عقيل محمد نوري
&

&

&
قد يبدوا لأول وهلة ان منطق علم النفس& عاجز عن تفسير الذي حدث مع شخصية معقدة مثل شخصية صدام حسين تلك الشخصية المرعبة التي عرفت بعنجهينها وبأسها وشدتها وظلمها للآخرين، فهل من المعقول ان تظهر هذه الشخصية التي بدت في كل الاوقات والمناسبات متكبرة ومزهوة بكبرها بذلك المستوى من الضغف؟ لا ادري ان كان علماء النفس لديهم قدرة الاجابة على هذا اللبس الذي يصعب تفسيره. فذلك القائد الاسطورة الذي ارعب وقتل واباد وشرد الكثيرين تحول الى كومة من الضعف حتى انه لم يقاوم دفاعا عن حياته فتبددت احلام الذين رأوا صورته في القمر من اخوتنا واشقائنا في الاردن من الاردنيين والفلسطينيين عندما وجه الصواريخ الى اسرائيل كما تقول الاسطورة التي سمعتها في عمان آنذاك.
ابدأ مع اللقاءات التي كانت تجريها التلفزة الامريكية وبالذات شبكة ال(CNN ) وغيرها مع صدام حيث اجريت معه قبيل حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) مجموعة من اللقاءات كان الغرض منها اعلاميا من جهة ونفسيا تحليليا من جهة اخرى وذلك من خلال ملاحظة دقيقة لشخصيته اثناء الحوار ولهذا كانت بعض الاسئلة ذات طابع استفزازي. لاحظ خبراء علم النفس ان حركة اجفان صدام حسين كان تتزايد مع اقتراب الموعد النهائي لبدء الحرب فكان هذا مؤشرا واضحا على انه ليس بالرجل العملاق الذي من الممكن ان يقود حربا ضد الولايات المتحدة، بل ايقنوا انه رجل هش يضعف في المواقف التي يعلم فيها ان خصمه اقوى منه ولهذا فهو ليس بالفارس الذي يحلم به اصحاب الاحلام الوردية في مجتمعات اكلها الضعف والخوف والكسل.
لا انكر اني فرحت جدا بالقبض عليه ولكني صعقت عندما رأيت الطبيب الامريكي وهو يقلب وجهه ذات اليمين وذات الشمال وهو يستجيب بمطواعية مذهلة، مباشرة قفزت الى مخيلتي تلك الزيارات التي كنا نقوم بها الى مستشفى الامراض العقلية والنفسية، حيث كان المريض العنيف يعطى ابر مهدئة لتهدئته فيخضع بعد ذلك للفحص الطبي وهو في منتهى المطواعية ولكن هذا لايعني ان صدام حسين قد زرق بتلك الابر المهدئة والله اعلم.
اجد صعوبة في اللجوء كليا الى المنطق السايكولوجي في تفسير ما حدث لتلك الشخصية (البرنوية والسايكوباثية والنرجسية) اذ لايمكن لشخصية مثل تلك الشخصية ان تستسلم بهذه السهولة وفقا للمعايير التي يضعها علم النفس للشخصية المصابة بداء العظمة.
ساترك السايكولوجيا قليلا متجها الى السوسيولوجيا لعلي اجد لديها تفسيرا معقولا للذي حدث فهل ياترى تفلح باجابة شافية؟& لقد اعتاد صدام حسين ولفترة طويلة من الزمن على حياة مترفة وحياة الترف تولد الجبن وفقا لمنطق ابن خلدون، فاهل البادية والريف اشجع من اهل المدينة لان المدنية تقود الانسان على الخمول والدعة ولهذا يميل الانسان الى الترف واشباع الشهوة ويضعف لديه الالتزام بالدين والقيم، ولو شاهدنا الصور التي عرضت لوكر صدام حسين لوجدناه يحتوي على الفاكهه والحلويات& وغيرها مما يؤشر انه لم يعد قادرا على التكيف مع حياة التعب والارهاق وشظف العيش ولهذا بادر بتقديم نفسه للامريكان عندما حاصروا مكانه وكانها ردة فعل مستنكرة للحياة الجديدة التي يحياها.
هنالك منطق اجتماعي يؤكد ميل الانسان الى موافقة الآخرين من شاكلته ويختصر هذا اجتماعيا في المجتمع العربي بالمثل المشهور (حشر مع الناس عيد)،حيث اقتنع صدام بعدما حوصر من قبل الامريكان انه لامجال للهرب لذلك قرر ان يقدم نفسه كما فعل رفاقه في النضال من امثال طارق او الصحاف او حتى سلطان هاشم وعبد حمود وغيرهم من الرموز الكارتونية المرعبة فهو ليس بافضل منهم ولذلك طبق المثل العربي حشر مع الناس عيد.
ان الامساك بصدام من قبل الامريكيين يعد مرحمة له لاننا لو تصورنا ان العراقيين هم الذين امسكوا به فما الذي يمكن توقعه، اعتقد انه سيقاتل لان مصيره سيكون كارثيا جسديا ومعنويا فهو اما ان يسحل او يمثل به وفقا لنظرية الحشود السوسيولوجية حيث ان الحشود الغاضبة عندما تصدر حكما بعقلها الجمعي اللاواعي فانها ستحوله الى نتف ان بقيت النتف وهذا المنطق معروف في ارقى المجتمعات ثقافة وشفافية ولعل القاريء لاحداث الثورة الفرنسية يستطيع ان يستوعب هذا المنطق بسهولة.
الامر الاخر هو ان صدام حسين تحول الى هذا الركام من الضعف بمجرد سقوط نظامه ولهذا لاذ بالفرار وتعزز الصعف بمقتل ولديه مما زاد من ضعف وشيخوخته، هذا فضلا عن ان الانسان مع كبر سنه يميل للتداعي والخرف احيانا وخصوصا عندما يتعرض الى صدمة نفسية قوية كالتي تعرض لها هو، حيث ان المستمع لخطاباته الاخيرة او بالاحرى التسجيلات التي كانت تبث عبر القنوات الفضائية ترجح انه ربما يعاني من الخرف لانه كان يوجه الخطابات على انه مازال الحاكم الحقيقي للبلاد.
التفسير الآخر هو الوضع المكاني لصدام حيث عثر عليه في حفرة وهي بالتاكيد تقيد قابليته على الحركة ولاتتيح الفرصة للهرب فهو قد وضع نفسه في مكان محكم الاغلاق لذلك فان الاستسلام بعد اكتشافه يعد امرا اكثر معقولية.
واذا ماعدت الى السايكولوجيا فانها تؤكد لي ان شخصية متشبثة بالحياة مثل شخصية صدام لا يمكن لها ان تدافع عن مبدأ او قيمة هذا ان كانت اصلا تحمل قيمة او مبدأ فقد كان حريصا على حياته بشكل لا يصدق وهذا ينعكس من خلال جيوش الحماية وخطوطها المتعددة هذا فضلا عما عرف عنه من انه يرفض المصافحة خوفا من العدوى المرضية او انه يطلب احيانا من زواره ان يأخذوا حماما ساخنا بل وربما يغتسلون بالديتول.
اضيف الى ذلك ان صدام حسين ربما يحلم بان محاكمته ستعطي له الفرصة للحديث والدفاع عن نفسه وبالتالي اقناع اولئك الذين رأوا صورته في القمر بانه مازال ذلك الفارس الذي يحلمون به او على الاقل انه يوهم نفسه بانه قد يتحول بدفاعه عن نفسه واعدامه الى شهيد الحلم العربي حلم السذج والكسالى والمتقاعسين عن خدمة اوطانهم.
اخيرا اقول ان الله اغدق علينا بعبر كثيرة ومنها عبرة صدام حسين فاعتبروا يا أولي الالباب، ولكن ما اكثر العبر وما اقل الاعتبار.


كاتب عراقي مقيم في ماليزيا
[email protected]