، نحلم أن يضيء الخطر خطواتنا، ويباركنا بالخصب شهيق الحوار الحميم بين الماء والترائب. مثل بحيرات في أدغال العطش، حيث تنمو في ضفافها أشجار كثيرة، تثمر أزهارا طازجة، تتلاقي بفعل جاذبية الحياة. تتكاثر مثل الطيور، وتقول لفراشات ملونة وفزعة: تعالي، هذه نارك الحنونة، تصير لك بردا وتصير صورا مأخوذة بزرقة الأفق. وفي الظلال، ثمة عناصر كثيرة ترغب في النمو، حكايات مفتوحة، تتصاعد مثل أغصان ترسم الشجرة وتأخذ الغابة نحو الأنهار. شعرت بالفرح الأزرق يجتاحني، وأنا أسمع خيول البهجة تصهل بأحلامي الصغيرة، عندما نهضت فكرة هذه التجربة من سريرها. للنص فتنة ليست من الخطيئة، وللصورة من الفضح الجميل ما يكفي لترميم الروح وصقل جوهرة الجسد. حين رأيت صوري ـ لحظاتي الزمنية تكاد تجهش بالبكاء بين يدي قاسم حداد، شعرت أن نبتة الصحراء تشق ضفافا وتطلق ضحكة الحياة في أفق من المرح الفاتن. يجوز للنص أن يحتفي بالصورة، يجوز له أيضا أن يمتحن الكلمة في حضرة الصمت الفصيح، ويجوز له أيضا وأيضا أن يزعم أنه الحضن الحاني كأنه رأفة الأم. كانت لحظة خيالية ولدت علي وقع أقدام لم تعرف طبيعة النوم في شوارع فاس القديمة. قال لي: نحن أيضا لدينا فضاء من حوار الأعماق يمكن أن نصغي إليه، لئلا يأخذنا سهو عن البهجة. قلت له: ولدينا عطش ينبغي أن نؤججه بمرايا الأفق الأزرق. ومن الخيال إلي الهمس الحميم. من مقهي إلي آخر، من حقيبة إلي أخري. من مطار إلي مطار، من جسد إلي آخر. تيسر لنا الوقت لأن نضع أقدامنا في طريق جديدة علي كلينا، الصورة: لأن متعة البصر ظلت مصادرة في مشهد التعبير العربي. والنص: لأنه أكثر عناصر التعبير اتصالا بالاحتمالات، وحمال الأوجه اللامتناهية. قلنا: لنضع النار في المواقد وننصت للصدي. نحن الآن في هودج الحلم. في التجربة التي نحب. في المسافة المتاحة بين الأفق والزرقة، حيث الصورة لذة جسدية موغلة في المعني، والنص متعة روحية مشغوفة بالتحولات. نحن الآن في لحظة ممزوجة بالزبرجد والزبيب. تضع الصورة ذهبها في زجاجة العين فتبغت الشرفة والمشهد، وتضع الكلمة زيتها الزهيد، فتزيد القنديل توهجا وكشفا. نحن الآن نجلو اللحظات الجميلة، نذهب إلي البياض الممزوج بالزعفران. ونبالغ في زرقة مستحيلة، طاب لنا أن نفتح عليها شرفة المخيلة، لئلا يقال إن ثمة صورة غلبت النص، أو قلبا انتصر علي الحب. (غير موقعة)
&
&
اختار أن يكون معرضه (بلا حدود) بوصلة لذهابه
العزاز: سوف تدخل الصحراء لتضيء بيوتكم

&
في معرضه الأخير (بلا حدود) عام 2001م، وقبل أن يبدأ مشواره مع المرض، كتب العزاز في افتتاحية المطبوعة الخاصة بالمعرض تعريفه بشخصه.. كأنما بذلك يكتب سيرته ووصاياه.. يقول صالح: لم يكن ذلك الشيء الذي حدث بين صلاة الظهر والعصر حدثا مهما أو غريبا، لأن الولادات كانت تتم بكثرة في تلك القرية النائية من العالم، فإن لم تلد إحدي النساء فقد تلد إحدي الأغنام أو النياق، كانت الولادات تحدث كل يوم تقريبا فيكبر القطيع! ثمة امرأة تركت الحقل علي وجل متجهة إلي الدار، لكن اللحظة أدركتها فسقطت أنا علي الأرض عاريا مثل جرم فضائي صغير وغريب. أخذتني بين كفيها نفضت عني بقايا الرمل الناعم الذي كان ثوبي الأول وسيكون ثوبي الأخير. في عام 1959م كانت والدتي نورة بنت علي الدهيمان منغمسة بعملها اليومي خلال موسم الحصاد، ربطت شعرها دون أن يخطر في بالها أنني سأكون بين يديها خلال لحظات، وعندما حدث، قطعت حبل سرتي بمنجل الحصاد، كان أبي بعيدا في مدينة أخري يبحث عن قوت عياله. لذلك لا أحد يتذكر اليوم الذي حدث فيه أمر عادي كهذا يتكرر كل يوم ولا أحد يذكر حتي شهر ميلادي. لكن والدي قال لي إن أجمل خبر تلقاه في حياته عندما قيل له أن مولودك الثاني ولد أبيض وطويل وجميل. في عام 1979م ذهبت إلي نيويورك لأول مرة في مغامرة لا تنسي، وفي مطار كندي سألتني موظفة الجوازات، امرأة بدينة مقطبة الحاجبين، ما هو تاريخ ميلادك؟ فقلت لها 1959 فقالت في أي يوم في أي شهر؟ قلت لها لا أعرف. صرخت معلنة للملأ أن ثمة مخلوقا غريبا وصل إلي نيويورك لا يعرف تاريخ ميلاده.. شعرت أن كل من في المطار في تلك اللحظة يحدق في هذا الكائن الغريب الذي لا يعرف متي ولد. لم يكن هذا الأمر يشكل أهمية بالنسبة لي، لكن عندما عشت في بريطانيا، في التسعينات، وعلي الرغم من انه تم اختراع التاريخ المطلوب لهذا الحدث ـ لكن الأمر لم يعنيني خاصة انه تاريخ ملفق ـ إلا أن الأسئلة بدأت تتفاقم في المناسبات ما هو عيد ميلادك. بل وتتأزم لتسأل من أي الأبراج أنت!! كنت اخترع لكل مناسبة حكاية، وكنت أروي حكاية جدتي (موضي الشايع) التي كانت تلعب دور القابلة وولدت جميع أطفال ذلك المكان البعيد، وكانت تؤذن في آذانهم لحظة يخرجون إلي النور وتدس في حلوقهم أول جرعة من الحياة الجديدة ثمرة مغموسة بالماء. كانت تقوم بكل هذا وهي امرأة كفيفة. لكنها بالنسبة لي كانت أكثر الأحياء بصيرة في نظري، كانت تري الأشياء بقلبها الكبير. كنت ولازلت أشعر بالحزن لأنني لم أخرج إلي الحياة علي يديها ولم تؤذن بأذني، وعندما توفيت العام الماضي عن عمر يناهز الـ120 سنة شعرت أنني في مهب الريح. كلما باغتتني الأسئلة عن برجي، كنت أختار العذراء مرة أو برج الأسد مرة أخري، لكن لم يصدقني أحد. كانوا يقولون لي أنت من برج الحوت لأن صفة المغامرة موجودة فيك، والطيبة في ملامحك. كنت أعجب بالأولي وأكره الثانية لأنها علامة ضعف إنساني في زمن متوحش، ولو كان للإبل الشاردة برج لاخترت أن أكون معها لكي أكون مثل جمل من الصحراء لم يلجم . المفروض أن أكون شجاعا مخاطرا لأنني لن اخسر في شجاعتي ومخاطرتي شيئا، والمفروض أن لا أكون جبانا لأني لن أكسب من جبني شيئا. في هذا المعرض ـ بلا حدود ـ حاولت تقديم بعض الصور المهمة، والملتقطة من الجو لمدينة الرياض. وقد جاء التقاط هذه الصور بمحض الصدفة، إذ انه لم يكن ثمة مهمة تصويرية مخطط لها مسبقا. وأنا علي أي حال لا أحب المدن كثيرا، لأنها تصادر حريتي ولا تمنحني ذلك التباين بين الضوء والظل والذي تمنحني إياه الصحراء: خيمتي الأولي والأخيرة، لذلك فقد قررت أن أجعل صور المدينة محاطة بصور الصحراء: أمها الحنونة. واعتقد أنني بعد هذا المعرض سوف اقترب من الصحراء أكثر، بل سألتصق بها، لأنني كلما ذهبت إليها تمنيت لو أنني عشت هناك أرعي الإبل واقرأ أشعار المتنبي وأحفظ قصائد عنترة. سوف أعود إلي الصحراء ولكن بطريقتي الخاصة. وسوف تدخل الصحراء لتضيء بيوتكم وغرف نومكم وجلوسكم، وتنقذكم من وحشة الأسمنت والمدن المزدحمة. تخيلوا أنفسكم أيها البدو بدون صحراء مفتوحة الأفق! (غير موقعة)
&
&