أحمد عيد مراد
&
أستميح القرَّاء عذرًا في تأخَّري نشر هذا المقال الذي كتبته، كما يتَّضح قبل أقلَّ من نصف سنة، رسالة لصديق معلِّقًا على مقال للزميل خيري منصور نشرته إيلاف آنذاك عن "ظاهرة القصيمي".
&

أخي مصطفى (النعمان)،&عِم صباحًا،
الساعة الآن تقترب من السادسة والنصف من بزوغ فجر يوم الأحد، الثالث من الشهر الحادي عشر من عام 2002. مع أنَّني اطَّلعت على "ظاهرة القصيمي" يوم أمس، إلاَّ أنَّه (إطِّلاعي) كان مرور الكرام. لن أخرج عن سياق الموضوع الذي كنت أنت بصدده أمس حينما اطَّلعت على ما كتب خيري منصور عن القصيمي، أو أنا محاولاً الكتابة عنه (ما جاء فيما كتب خيري منصور) لك الآن، إذا ما سردت لك بإيجاز سبب (مرور الكرام) أمس، ففي السرد قد تكمن بعض إجابة عمَّا يحاول منصور أن يستجليه من آلاف الصفحات "المشتعلة والبريَّة" التي كتبها القصيمي.
خلال أيَّام قليلة من الأسبوع المنصرم، عشت تجربة ما يحاول القصيمي في تلكم الصفحات أن يفصح عنه. أعترف أنَّني لست ملمًّا بكلِّ ما كتب القصيمي، ولم أطَّلع إلاَّ على اليسير منه، وأنَّ الفضل في استشفاف آفاقه يعود لك، ثمَّ لصديق زوَّدني بثلاث من كتبه.
لقد غُزِيَتْ خصوصيَّتي، واقتُحِمَتْ حياتي عندما لم يكن هناك أوهى سبب لذلك، ولم أختر أنا ما حدث لي. لقد عشت القلق والأرق وأنا أحاول الإجابة عن السبب- (السطو على منزلي وسرقة بعض ممتلكاتي) - أو تفسير ما حدث أو تبريره.
ما حدث لي يوم الثلاثاء غيَّر الكثير من فهمي للأحداث الصغيرة التي تصادفنا في مجرى أيَّامنا ولا نعيرها أدنى تفكيرٍ. وربَّما في محاولة معرفة كنه الحياة ولغز الوجود من إحداث صغيرة نُقادُ إلى صراعٍ مع النفس والحقيقة التي نسعى للهروب منها ونحن نعتقد أنَّنا نجهد ما استطعنا للوصول إليها، فتغدو كالسراب، أو إذا ما فهمت القصيمي من خلال النذر الذي اطَّلعت عليه، أو نُحالُ نحن إلى سراب نسير إلى مجهول حقيقة الكون. وحتَّى تكتمل "أسطورة الحياة"، مع الاعتراف بأنَّ المعرفة نقيض الأسطورة، مررت أمس، كما ذكرت، مرور الكرام على "ظاهرة القصيمي". كانت الأفكار تنتابني وأنا أخطِّط لمجريات يومي، فما بالك لو كنت أخطِّط لمجريات ما تبقَّى من حياتي! كنت منشغلاً بأمور دنيويَّة لا مناص منها ولا غنًى لنا عنها في يومنا لتستكمل دورة الحياة فينا مداها. وكنت في الوقت ذاته أعدُّ النفس، وربَّما الروح والعقل للذهاب لتعزية صديق بوفاة أخيه بعد ظهر أمس، ثمَّ للذهاب للمشاركة في احتفال خطبة ابنة صديق آخر عند المساء. إلا تعتقد أنَّ ما جدَّ لي أمس يلخِّص بشئ من التبسيط والإيجاز ما يحاول القصيمي أن يسهب في شرحه فيما كتب!
لست أدري ما يريد خيري منصور استجلاءه عن القصيمي! أو لم أستطع أنا أن أستجلي ممَّا قرأت غير تبسيط لتعقيد الحياة التي استغرق كنهها صاحبنا القصيمي. ألسنا كلَّنا أو جلَّنا على الأقل ننادم غرورَنا وتيهنا، إذا لم أقل ظلَّنا في ساعات حقيقة سرابيَّة من حياتنا! ولمَ لا! أليست ألواح الأكواخ التي نهدمها ونحن نحاول بناء أوهام حقيقتنا ضروريَّة لاستكمال عقلانيَّة وجودنا! إذا كانت الأسطورة في غياب المعرفة هي جزء من التراث، فما الضرر في أن تصبح محاولة المعرفة، وإن ابتعدنا عنها في محاولة إيجادها، هي التي نورِّثها لأجيالنا القادمة! أعتقد أنَّ ثراء حضارة الغرب ابتدأت برومانسيَّة كتلك التي حاول القصيمي الولوج فيها في زمن تشابكت فيه خيوط التراث بما فيه من ضبابيَّة، بخيوط المعرفة التي وفدت دون استعداد ذهنيٍّ أو تخطيط واعٍ لها.
مرَّة أخرى أراني أتساءل ليس عمَّا كتب القصيمي، بل عمَّا ورد في كتابةِ خيري منصور وهو يحثُّنا، ولو ببطء وتثاقلٍ لنتدبَّر بعد تفكير واهٍ إجاباتٍ لا بدَّ من الاعتراف بها وقبولها ليس في محض ذاتيَّتها الفرديَّة، بل في شموليَّتها وتأطيرها وجودنا وواقعنا الثقافي المورَّث لدرجة ما من ماضٍ نختلف على كينونته، ولن نتَّفق على صيرورته قطعًا. ولو حاولت الإتيان ببرهان ودليلٍ على ما أقول، سأجده في الذي كتبت أنت ونُشر لك مؤخَّرًا. وهنا أراني وقعت في حَيرة والتبس عليَّ مقصد الكاتب خيري منصور. أمتَّفقٌ هو مع نصِّ القصيمي أم يحاول إيقاعنا في دائرة شكِّ اليقين التي تقود في طبيعة كينونتها لمزيد من الشكَّ في حقيقة قناعاتنا!
لأنَّني، كما ذكرت، لم أطَّلع إلاَّ على غُييضٍ من فيض القصيمي، فلا مجال لي في الخوض فيما أورد منصور عن صاحبنا في كتب أشار إليها. ولكن إذا كان الهجاء سمتها وديدنها، فالواقع يصبُّ في خانة القصيمي. ولكن أن تصبح البلاغة زبدًا، وهذه مفارقة يجب أن نتوقَّف عندها، ونأخذها على صاحبها أكثر من مأخذنا على مَن نُعت بها.
ومرَّة أخرى يقع منصور في وهدة الضعف التأمُّلي وعثار الفكر المتسرِّع عندما يقاصّْ كاتبنا في عدم الإفصاح عمَّا يريد. وهو لو أفصح لنسخ، على ما أعتقد، معظم ما كتب، وأسفَّ بما يريدنا أن نصل إليه ونحن نسير معه في أدغال مجهول الحياة. فامتلاك الحقيقة أو الادِّعاء بامتلاكها، يُفقد الحقيقة جوهرها وينأى بنا عن سبل المعرفة التي تقرِّبنا من حقيقة وجودنا مع الاعتراف باستحالة الأمر، أو على الأقل صعوبته في حاضرٍ لم نتِّفق بعد على شكله، وقطعًا على جوهره.
روعة الكاتب، بل وعبقريَّته تكمن في قدرته على قياد القارئ إلى ما يريد حتَّى وإن كان على شكِّ يقينه. ففي عالمٍ لم يُبق على ضميره، واختلط فيه الخير بالشر، فما العيب في أن يكون القصيمي ما كانه فيما كتب!
ختامًا، أرى أنَّ القصيمي حينما كالَ المديح أو الإطراء على مَن أحبَّ واصطفى، كان محقًّا فيما فعل. ففي عالم طغى فيه الشرَّ على الخير، واستفحلت فيه البشاعة على الجمال لدرجة أن يفقد البرغوث خصوصيَّته ومبرِّر وجوده، أو مسوِّغ امتيازه فيما يفعل، لا بدَّ للكاتب من أن يجسِّد مثاليَّته، أو تفكيره، إن لم أقل فكره، في كائن يمكن لمسه والتعايش معه، وإلاَّ عاش في وهم وجوده وعزلة حياته. ولأنَّ القصيمي عاش الحياة في معنييها الواقع والمُتخيَّل، أغدق على قلَّة من أصفيائه ما يمكن، في عجالة موجزة، أن يؤخذ عليه.
لا جَرَمَ أنَّ القصيمي ظاهرة، ولكن ليس في لَبَسِ ما قد نستخلصه من مقال خيري منصور، أو في شكٍّ ما كتب القصيمي عن واقعٍ جدير بالرثاء إذا لم نقل الهجاء.&
ختامًا أخي مصطفى، ستجد في ردِّي بعض غموض متعمَّدٍ لأفكار نتَّفق على معظمها. فشكرًا على مبادرتك التي تفصح عن الكاتب الموضوعي والمفكِّر الذاتي في سفير اتِّخذ الدبلوماسيَّة هواية، والكتابة حرفة. ومن خلال ما قرأت لك، أو استمعته منك، يمكن لي أن اعترف بأنَّ علم المهندس وفكر الكاتب وخبرة الدبلوماسي إذا ما اجتمعت في رجلٍ، كانت سمة وسجيَّة تميِّزه من الآخرين. نظرت فيما حولي وتفكَّرت فيما أرى، فتيقَّنت بأنَّها أنت.
هذه خاطرة الصباح، بعد أن قرأت "ظاهرة القصيمي".
كاتب وصحافي وشاعر كندي عربي، رئيس تحرير مجلَّة "الروَّاد" الشهريَّة تصدر من أوتاوا كندا باللغتين العربيَّة والإنكليزيَّة، ورئيس المركز العربي الكندي للصحافة والإعلام في أوتاوا.