أجرى الحوار&حكمت الحاج
&
الحلقة الأولى
في حوار سابق نشر على صفحات "إيلاف" *&قبل أكثر من عام، بمناسبة صدور كتابه الأخير بالفرنسية تحت عنوان "الاسلام والتحليل النفسي"، ذلك الحوار الذي أثار الكثير من ردود الأفعال المتباينة، كنا تحدثنا الى الدكتور فتحي بن سلامة، المحلل النفسي والمفكر التونسي الذي يقوم بالتدريس في جامعة باريس السابعة، وصاحب المؤلفات الكثيرة بالفرنسية نذكر منها، اضافة الى ما ذكر أعلاه، "تخييل الاصول" عن محنة سلمان
رشدي وأدبه/ له ترجمة عربية صدرت بتونس عن دار الجنوب، وكتاب "فلق الصبح" عن التجربة المحمدية والسيرة النبوية من منظار جديد، وستصدر قريبا ترجمة عربية له، وغيرها من المؤلفات العلمية الرصينة المختصة أساسا بعلم التحليل النفسي، أقول، كنا تحدثنا عن ملابسات الراهن العربي ومآلاته ومصائره. وقد جاءت معظم الأحداث الاخيرة العاصفة، على الأرض، وفي الفكر، في سياق سبق وأن حدده د. فتحي بن سلامة بكثير من الدقة والموضوعية. وبناء على ذلك، واغتناما لأول فرصة وطأ فيها مفكرنا أرض الوطن، اثر دعوته من قبل المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب المعروف بـ "بيت الحكمة" حملنا اليه أسئلتنا وأسئلة جمهرة من القراء والمهتمين، فكان هذا الحوار المتميز الذي سننشره على قسمين وننهيه في حلقة ثالثة بقراءة تقديمية لكتابه "فلق الصبح"..
&
* عودا الى أطروحتك المهمة حول "الهوية" و"الحرية"، ألا ترى ان ما يحدث الآن في العالم العربي سيكرس التباكي على "الهوية" في مقابل إقصاء التفكير في ضرورة "الحرية"، ذلك ولو لفترة وجيزة؟ ألا ترى ان ما حدث أخيرا على أرض الواقع قد تجاوز المثقف العربي على مستوى الوعي والمسؤولية بشكل يقرب الى أن يكون "فضيحة" فكرية وأخلاقية؟ هل يبشر ذلك بانتهاء عصر مثقف الدولة الوطنية ومثقف السلطة الوطنية؟ ثم الى أي مدى نستطيع القول ان من نتائج الاوضاع الاخيرة وخاصة بعد 9 نيسان ابريل 003 ذلك التلاحم الذي نشأ أو سينشأ ما بين الفكر القوموي والفكر الاسلاموي الأصولي، بعد ما وضح من هزيمة كليهما على أرض الواقع؟ وتبعا لذلك، فهل ستشهد المنطقة العربية في المستقبل القريب نشوء تيارات فكرية تعيد انتاج الخطاب الشوفيني والخطاب الارهابي، بثياب جديدة تناسب المتغيرات الأخيرة؟ والى أي حد سيسهم الغرب نفسه في دعم بل وإنشاء تلك التيارات اذا ما توافقت مع مصالحه في لحظة تاريخية معينة؟
- إن اختيار المثقف العربي لـ "الهوية" بدلا من "الحرية"، يفقد "الحرية" معناها، وبالتالي سيفقتقد المعنى العميق لـ "الهوية". هنالك مفهومان للهوية: مفهوم سطحي، بمعنى أنا لست الآخر، ومفهوم عميق، بمعنى: لا وجود لـ "الأنا" إذا لم يكن متضمنا "الآخر". فوجود "الأنا" [أي، الوجود بمعنى الخروج من النفس] لا يكون الا اذا كان يتضمن "الآخر" في داخله، والا اذا كان يشترط معرفته أيضا. وللأسف، فإن ترويج المفهوم السطحي للهوية بمعنى مضاددة "الآخر" هو السائد الان.
&
* كيف تتقوم هذه "الهوية"؟
- مقومات هذه الهوية السطحية هي ثلاثة مقومات: أللغة، والدين، والقومية. والطموح الى الجمع بين هذه العوامل مجتمعة، هو الذي كون مفهوم السلطة بجميع أنواعها، وكون أيضا الخضوع اليها، في العالم العربي.& فبالنسبة لعامل اللغة نقول ان اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في العالم التي لها ثقافة حضارية كبيرة ولكن ليس لها الى حد الان معجم لغوي تاريخي.
عدم وجود هذا المعجم جعل العرب يتكلمون لغة خارجة عن التاريخ. وأنا أعتبر ان هذا الخروج من الزمن عن طريق اللغة، التي هي أساس علاقتنا بالوجود وبالآخر، من أهم اسباب الأزمة عند العرب. وهذا ما أراه عند المثقفين العرب وكيف أنهم لا يستطيعون أن يعرفوا تاريخ أية كلمة في اللغة العربية وتطورها وصيرورتها وفي أي عصر تحولت وتغيرت. وهذا ما يجعل من اللغة كلاما عاطفيا فقط ذلك ان السلطة ايضا تستعمل وتستغل هذه الصفة الإطلاقية للغة التي هي صفة أيضا للعربي التائه والضال في صحراء الأبدية. اذن، فعلى الرغم من وجود لغويين عربا وباحثين فإن العربية هي لغة خارج التاريخ.
&
*&نأتي الى المقوم الثاني من مقومات "الهوية" وهو الدين كما ذكرت..
- نعم. انه الدين. وفي الوقت الذي أوكد فيه ان كشف الحقيقة التاريخية للدين أمر غير ممكن، فإنه يمكن الاشارة الى ناحيتين في الدين: الناحية الاولى وهي الاعتقاد النفسي الذي يتجلى في الايمان حيث تتحدد وظيفة رمزية.
الناحية الثانية وهي النظرة الى العالم والتعاملات البشرية وهذه الناحية هي التي يجب ان يخوض فيها التفكير التاريخي.
ونحن اذا ما أدخلنا التفكير التاريخي الحقيقي الى هذه المشاكل نستطيع ان نرى ان هنالك بعض الأمور في الإسلام ليس لها علاقة بالإيمان. اذن كثير من هذه الاشياء سيتساقط، وهو ما يمكن أن نسميه بـ "الخيال التراكمي" منذ عدة قرون.
&
* ولكن، ما هو الايمان؟
- الإيمان هو اعتقاد بالأساس أو في الاساس الكلامي للإنسان وعلاقته بالآخر الكبير الذي نسميه الله. لقد جعل الرسول محمد من هذه العلاقة علاقة فردية اكثر من كل الاديان التوحيدية التي سبقت الاسلام. وهو ما أظن ان المسلمين قد ابتعدوا عنه تماما في القرون الاخيرة وجعلوا أنفسهم مربوطين الى فكرة خيالية ليس لها واقع قائم، ألا وهي فكرة "الأمة".. ففي دين الإسلام لا أهمية للأمة، وانما كل الاهمية لتلك العلاقة الفردية المباشرة مع الله. وهكذا فان مفهوم "الأمة" الخيالي قد طغى على مفعوم العلاقة مع الله، الواقعي.
&
* والقومية؟
- لقد دخلت الفكرة القومية عن طريق الدولة العصرية التي أدخلت فكرة "القومية" كوسيلة للقمع وليس كآلة روحية كما عبر عنها "هيغل" فكانت الدولة بهذا المفهوم وسيلة للتعسف وكسر التوازن الذي كان سائدا في المجتمعات العربية لعدة قرون رغم كل مظاهر التخلف والانحطاط والخروج من التاريخ.
إذن، يلزمنا اليوم مفهوم جديد للعلاقة مع "الوطن" لا يكون عن طريق "الهوية" بل عن طريق "المواطنة" بمعنى الحقوق المشتركة الانسانية. اي ان الروابط البشرية لا يمكن لها ان تكون روابط قومية بل روابط حقوقية.
وعلى المفكر العربي اليوم أن يعود الى دراسة الأسباب التي مكنت الحكومات العربية من التسلط على شعوبها وكيف وقع ذلك.. كيف تمكن حزب البعث مثلا من السيطرة على واحد من أكثر المجتمعات العربية تقدما في العالم العربي، وهو العراق، وكيف استطاع ذاك الحزب أن يخلق آليات ذهنية لهذه السيطرة ولذاك القمع. إن مهمة المفكر العربي الأولى الآن هي تحليل هذه الظاهرة.
لقد قام الحكام العرب بشكل ما، بالتنظير لما أسميه بـ "المتعة في الحكم"، وهذا من وجهة نظر تحليلنفسية يعني ان هذه المتعة تقود الى الموت. ويبدو لي ان تلك المتعة في التسلط هي التي تقود مجتمعاتنا العربية الى الهلاك. اذن، الحكم العربي هو المتعة التي تقود الى الموت ونستطيع ان نقول ان "صدام حسين" كان هو المثال الأبرز لهذا.
&
* مشكلة الديموقراطية مرة أخرى؟
- الديموقراطية ما هي إلا وسيلة للحد من التمتع بالفردية في الحكم. لقد أراد الدين أن يكون "الواحد" خارجا عن أية سلطة بشرية. فإذا نظرنا الى الحكام العرب فسنجدهم انهم جميعا أرادوا/ يريدون أن يكونوا تجسيدا لهذا "الواحد".
ان عبادة الفرد أو عشق الآخر هي أخطر ما يمكن ان يجابه الانسان. في هذه الحالة، يندغم الواحد بـ "القائد" أو الزعيم، وتسير "الأمة" الى الهلاك.
الحكم/ الحاكم العربي، اذن، هو الأله البعيد غير المتعين وهو من غير الممكن حسابه او سؤاله. فالواحد الالهي هذا ليس واحدا رياضيا حسابيا بل انه واحد مطلق غير معدود.
نعم، مرة اخرى نعود لنقول ان الديموقراطية اذن هي التي تمنع التمتع بالواحدية والفردية وتمنع ايضا ذهاب الجماعة البشرية الى الموت.
ولكن بما ان الواحد الانساني هو دائما منقوص، اذن فالحكم الديموقراطي هو حالة النقص التي تسمح دائما بالامتلاء الدائم بل وبالتكرار والتداول. ففي هذا النقصان نزع لقدسية الواحد الانساني. لقد أراد الدين ذلك وخاصة الأديان التوحيدية. ولكن الحكم العربي نجح في تحويل مفهوم الحاكم الى مفهوم الآله الفرد الأحد الصمد، في الطريق نحو صنمية وثنية جديدة، مما جعل من المألوف مشاهدة صور وتماثيل الزعماء العرب بهذه الكثرة المريعة وكأنها عودة الى ميتافيزيقيا جديدة تنشد الحكم والتسلط ولكنها تتلبس رداء الدين في عمق خطابه.
حاكم مطلق واحد كامل غير منقوص يخرج من أمة عبر مفهوم الهوية وينفصل عنها متعاليا يتوسل لغة إطلاقية غير تاريخية، هذه هي صورة الحكم العربي.
هذا التصور للحكم ونظامه يجب أن يسقط، بمعنى انه يجب ان يحاكم بالواقع. ومفهوم الواقع عند العرب هو ما يسقط من الوهم. فما وقع هو ما سقط، والحكم العربي هو ظاهرة خيالية بامتياز وغير واقعية.
لدى العرب تراث كبير يمكنهم من الرجوع الى حلبة التاريخ ولن يكون هذا الرجوع إلا بإسقاط الوهم والتوهم في الواحد المطلق وبقبول المنقوص والفراغ وعدم التباكي على الماضي ونبذ الأساليب الثأرية.. فالسلوك الانتقامي يشوه بصيرة الانسان ويمنعه من رؤية الحقيقة، حقيقة العدو. الانتقام هو أكبر عمى للانسان.. فعوضا عن الانتقام والثأر يجب الاستئناس بموضوع الحقوق الانسانية بلا تمييز والتعامل الذكي مع عدو هو أقوى منا بكثير شئنا ذلك أم أبينا. وأمامنا درس من صدام حسين.. لقد توهم صدام حسين قوته الى درجة انه غفل عن تحري حقيقة قوة أعدائه.
يتبع
&
&
مواضيع ذات صلة: &