عيسى عبد القيوم
&
&
&
" لم يقاوم.. وكان هادئا.. ومتعاونا " بهذه الكلمات وعلى خلفية صورته وهو فاتح فاه لجندي أمريكي يعبث به كيف شاء.. تم تدشين المؤتمر الذى أعلن فيه تداعي أول النمور الورقية فى منطقتنا بإستسلام راعي نشامة حزب البعث العربي الإشتراكي.. وقائد أم المعارك.. المُظفر.. الرفيق.. صدام حسين الى القوات الأمريكية " الإمبريالية " المحتلة لبلده.
كانت الصورة تـنضح بمشاهد الذل.. والهوان.. وتفضح خبايا رموز الأنظمة الدكتاتورية.. التى مارست القتل الفردي والجماعي بدون رحمة.. وخارج إطار القضاء ضد أبناء شعوبها العزل..
ونمت تحت ناظريها ماكينة التعذيب.. ودهاليز الحجز.. وحفر المقابر الجماعية.. وظنت أنها تستطيع أن تخرق الأرض.. وأن تبلغ الجبال طولا.. وأن تحدد وضعية البلاد والعباد فى وصيتها للورثة.. ونسيت أو تناست أن الأيام دول.
ولكن ـ كما يقال ـ فالأمور بخواتيمها.. وعادة ما تثبت لنا الخواتيم أننا أمام جبناء متمترسون خلف ترسانة من الفولاذ المُستنفر لقمع أي حِراك إجابي.. ومتسلحون بإعلام كاذب.. مزور.. منافق.. جاهز لسحر أعين الناس وتغييب الحقيقة.. وممتطون لكل من لديه قابلية للإستحمار من المنبطحين على بطونهم على قارعة الطريق المؤدي الى أعتاب السلطان.. تلك ببساطة ـ غير مخلة ـ هي مقومات تمايز نمورنا الحاكمة.. التى أبان لنا مسرح الأحداث أنها مصنوعة من ورق.. وتحديدا النوع الرديء والرخيص منه.
ولو عدنا الى الفصل الأول من القصة لوجدنا الخرق المكرر.. والمشهد المعاد من أيام الأبيض والأسود.. وهو القفز الى سدة الحكم خلسة.. وبمساعدة قوى أجنبية كانت الموازنات الدولية فى تلك الفترة تتطلب أن لا تظهر فى المشهد مباشرة ـ بعكس اليوم ـ.. ويتم القفز بمعزل عن إرادة الناس التى تطأطأ مرغمة أمام زمجرة الدبابات الروسية التى أثبتت تفوقها فى لعب مثل ذلك الدور القذر.. ثم السعي ـ بعد مرحلة إستتباب الأمن ـ بكل الوسائل الخسيسة و غير القانونية للاحتفاظ بالسلطة الى الأبد.. ويتوهمون ـ أثناء ذلك المشوار الإقصائي ـ أن " منطق القوة " هو كلمة السر.. أو الوصفة السحرية.. التى تستطيع أن تنسج لهم ثوب الشرعية و المشروعية بالمواصفات التى يرغبونها.. وتحت أسماء وعناوين مخادعة تتفتق عنها أذهان شهود الزور مثل.. الشرعية الثورية..أو القيادة التاريخية.. أوإستفتاءات الثلاث تسعات (99،9%).. فيشرعون من فورهم فى بناء الأجهزة الأمنية.. فينفقون عليها قوت الفقراء.. وميزانيات التنمية.. لجعل حلم التفرد بالسلطة.. بل وتوريثها.. حقيقة محمية كما يظنون.
ثم يسدل الستار لبرهة.. ليفتح على الفصل الثاني ومشهد الهروب من إستحقاقات التدافع السياسي، ومتطلبات تعاقب الدورات السياسية.. والتحايل على فاتورة تداخل الأجيال.. و عادة ما يكون فصلا داميا مجللا باللون الأحمر.. تفوح منه رائحة الموت.. وتختلط فيه أصوات البارود مع نغمات الموسيقى العسكرية.. حيث المشانق.. وميادين الإعدام رميا بالرصاص.. والحواجز الأمنية.. وبقايا الأحذية العسكرية تمثل الديكور الأساسي فيه.. وتظهر شخصية الحاكم فيه كما لو أنه لا يخشى مقارعة ملك الموت.. ولا يلقي لأكبر أعداءه بالا.. يُصور على أنه الرجل الذى ولد بطلا.. وأن تاريخه الذى يمتد كذا من الكيلومترات عبارة عن ملحمة بطولية غير مسبوقة!!.
ومع إختتام فصل العذاب عادة ما يستلقى بطل المسرحية الهزلية ليتلذذ بالتصفيق.. والصفير الصادرة عن صالة تداخلت فيها عناصر الغفلة والتملق والإرتزاق.. ليفيق على إفتتاح فصل الحساب.. الذى ظن أنه غير معنى به.. والذى قد يكون على شكل إنتفاضة شعبية.. أو عملية تصفية جسدية.. أو رفعا للغطاء بواسطة نفس الأيادي التى وضعته! ولكونه الفصل الأخير ففيه تسقط الأقنعة.. وتنتزع أثواب التنكر.. وتزال مساحيق المكياج.. فتجد الشعوب المسكينة نفسها أمام أشباه رجال.. عراة.. حفاة.. مبللون بشتى أنواع المياه!! ومجللون بكافة أشكال العار.
ولعلنا اليوم أمام أحد مشاهد الفصول الأخيرة من تلك الحكايات العنيفة.. وفيه يظهر صدام حسين ذلك الذى خلق منه الإعلام.. وعصابة القتلة.. بعبعا يكفى ذكر إسمه لتخرج أرواح العراقيين.. تافها جبانا.. مستسلما للذل.. وقابلا للهزيمة.. وفاقدا لكافة ملامح الرجولة والإباء.. والكبرياء.. التى طالما تقمص أدوارها على مسرح شرفات قصوره الفارهة.. وأمام جموع شعبه الجائعة الخائفة.
لقد قيل لذلك الذليل عند بداية الحرب.. أرحم بلدك.. وشعبك.. والمنطقة.. وتنحى عن الحكم فلم يقبل.. وظن أن إستخدام القوة البوليسية المفرطة ضد شعبه.. و إطلاق يد الأجهزة الأمنية ضد مخالفيه السياسيين.. والتلويح بعصا القوة العسكرية ضد جيرانه هو طوق النجاة.. وإكسير الحياة لكنه أفاق من وهمه فإذا بالناس ليس فى بغداد وحدها بل فى العالم بأسره يتبادلون التهاني (1) بإستسلامه المخزي.. ولعلي لن أتهم بالتعسف فى ربط الكلام ببعضه البعض إذا ما عرجّت على وضعية الصورة فى بلدي ليبيا.. فلقد تطابق سيناريو المسرحية الدامية هنا وهناك.. و تشابهت فصول المأساة والمعاناة ه.. وتقاربت أوصاف الشخوص الرئيسية على المسرحين.. ولعل الفرق الوحيد يكمن فى أن الستارة قد أسدلت على المشهد العراقي.. فيما بقى العرض الليبي مستمرا.. فهل الأمر لا يعدو أن يكون مسألة زمن، تتمثل فى الفارق فى التوقيت؟.. أم أن للشعب الليبي رأي أخر لم يقله بعد؟.
وهل سيستنفذ النظام الليبي ما بقى من فارق التوقيت لتمديد الفصل الثاني ( المعاناة ) والإستمرار فى مخطط الهروب الى الأمام.. أم ستكون له قراءة جورجية هذه المرة للتخلص من تبعات الفصل الأخير ( الحساب)؟.
والسلام
(1)ولعل المنغص الوحيد للفرحة أن نهاية الدكتاتور كانت على يد من صنعه.. وبالتالي يخشى من وجود أجندة شبه خفية.. ترجح المنطق الربحي على المنطق القيمي.. خاصة وأن أول تهنئة تلقاها جورج بوش كانت من آريل شارون!!.. وكلاهما شرير يقف على أبواب إنتخابات حاسمة ومصيرية.
التعليقات