حسين كركوش
&
يبدو ان كلمات مثل (زيارة تاريخية) أو (زيارة دولة) لا تكفي لوصف زيارة الأيام الثلاثة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في بداية هذا الأسبوع الى الجزائر. ولعل مفردة (أسطورية) هي المفردة الملائمة لوصف تلك الزيارة.
ففي الوقت الذي كانت تتحدث فيه الصحافة الفرنسية عن زيارة (الجزائري) جاك شيراك الى الجزائر، فإن الصحافة الجزائرية كانت، من جانبها، تتحدث عن وجود قبر في مدينة وهران الجزائرية، يرقد فيه (الأخ الأكبر) للرئيس الفرنسي.
وفي الواقع، فإن ما فعلته الصحافة الجزائرية هو، أنها نقلت شائعات راجت لدى الأوساط الشعبية الجزائرية أثناء تواجد شيراك في الجزائر، مفادها ان الرئيس الفرنسي سيذهب الى زيارة مدينة وهران ( الزيارة مدرجة أصلا في برنامج تنقلات شيراك)، خصيصا لزيارة قبر يضم رفات ( أخيه الأكبر الذي كان قتل هناك إثناء الحرب العالمية الثانية).
ومثلما تنشط المخيلة الشعبية، عادة، عندما يتعلق الأمر بالحديث عن خوارق وشفاعات& الأولياء والصالحين، فإن الشائعة الجزائرية ظلت تتضخم، وتضاف أليها معلومات ( مؤكدة )، قال الذين أدلوا بها انهم شاهدوا بأم أعينهم، كيف اهتمت السلطات المحلية في مدينة وهران بمقبرة المدينة، وبقبر خاص داخل هذه المقبرة ،استعدادا& لوصول شيراك.
ويبدو ان تلك الشائعة وصلت الى مسامع& وسائل الأعلام الفرنسية ، بدليل أن صحيفة لوفيغارو الفرنسية واسعة الانتشار أفردت حيزا خاصا في عددها الصادر يوم الاثنين لتغطية نبأ الشائعة. وناشدت الصحيفة السفارة الفرنسية في العاصمة الجزائرية بإصدار إيضاح يضع حدا لهذا (الهذيان)، كما أسمت الشائعة الجزائرية.
&وأشارتنا& للأولياء وللصالحين، ونحن نتحدث ألان زيارة الرئيس شيراك الى الجزائر، ليست مجانية. فقد ظهر الرئيس الفرنسي بالفعل& وكأنه ( ولي صالح) يحمل في ( خرجه) أدوية ضد جميع الأوجاع والأمراض والمنغصات التي يعاني منها جميع الجزائريين، وليست فئة خاصة منهم، بما في ذلك أوجاع الطلق وعسر الولادة ( هذا الجانب تكفلت به قرينة الرئيس، السيدة برناديت شيراك التي رافقته في زيارته، والتي وعدت مستشفيات الولادة هناك اثناء زيارتها لها بتقديم مساعدات فرنسية ).&
وقد تنطبق، ايضا، تسمية ( بابا نؤ يل ) على الرئيس الفرنسي الذي حل في ربوع الجزائر. فقد كانت حقيبته ممتلئة بأنواع الهدايا التي تلائم جميع الفئات الجزائرية، بدءا من الفران كوفيين، ومرورا بالشباب الباحث عن الهجرة، وأصحاب المشاريع الفرنسية ، ومناهضي الحرب على العراق، ومرورا بالإسلاميين، ايضا.
فقد ذهب شيراك الى الجزائر حاملا معه أغلى هذه الهدايا، وربما& اكثرها أهمية، لأنها تتعلق بعموم الجزائريين، أولا، ولأنها تخص، بشكل من الأشكال، وضعهم الاقتصادي الراهن وفي المستقبل، ايضا. ونحن نشير هنا الى نتائج استطلاع الرأي الذي نشرته الصحافة الفرنسية قبل أيام قليلة من وصول الرئيس الفرنسي للعاصمة الجزائرية، أي في الرابع والعشرين من فبراير / شباط الماضي، واظهر ان الفرنسيين راضون في غالبيتهم العظمى على سلوك أبناء الجالية الفرنسية المقيمين في فرنسا. واكثر من هذا، فان الاستطلاع، الذي آجراه معهد CSA، بين ان 62 في المائة من أصحاب المشاريع في فرنسا أطروا على أداء العمال الجزائريين الذين يشتغلون في المصانع الفرنسية. واظهر الاستطلاع نفسه، ايضا، ان 71 في المائة من الفرنسيين يجدون ان الأيدي العاملة الجزائرية داخل فرنسا مفيدة للاقتصاد الفرنسي، بما في ذلك العاطلين عن العمل ضمن هولاء العمال الجزائريين.
ولا بد ان الجزائريين، وخصوصا الشباب منهم الذين انهوا تأهيلهم الدراسي والعملي ودخلوا سوق العمل، اطلعوا على نتائج هذا الاستطلاع. فقد حملت اللافتات التي ظهرت لاستقبال الرئيس الفرنسي كلمات تقول ( الفيزا يا شيراك).ولو كان لدى هولاء المستقبلين متسعا من الوقت، لأضافوا الى هذا الشعار الكلمات التالية : ( يا سيادة الرئيس الفرنسي، ما دام مواطنوك، ورجال الأعمال منهم على وجه الخصوص، راضين عنا الى هذا الحد، فها نحن طوع بنانك، وما عليك ان ترفع القيود المفروضة على منح تأشيرات السفر الفرنسية، وستجدنا نملأ المصانع والمشاريع التجارية الفرنسية).
الهدية الثانية التي حملها معه ( الجزائري ) جاك شيراك ( وهذه مرتبطة بالأولى ) هي، وجود فرنسيين من اصل جزائري في عداد الوفد المرافق له، بينهم وزراء وفنانون وناشطون ضد التفرقة العنصرية والدفاع عن المهاجرين الأجانب داخل فرنسا. ويستطيع الرئيس الفرنسي جاك شيراك ان يقول بصوت عال لمضيفه الجزائريين بأنه هو، وليس غيره من الفرنسيين، الذي ادخل وزيرين فرنسيين من اصل جزائري في الحكومة التي شكلها السيد بير رافران بعد فوز الرئيس شيراك في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، في ولايته الثانية.
وفي الواقع، فان الوزيرين، حملاوي مقشرة ( لشؤون قدامى المحاربين )، وطوقية سيفي ( سكرتيرة دولة لشؤون البيئة والتنمية المستديمة) ليسا الوحيدين من أبناء الجزائرية اللذين يتبؤان مناصب مهمة في صفوف ( اليمين ) الفرنسي الذي يتزعمه الرئيس شيراك. فهناك شخصيات مثل جانيت بو غراب وقاسم خليل اللذان يحتلان مواقع متقدمة في السكرتارية الوطنية ل( الاتحاد من اجل حركة شعبية ) الحاكم في فرنسا. وهناك، ايضا، رشيد موقران المستشار في مكتب وزير الدولة رينارد دوتري.
والهدية الثالثة التي حملها معه الرئيس الفرنسي هي، معارضة فرنسا للحرب التي تريد الولايات المتحدة شنها على بغداد& والتي تحظى، كما يبدو، بمعارضة أوساط كثيرة في الشارع الجزائري. واللافتات التي رفعها الجزائريون وهم سيقبلون ضيفهم الفرنسي، كانت تحمل كلمات ( الفيتو يا شيراك ). واصحاب هذه اللافتات يريدون ان يقولوا ان على فرنسا ان لا تكتفي بمعارضة الحرب، وانما عليها ان تذهب ابعد فتصوت ضد شنها.
والهدية ( الشيراكية ) الرابعة& هي، إعادة تأكيد شيراك في خطابه في البرلمان الجزائري على التقدير والاحترام الذي تكنه فرنسا للإسلام، ( المعتدل ) بالطبع. وكان شيراك قد اصدر، قبل سفره للجزائر، أوامره الخاصة بان يقوم متحف اللوفر الفرنسي الشهير بتخصيص قسم خاص جديد للمعروضات الاسلامية. وقبل ذلك بذل وزير الداخلية الفرنسي والرجل الثاني في الحكومة الفرنسية، نيكولا ساركوزي جهودا جبارة من اجل تشكيل المجلس التمثلي الاعلى لمسلمي فرنسا، ومنح عميد مسجد باريس الجزائري، د. دليل أبو بكر مكانة خاصة في المجلس المذكور.
والهدية الخامسة، وليست الأخيرة، هي توقيع فرنسا والجزائر على اتفاقية صداقة مشتركة على غرار تلك المعقودة بين فرنسا والمانيا.
وإذا كان الجزائريون قد فرحوا بهدايا ( الجزائري ) شيراك، فانهم لا بد ان فكروا برد الجميل بأحسن منه، على الطريقة العربية التي تقول ( من أهداك بعوضة، أعطيه جَملا ).
&ولكن وديان الجزائر وجبالها لا تعرف ( الجِمال ) العربية، كما تعرفها صحارى العرب، وحتى إذا عرفتها فأنها ستكون هدية لا فائدة منها في الشوارع الفرنسية. إذن أي نوع من الهدايا التي يتوجب على الجزائريين تقديمها، في هذه الحالة ؟
في الواقع، ان نوع الوفد الذي رافق الرئيس الفرنسي في سفرته الى الجزائر يسهل الإجابة على هذا السؤال. فقد ضم الوفد في عداده رهطا من كبار رجال الأعمال من بينهم رؤساء شركات عملاقة، مثل توتالفينا وألف والستوم وايرباص. وهولاء لم ياتوا الى الجزائر، فقط، للتمتع بحسن استقبال الجزائريين للرئيس الفرنسي، وانما جاءوا الى توقيع عقود تجارية، ايضا، وايضا.
وكانت الزيارة التي قام بها الشهر الماضي للعاصمة الفرنسية رئيس الوزراء الجزائري علي بن فليس، بادرة لتشجيع هولاء للقدوم الى الجزائر. فقد حرص رئيس الحكومة الجزائرية أثناء أقامته في باريس على عقد لقاءات عديدة مع رجال الأعمال الفرنسيين، وشجعهم على زيادة استثماراتهم داخل الجزائر، بعد ان وعدهم بان حكومته ستقوم بالمزيد من الخطوات الانفتاحية باتجاه اقتصاد السوق وتقليل القيود المفروضة على توظيف الاستثمارات الأجنبية هناك. ثم خطت الحكومة الجزائرية خطوة أخرى، لكن هذه المرة، باتجاه رجال الأعمال الفرنسيين من أصل جزائري، لتشجيعهم على الاستثمار في بلدهم الام.
وتمنى رئيس الحكومة الجزائرية على مضيفيه الفرنسيين ان لا تتوقف الاستثمارات الفرنسية على مشاريع الغاز والبترول الجزائري، وإنما تتعداه الى ميادين الاتصالات والصناعة السياحية والمستحضرات الطبية والصيدلانية والمساهمة في إعادة البنى التحتية في بعض المدن الجزائرية، وغيرها من المشاريع الواعدة.
على أي حال، فان زيارة الرئيس الفرنسي الى الجزائر دشنت مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، يريد لها الطرفان ان تساهم بدمل جروح الماضي، مرة واحدة والى الأبد، وان لا تكون مرحلة عابرة كغيرها من المراحل السابقة التي كان المزاج والتقلب السريع بوصلتها الرئيسية.
وحال عودته الى العاصمة الفرنسية فان الرئيس الفرنسي عقد اجتماعا مع أركان حكومته، طالبا منهم البدء تنفيذ ما تم الاتفاق عليه أثناء سفرته للجزائر.
ولعل الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة قد طلب، هو الآخر، من أركان حكومته بعمل الشيء نفسه، ليس فقط لأنه يتشوق لتقديم مزيد من الإنجازات الآنية لمواطنيه، وإنما، ايضا، لتعزيز آماله بإعادة انتخابه لولاية أخرى، ( مستغلا )& المكانة الدولية التي يحصل عليها، وفي المقدمة منها زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك& وتدشين علاقة مميزة مع فرنسا، كما يقول بعض الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب.&