حسين كركوش



&
"هي مهمة الحجاب أيه ؟ انه يميز بين المرأة اللعوب والمرأة العابثة، والمرأة الجادة المتوقرة، فإذا ظهرت بزيها واحتشامها لن يطمع فيها احد".
الشيخ يوسف القرضاوي
&
الكلام المذكور قاله الداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي،&(في برنامج الشريعة والحياة/ 1/ 2..3 قناة الجزيرة القطرية) تعليقا منه على الجدل الدائر في فرنسا هذه الأيام بشأن اتجاه الحكومة الفرنسية الى تشريع قانون جديد يحظر ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الحكومية العامة. كلام القرضاوي إهانة بالغة لمشاعر وتصرفات ومواقف الاف النساء المسلمات غير المحجبات في فرنسا، حتى لا نقول إهانة لملايين النساء غير المحجبات في العالم الاسلامي. المسلمون في فرنسا يقدر عددهم بنحو خمسة ملايين نسمة من الإناث والذكور. ونسبة المحجبات من نساء المسلمين في فرنسا، ضئيلة جدا مقارنة بعدد النسوة غير المحجبات منهن. وبين هذه الأعداد الغفيرة من النساء المسلمات غير المحجبات في فرنسا، توجد الطبيبة والأستاذة الجامعية والكاتبة وربة البيت الناجحة والإعلامية البارزة والموظفة في القطاع الحكومي والخاص، بل والوزيرة، أيضا. وكثير من هولاء النسوة غير المحجبات من يشهدن ان لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويؤدين فرائضهن الدينية ويفتخرن بديانتهن الإسلامية، و يرتدين إزياء أوربية قد لا يرضى عنها القرضاوي، لكنهن لا يسرن عاريات في الأسواق والمحلات العامة، على أي حال. فهل تقبل امرأة مسلمة واحدة غير محجبة من هولاء النسوة، أن توصف بأنها "لعوب أو عابثة" لمجرد عدم ارتدائها الحجاب الاسلامي. ثم، من قال، غير الداعية القرضاوي ومن يشايعه، بان المرأة التي لا تضع الحجاب الإسلامي، " يطمع" فيها، بالضرورة، الرجال؟
السيدة طوقية سيفي، سكرتيرة الدولة (وزيرة) لشؤون البيئة والتنمية المستديمة في فرنسا هي، فرنسية مسلمة غير محجبة. فهل هي "لعوب أو عابثة" لأنها لا تضع الحجاب الإسلامي؟ وهل ان الوزراء الفرنسيين الذين تعمل معهم الوزيرة طوقية، طمعوا منذ لحظة استيزارها قبل أكثر من عام، أو ما زالوا "يطمعون" فيها، لأنها غير محجبة؟
ومع الوزيرة الفرنسية المسلمة، طوقية سيفي، توجد، كما أسلفنا توا، ألاف من النساء المسلمات الفرنسيات اللواتي يرفضن وضع الحجاب الإسلامي، فهل هن "لعوبات أو عابثات"؟ بل، إننا نسأل المذيعة الشهيرة في فضائية (الجزيرة) القطرية، خديجة بن قنة، التي حصلت أخيرا على بركات الشيخ القرضاوي بعد ان تحجبت: هل كنت قبل تحجبك، "لعوب وعابثة"؟ ونسأل زميلات خديجة بن قنة اللواتي ما زلن سافرات، يلتقيهن الشيخ القرضاوي في رواحه وإيابه الى إلقاء مواعظه من القناة الفضائية: هل انتن، الان، "لعوبات وعابثات"؟

يقول الشيخ القرضاوي أن توجه الحكومة الفرنسية الى حظر ارتداء الحجاب داخل المدارس العامة الفرنسية "يتناقض والحرية الشخصية الدينية". ومثل الشيخ القرضاوي، فان مفتي سوريا، الشيخ احمد كفتارو، أهاب بالرئيس الفرنسي، جاك شيراك، إعادة النظر في موقفه المؤيد لمنع الحجاب. وذهبت إيران ابعد من ذلك، فاعتبرت على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، احمد آصفي، حظر الحجاب داخل المدارس الحكومية الفرنسية "قرار متطرفا". وفي الأردن عبرت غالبية النواب الأردنيون عن أسفهم لتأييد الرئيس شيراك لقرار منع الحجاب. وانضم المرشد العام لجماعة "الأخوان المسلمين" المستشار مأمون الهضيبي، فطالب الرئيس شيراك بالعدول عن تأييده لصدور قانون يحظر الحجاب داخل المدارس الحكومية. وقال الهضيبي ان القرار " يختلف عن الصورة التي تحرص فرنسا على إشاعتها عن نفسها في العالم كنصيرة للحرية والمساواة، ويتعارض مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان".
وعلى صعيد ردود الأفعال الشعبية في الوطن العربي، نذكر مثالا واحدا هو، ما كتبه الأستاذ احمد بهجت في صحيفة الأهرام المصرية في عددها الصادر يوم الثلاثاء 23 كانون الأول، عندما قال "ان المشهور عن فرنسا أنها بلد الحريات، كما ان المعروف ان باريس أنها مدينة النور. ويبدو ان الدنيا تتغير بسرعة هذه الأيام، فإذا النور ظلام وإذا الحرية قمع للحرية. ان الملابس التي يرتديها الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة إنما هي جزء من اختياره وحريته الشخصية، وأي تدخل فيها عدوان على حرية الانسان. وما الذي يدفع فرنسا بكل تاريخها مع الحريات الى اضطهاد فتاة مسلمة اختارت تغطية شعرها، فهل تخشى العلمانية من قطعة قماش تغطي بها المرأة شعرها. أي منطق هذا ؟".&
في الواقع، ان التعجب والتساؤل يجب ان يقالا بحق "منطق" الأستاذ احمد بهجت، ومعه الداعية الشيخ القرضاوي والمستشار العام لجماعة الأخوان المسلمين، ومفتي سوريا، والحكومة الإيرانية، وليس بحق "منطق" الدول العلمانية، او بحق منطق النظام العلماني القائم في فرنسا، ما دمنا نتحدث عن هذا البلد، حصرا. المنطق العلماني واضح، متماسك ومنسجم مع نفسه. أما "المنطق" الأسلاموي المعتمد لدى هذه الأطراف جميعها، لتفنيد المنطق العلماني في حظر الحجاب هو، منطق "متهافت"، يناقض نفسه بنفسه.
لا، العلمانية في فرنسا وغير فرنسا، لا تخشى من "قطعة قماش"، سواء غطت بها المرأة رأسها، فقط، او جسدها كله من مفرق الشعر حتى أخمص القدمين. والدليل هو، وجود نسوة مسلمات في أوربا العلمانية، وفرنسا بالذات، يرتدين زيا أسلاميا غاية في الصرامة والتشدد،ولا يظهر منهن إلا العينان، يتجولن في طول فرنسا وعرضها، بدون أن يعترض عليهن أحد، أو يمسك بتلابيبهن شرطي، او يخضعن لمسائلة، مهما كانت. ومع هولاء النسوة يوجد رجال مسلمون بلحى طويلة وأزياء إسلامية غاية في التشدد والتزمت، قد لا يراها الإنسان حتى في العواصم العربية والمسلمة، وهم يمارسون حياتهم الطبيعية، ويؤدون صلواتهم في المساجد، ويدافعون عن فضائل دينهم، بدون أي مضايقة، مهما كانت. وفي بلدان الديمقراطيات العلمانية، وفرنسا منها، تنتشر عشرات المساجد الكبيرة الفخمة والأخرى الصغيرة، في طول البلاد وعرضها، يؤمها من يريد من المسلين، دون أي حرج يذكر، أو انتقاد يقال. وأصبح مألوفا مشهد مجموعات من المسلمين يقفون على مفارق الطرق والساحات العامة في الدول الأوربية العلمانية، يجمعون تبرعات مالية لبناء المزيد من المساجد، دون أن يضايقهم أحد.
وإذا كانت قضية الحجاب الأسلامي كلها تتلخص في "قطعة قماش"، وأن "الملابس التي يرتديها الانسان سواء كان رجلا أو أمرأة إنما هي جزء من أختياره وحريته الشخصية"، وفقا لمنطق معارضي العلمانية في العالم العربي والأسلامي، فهل يقبل هولاء المعارضون ان تسير،على سبيل المثال، امرأة أوربية،في الشوارع والمحلات العامة،في مدنهم العربية والاسلامية، وقد شمرت كثيرا عن ساقيها، وكشفت عن ثدييها،مثلما تفعل في بلدها الأوربي الأصلي،وفقا للمنظومة الأخلاقية المتعارف عليها في أوربا، دون أن تضايقها جهة رسمية او شعبية، ودون "اضطهاد" من احد؟
وإذا كان قانون حظر الحجاب في المدارس العامة الفرنسية "قرارا متطرفا"، مثلما وصفته الحكومة الإيرانية، فهل ان القرار الذي أصدره الإمام الخميني بحق الكاتب سلمان رشدي، قرارا غير متطرف. أوربا العلمانية لم تهدر دم من لا تتحجب،بينما تم هدر دم الكاتب سلمان رشدي. هذا، وأوربا تتعامل، على أي حال، مع فتيات يدرسن في مدارسها العامة، التي يمولها دافع الضرائب،الذي تتملقه الحكومات الأوربية، بينما رشدي يعيش خارج ايران.
وإذا كان مرشد حركة الأخوان المسلمين، المستشار مأمون الهضيبي، يرى ان تشريع قانون يحظر الحجاب في فرنسا "يختلف عن الصورة التي تحرص فرنسا على إشاعتها عن نفسها في العالم كنصيرة للحرية والمساواة، ويتعارض مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان"، فهل ناصر الهضيبي، بأسم الدفاع عن حقوق الإنسان ونصرة الحرية، نصر حامد او زيد ونوال السعداوي وحيدر حيدر ومرسيل خليفة وليلى العثمان وفنانين وكتاب ومفكرين، في الكثير من البلدان العربية والمسلمة، كاد دمهم أن يهدر من قبل جهات دينية، لأنهم عبروا عن أفكارهم بطريقة مغايرة للتفكير السائد في مجتمعاتهم؟
لماذا يطالب بعض رجال الدين والحركات الإسلامية في البلدان العربية وبعض الحكومات الإسلامية، النظم العلمانية في الغرب، باحترام حقوق الإنسان وصون الحريات الفردية، بينما يسكت رجال الدين هولاء عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلدانهم، هذا إذا لم يحرضوا،هم شخصيا، على انتهاك تلك الحقوق.
مشروع القانون الذي أعلنه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 17 كانون الأول / ديسمبر الجاري، بشأن حظر ارتداء الحجاب، لم تتم المصادقة عليه، بعد. ومن المنتظر تقديمه الى البرلمان في شباط/ فبراير المقبل. وهو قانون لا يحظر ارتداء الحجاب الإسلامي، فقط، وإنما يحظر جميع "الرموز الدينية الواضحة"،أي الحجاب والقلنسوة اليهودية والصليب. ولم يعارض مشروع القانون المذكور، رجال الدين المسلمون في فرنسا، فحسب، وإنما عارضه الروحانيون اليهود والمسيحيون. إذن، هو ليس قانون عنصري ضد المسلمين، دون غيرهم من إتباع الديانات الاخرى. وهو ليس امتداد، او من وحي عقلية الحروب الصليبية، مثلما يردد البعض في البلدان الاسلامية. والقانون المذكور لا يحظر "الرموز الدينية" في كل مكان ومن قبل جميع الناس، وإنما فقط داخل المدارس العامة التي تمولها الحكومة الفرنسية من ميزانيتها العامة.
&
الآن، ماذا على مسلمي فرنسا ان يفعلوا إذا أرادوا إحباط مشروع القانون، قبل أن يقره البرلمان؟
قبل كل شيء عليهم أن يتصرفوا كفرنسيين مسلمين، ويتوسلوا بوسائلهم "الخاصة"، المستمدة من خبرتهم الجماعية، لإقناع الرأي العام الفرنسي والطبقة السياسية الفرنسية، بشأن مطلبهم الرافض لتشريع القانون.
وكانت تظاهرة النساء المسلمات الرافضات لقانون حظر الحجاب، التي جرت في باريس يوم الأحد الماضي، ناجحة وايجابية، من حيث "الأرضية الفرنسية" التي جرت عليها التظاهرة. فقد رفعت النساء المشاركات العلم الوطني الفرنسي، ولوحن ببطاقات هوياتهن الفرنسية، للتأكيد على أنهن مواطنات فرنسيات، قبل كل شيء، لهن حقوق وعليهن واجبات. ومن حقوقهن ارتداء الزي الذي يرغبن فيه داخل المدارس الحكومية، وتأكيدهن على عدم تعارض ذلك مع قيم الجمهورية الفرنسية& )رفعهن العلم الفرنسي، وترديد النشيد الوطني). وهذا الأسلوب في الأحتجاج سيوفر لهن تعاطفا متزايدا من قبل قطاعات كبيرة داخل المجتمع الفرنسي، المعني الأول والأخير بقضيتهن، أكثر ما توفره لهن دعوات "خارجية" متشنجة ومتخلفة، ترى أن المرأة غير المحجبة هي، امرأة "لعوب وعابثة"، او تلك الآراء التي ترى في حظر الحجاب "اضطهاد" للمراة المسلمة من قبل العلمانية الفرنسية. ان دعوات "خارجية" كهذه تريد، بحسن نية وبدونها، الإيقاع بالمسلمين في دول الغرب العلمانية، وتحرضهم على التصادم مع المجتمعات والنظم العلمانية القائمة في الغرب. والمسلمون في هذه الدول يعرفون، تماما، ان النظم العلمانية وفرت لهم الحماية والرعاية والمساواة، وعاملتهم مثلما عاملت بقية مواطنيها من غير المسلمين. وعلى المسلمين في دول الغرب العلمانية ان يعرفوا أنهم يعيشون في ظروف اجتماعية وثقافية تختلف تماما عن تلك الظروف السائدة في بلدانهم الاصلية. وحتى إذا أصر البرلمان الفرنسي على تبني قانون حظر الحجاب، فعلى مسلمي فرنسا ان يتعاملوا مع القانون المذكور، شأنه شأن أي قانون فرنسي أخر، قبلته الغالبية، وفقا لقواعد وأصول اللعبة الديمقراطية، وليس وفقا لأصول الشتائم والتهم المجانية. وإذا انجر مسلمو فرنسا الى " منطق" المشايخ والجهات الخارجية التي تتسابق على مناصرتهم، كل لأغراضها ودوافعها، فأنهم سيقدمون خدمة كبيرة الى الجهات المعادية للمسلمين في الغرب، وأولها الأحزاب اليمينية المتطرفة التي دأبت على تصوير المسلمين في الغرب بأنهم طابور خامس يتلقى أوامره من الخارج، ويتربص الشر للغرب واهله.
بالتأكيد، هناك جهات معادية للإسلام وللمسلمين، داخل فرنسا وخارجها، مثلما توجد جهات معادية للغرب،كل الغرب، في العالمين العربي والإسلامي. ولكن، بالمقابل توجد قطاعات واسعة من الرأي العام الفرنسي من يساند قضايا العرب والمسلمين، ويستميت في الدفاع عن مصالح أبناء المسلمين في فرنسا. ويتذكر العرب والمسلمون داخل فرنسا، تلك التظاهرات الحاشدة التي نظمها الفرنسيون، أثر فوز الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة المعادية للتواجد الأجنبي، في الانتخابات الرئاسية، قبل أكثر من عام. فقد كان الشعار الذي رفعه وردده المتظاهرون، وغالبيتهم من الشباب العلمانيين، وربما الملحدين، أيضا، هو، "كلنا أبناء مهاجرين أجانب". ويتذكر مسلمو فرنسا تلك الافتتاحية الشهيرة التي كتبتها قبل أكثر من عامين صحيفة لوموند، اكبر الصحف الفرنسية وأشهرها، وطالبت فيها بتشييد المزيد من المساجد لمسلمي فرنسا، حتى لا يضطروا الى الصلاة على أرصفة الشوارع، على حد تعبيرها.
لهذا الرأي العام الفرنسي يجب أن يتوجه مسلمو فرنسا، لطلب التضامن والأسناد لقضاياهم. وبأمكان المرأة المسلمة الراغبة في التحجب، ان تعتمد، لشرح موقفها وكسب مؤيدين كثرين لقضيتها، على ذاك المنطق الذي يقول أن الحجاب الاسلامي يعزز حرية الفتاة المسلمة، لأنه يوفر لها، كغطاء شرعي مقبول من بعض العائلات المسلمة المتشددة، فرص كثيرة للخروج من المنزل لوحدها، والاختلاط مع الرجال، وممارسة مختلف المهن.
أما، إذا ظلت النساء المسلمات في أوربا رهينات لأقوال وأراء بعض المشايخ الذين لا يروون ابعد من أرنبة الأنف، ولمواقف بعض الحركات السياسية الأسلامية الأصولية المتشددة، التي تريد، بأي ثمن كان، تسييس الخلافات بين مسلمي أوربا وبين المجتمعات التي يعيشون فيها، ودفع هذه الخلافات الى طريق اللاعودة، وتصوير الأمور وكأنها صراعا بين المسلمين وغير المسلمين، فإنهن سيجدن أنفسهن داخل شرنقة اجتماعية ودينية وحضارية، وبدون نصرة، إلا تلك الآتية من أعماق الكهوف.