أجرى الحوار عبد الجبار الرفاعي
وعزيز بوحيد

&
&
* كيف تنظرون إلى معالجة مفهوم الهوية في ظل العولمة، وتداخل القضايا الفكرية في العالم؟
&ظهرت العولمة وكأنها تُسقط على تاريخ المجتمعات الإنسانية شروطا جديدة لتغيير مـساره التقليدي، بحيث يتمركز حول جملة من القيم والرؤى المحددة. إنها ترفع شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف بديلا عن التمزّق والتشتت والفرقة وتقاطع الأنساق الثقافية، ولكن العولمة في دعواها هذه إنما تختزل العالم إلى مفهوم، وتتخطّى حقيقته باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات، لأن توحيدا لا يقرّ بالتنوع سيؤدي إلى توتّر يفجّر نزعات التعصّب المغلقة، وعودة إلى إحياء الخصوصيات الضيقة التي تتغذّى من مرجعيّات عرقية ودينية مغلقة، وذلك يقود إلى الارتماء في سجن الهويات الثابتة .
&التاريخ البشري لعوب في تحولاته، فكل رغبة بالتعميم والشمول قد تفضي إلى التضييق المبالغ فيه، وبازاء العولمة الداعية إلى ضغط المجتمعات في إطار واحد، تنشأ رغبات احتجاجيّة مضادة ترفض الامتثال لعملية الدمج التي تنزع عن المجتمعات خصوصياتها الثقافية من لغة ودين وبنية اجتماعية ونفسية وأخلاقية، ويقود مسار التنازع إلى تعارض بين القيم ذاتها، إذ من الصعب الاحتكام إلى مبدأ التفاضل التراتب حينما يكون الأمر متعلّقا بالبطانة الشعورية والثقافية للمجتمعات ؛ لأنها نسبية، وتتحدد أهميتها من نوع العلاقة التي يقيمها الإنسـان الذي ينتـمي إليها.
&إن العولمة تتجاوز هذه الخصوصيات وبها تستبدل قيما تدّعي أنها عالمية. إن القول بعالمية القيم التي تبشّر بها العولمة مضلل وفيه كثير من مجانبة الحقيقة، لأن القيم التي تريد العولمة تسويقها إنما هي القيم الغربية التي تبلورت ضمن المحضن الغربي خلال القرون الأخيرة، إنها ذات القيم التي نشرتها المركزية الغربية وطبعتها بطابعها، وإذا كانت تلك القيم قد تشكّلت في بيئتها الغربية في ظل شروط تاريخية معينة، فان نزعة التمركز الغربي عملت على تعميمها لتصبح كونية . وكانت التجربة الاستعمارية قد أسهمت في إشاعة تلك القيم على مستوى العالم، لكن العولمة تجاوزت الأسلوب التقليدي فصاغت جملة من القوانين والضوابط الملزمة التي بها يصبح الأخذ بتلك القيم إجباريا، ووظّفت التقدّم الكبير الذي بلغته الاتصالات من أجل إشاعة هذه القيم كمرحلة أولى قبل فرضها قانونيا على العالم، بدأت وسائط الاتصال والإعلام تصوغ وعي الشعوب صوغـا يرمي إلى تقبّل نسق القيم الغربية وفي خطوة لاحقة سيصار إلى تشريع المعايير اللازمة لتطبيق ذلك، وقد بدأت فعليا تطبق تشريعات ملزمة تهدف إلى ذلك في بعض المجالات الاقتصادية والسياسية مثل الدور الذي تمارسه منظمة التجارة العالمية، والمؤسسات العابرة القارات، والبحث عن أطر سياسية واقتصادية عالمية، وذلك سيفضي إلى استبعاد كثير من التشكيلات الثقافية والقيمية الأصلية التي تبلورت عبر العصور ضمن سياق خاص.
&على أن الأمر الأكثر أهمية هو أن بعض المجتمعات بدأت تعبّر عن ردة فعلها تجاه ذلك بصوغ مشاريع ثقافية مشتقة من السياق الثقافي الخاص بها، وهي تسعى إلى استلهام صور الماضي كمقاومة رمزية. ففرض قيم غريبة ينتج ردود فعل مضادة، وأحيانا يوقد شرارة التفرّد الأعمى، لأن هيمنة نموذج ثقافي واحد كما تسعى العولمة إلى ذلك لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما قد يؤدي على العكس إلى ظهور أيدلوجيات تضخّ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية. ثم أن محاكاة النموذج الغربي ستقود إلى سلسلة لانهائية من التقليد المفتعل الذي تتقاطع فيه التصورات، وهو يتعارض مع القيم الموروثة التي ستُبعث على أنها نظم معنوية تُستثمر لتأجيج التعصّب العرقي والديني والثقافي . وستؤدي العولمة إلى تراتب جديد أكثر من السابق ؛ لأنها تنمّي فكرة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطوّر، وتفجّر الحراك الاجتماعي بطريقة فوضوية . وكـل ذلك يسبب انهيـارات متعـاقبة في الأنساق الثقافية الأصلية.
&
* هل لك أن تفصل في المخاطر المتوقعة؟
&- تشطر العولمة العالم إلى شطرين، وتعمّق بينهما التناقض: عالم تمثله المجتمعات التقليدية، وتقوم العولمة بوضع التقنيات الحديثة والاتصالات تحت تصرفه، فيقوم من خلالها بإعادة إنتاج الأفكار التقليدية الموروثة دون أن يتمكن من الانخراط في تحديث نفسه على مستوى إنتاج المعرفة العلمية- العقلية التي يشترطها كل تحديث مهما كانت سياقاته الثقافية، وعالم آخر أنجز رهان الحداثة وهضمها، وتمثّله المجتمعات الحديثة، وفيه تقوم العولمة بتحديث المعرفة وتجديدها بشكل مطّرد. وثمة فرق كبير بين إعادة إنتاج معرفة تقليدية بوسائل حديثة، وإنتاج معرفة جديدة بوسائل حديثة. فذلك سيفضي إلى أن المجتمعات التقليدية ستنطوي على نفسها، وتُشغل ببعث الأفكار الموروثة الخاصة بها والتي حجزتها ضمن نسق اجتماعي- ثقافي شبه مغلق، إنها ستكون بعيدة عن إنتاج المعرفة المطلوبة من أجل التحديث. وفي الوقت نفسه ستستأنف المجتمعات الحديثة تطوير المعرفة من آخر نقطة وصلت إليها. وحسب التحليل المعرفي سترتمي المجتمعات التقليدية في أحضان الماضي وتجعله هدفا لها، فيما سيكون المستقبل هو هدف المجتمعات الحديثة، وحتى تلك الوسائط التقنية التي ستضعها العولمة تحت تصرف الجميع ستستخدم في المجتمعات التقليدية لبعث الفكر التقليدي ونشره كما بدأت تظهر إلى العيان بوادر ذلك، ومن ذلك إن الشكل الديمقراطي والتعددي في الحياة السياسية - وهو من منجزات الحداثة - بدأ يستخدم في إشاعة الأفكار والميول المذهبية والطائفية والعرقية والعشائرية والثقافية الضيقة ونشرها في تعارض واضح مع أهداف الديمقراطية الداعية إلى تأسيس مجتمعات اندماجية، تحترم المؤسسات، وتصبو إلى المجتمع المدني ذي المؤسسات المستقلّة . وكما يلاحظ فان شبكة الاتصالات الحديثة قد وضعت تحت تصرف الجميع إمكانية إنشاء منابر تبشر بالانتماءات الطائفية المغلقة التي يسود فيها الرأي المطلق، ونزعة تكفير الآخر، وذلك في محاولة لتشكيل صورة ثابتة وضيقة الأفق عن الماضي.
&لن يعاد تشكيل العالم على نحو جديد كما تعد العولمة بذلك إلاّ من ناحية زيادة انكفاء المجتمعات التقليدية على نفسها، وإنتاج مأثوراتها لتعزز بها مفهوما معيّنا للهوية، وبالمقابل توسيع سيطرة المجتمعات الحديثة وتجديد معرفتها . تعمّق العولمة تصورات متناقضة عن النفس والتاريخ والهوية، وتسهم في ظهور معارف متعارضة، ولن يتحقق رهانها في تخطّي الاختلافات وإعادة توحيد المجتمعات الإنسانية إن ادعاء العولمة بتشكيل عالم تتوحد فيه المفاهيم والقيم والأهداف يتضمن مغالطة، لأنه في إطار فرضية التقارب التي تقول بها العولمة تكمن سلسلة من ضروب التنافر وعدم الانسجام التي تقوض تلك الفرضية، فالحث على استيراد نماذج غربية من قبل المجتمعات التقليدية يفضح عدم اتساق تلك النماذج مع نسق القيم الأصلية في تلك المجتمعات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تحريض تلك المجتمعات على التكيّف مع القيم الغربية، يجدّد الآمال بردود فعل خطيرة وغير محسوبة، إلى ذلك فإن التعجيل بتوحيد العالم حسب دعوى العولمة يقود إلى ظهور نزعات التفرّد، والتأكيد على وجود نظام واحد جديد يكون مسؤولا عن السلطة، يعني فتح الأفق على مزيد من المنازعة وتفاقم الصراع، وحين تسعى العولمة إلى وضع نهاية للتاريخ فإنها تمنحه فجأة معاني متعددة ومتناقضة، فعدم توافق النموذج مع المجتمعات التقليدية لا ينتظر منه حل المشكلات المتوطّنة فيها، بل إن محاكاة ذلك النموذج قد فشلت في جميع المجالات التي ظهرت فيها المحاكاة، ما حصل هو تعميق مفهوم المحاكاة نفسها؛ فالنخب الثقافية والسياسية والاقتصادية مضت في اقتباس النماذج الغربية في أكثر من مجال، حتى ولو أبدت ظاهريا نوعا من الاستنكار، فالعولمة راحت تعمّق التناقضات، وذلك قاد إلى نتيجة واضحة، وهي: إن المجتمعات غير الغربية وجدت نفسها على الدوام ممزقة وحائرة بين منهج التكيّف ومنهج الابتكار . فالعولمة في ضوء كل هذا جددت بناء فكرة التبعية في كثير من مجالات الحياة.
&لا يمكن إجراء رصد ختامي دقيق لما أفضت إليه العولمة، سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي، أم منذ أن ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية. ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو أنّ العولمة قد خلقت إمكانات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وتفجير الحراك الاجتماعي بصورة فوضوية. وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية غير الغربية.&
&
* ما توقعاتكم للنتائج المترتبة على كل ذلك؟
&النتيجة المترتبة على ذلك هي أن مفهوم التبعية الثقافية استند إلى مفهوم محدد للمحاكاة عمّق الروح الامتثالية، فظهر ازدواج خطير، هو إفراز حالة التمزق التي أشرنا إليها من قبل؛ ففيما أعتبر هدف العولمة إنجاز اندماج كلّي للعالم، فإن ذلك الهدف ظل مجرد إطار عام لا يقدم حلولا فعلية، وهذا هو الذي دفع إلى صحوة الثقافات الطرفية التي وجدت نفسها تقف في مواجهة هيمنة ثقافة المركز، وكلما ازداد التناقض تعمّق الخلاف بحيث أن مفهوم الهوية قد انغلق على نفسه عند بعض الثقافات القائلة بالخصوصية المطلقة والجوهر الثابت، فأعيد في ضوء هذه التحديات تشكيل الخصوصيات العرقية والدينية والفكرية، بما يوافق ضربا انكفائيا من الأيدلوجيا . يضاف إلى كل هذا فالتبعية أدت إلى تعارض واضح بين الإستراتيجيات المشتملة على: نشر ثقافة الخاصة من أجل هيمنة النخبة على الآخرين بصورة أفضل، وبذلك تصطنع خصوصيّة معبرة عن هدف عالمي، وبمقابل هذا يتم استيراد عناصر من الثقافة المهيمنة للتزوّد بوسائل مؤثرة لمجتمعات هي في الأصل غريبة عن تلك الثقافة، واللجوء في الوقت نفسه للهوية وتوظيفها لصالح استراتيجية خاصة بالمنازعات الوطنية والدولية معا، بحيث دخلت هذه الممارسة في صلب العمل السياسي، وهذا سيكشف أن مفهوم الهوية غير ثابت، ومكوناتها غير مطلقة، فهي متحركة ومتعدّدة، تتغيّر على وفق المقتضيات والأحوال وحسب حاجة الفاعلين الاجتماعييّن. ولا يخفى أنه خلف هذه التناقضات يكمن صراع عميق بين انساق ثقافية مختلفة، انساق متجددة المعاني تتشكّل طبقا للتطلّعات المختلفة، سواء أكانت تلك التطلّعات خاصة بالقائلين بالخصوصية أو بالعالمية.
&
* تعملون منذ اكثر من عشر سنوات على مفهوم التمركز، وقد أجريتم تفكيكا نقديا موسعا للمركزيات الغربية والإسلامية، ما التمركز كما خلصتم إليه؟ وما الصلة بين المركزيات ومفهوم الهوية؟
- التمركز نسق ثقافي محمّل بمعانٍ دينية، وفكرية، وعرقية تكوّنت تحت شروط تاريخية معينة، إلاّ أن ذلك النسق سرعان ما تعالى على بعدهِ التاريخي، فاختزل أصوله ومقوماته إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وهو تكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات، ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل، سواء باستكشاف أبعاد نفسها أو بمعرفة الآخر، ويشمل ذلك الذات المفكرة الواعية لذاتها أو تلك الذات غير الواعية التي تقيم تصوراتها على نوع من المخيال المنتج للصور النمطية لها ولغيرها. ولا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب التاريخية، إنما - وهذا هو الوجه الآخر لكل تمركز - لا بد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوّهة للآخر. وبين الذات الصافية التي تدّعي النقاء المطلق، والآخر الملتبس بالتشوه الديني والفكري والعرقي، ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات؛ فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنه أيديولوجيّاً يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة موحدة لها منظور واحد.
&إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تفصح عن مضمراتها؛ لأنه يتتبع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكوّنها. ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل ومتجدد ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكوِّنات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط التاريخية للذات الثقافية. وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجردة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونية في آن واحد، فإنّ الهوية الثقافية التي تقوم على الاختلاف لا تقر بالثبات ولا الشمول وتحرص على بعدها التاريخي، وفيما تصطنع هوية الثقافة المتمركزة أصولاً عرقية ودينية وفكرية توافق مضمونها، فإنّ هوية الاختلاف تتجنب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز؛ فاتصالها بهذه الركائز اتصال تاريخي طبيعي ليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية. أخيراً فيما تقوم هوية الثقافة المتمركزة بطمس كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية كما أنتجتها تلك الثقافة واستبعادها، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية، فإنّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكوِّنات فاعلة فيها، وهي تمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها وغيرها. إنّ نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف، وتوفر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها، وتعيد إليها وحدتها، بعد أن انقسمت إلى تيارات متعارضة، لا يمكن لها في نهاية الأمر إلاّ أن تسهم في إضفاء نوع من العدميّة على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها الخاصة بها. إنّ الوحدة المتنوعة هنا لها دلالتها من بعدها الحيوي الذي يركّب تصوراته بمقدار ما يسعى لأن يتفاعل مع الثقافات الأخرى، ويختلف عنها في الوقت نفسه، ضمن إطار عام له قدرة على التنوع والحوار والتواصل بما يغني فروضه، ويخصّب من إمكانات التجدد فيه. وذلك بهدف أن تكون ثقافة لها أثرها في عالم تشكل الثقافات فيه عنصراً أساسياً من عناصر الوجود.
&
*&يثار منذ قرابة عقد موضوع الصراع بين الحضارات، ثم أثير مؤخرا الصراع بين الأصوليات، ما علاقة ذلك بالمجتمعات التقليدية، هل المجتمعات التقليدية هي التي تغذّي كل ذلك ما رأيكم؟
&بداية ينبغي أن نقدم تصورنا عن المجتمعات التقليدية، لابد من تحديد المقصود بها. فنحن نقصدُ بالمجتمعات التقليدية تلك المجموعات البشرية المحكومة بنسق متماثل من القيم شبه الثابتة أو الثابتة والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، والتي تتحكّم بها روابط عشائرية أو مذهبية، والتي لم تفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر، فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسّره باعتباره تمسكا بالأصالة، وهي المجتمعات الأبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي من الأسرة، وينتهي بالأمة، والتي لم تتحقق فيها الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات، وتخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية، وتعتبره مهددا لقيمها الخاصة؛ فالحذر قائم تجاه كل تحديث، وهي المجتمعات التأثيمية التي تؤثّم أفرادها عندما يقدِّمون أفكارا جديدة، ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم، وهي المجتمعات المعتصمة بهوية ثقافية قارّة لا تعرف التحوّل، ولا تقرّ به. وأخيرا هي المجتمعات التي لاذت بتفسير ضيق وشبه مغلق للنصوص الدينية، وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينية الأصلية. وبالإجمال هي المجتمعات التي لم تتمكن بعدُ من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفاسير والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة ثانية، فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه، فأضفت قدسيّة عليها، وصارت تفكر بها وتتصرّف في ضوئها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان، وأنتجت تصورات ضيقة عن مفهوم الحرية والمشاركة، فاعتبرتهما ممارستين ينبغي عليهما أن تمتثلا لشروط النسق الثقافي السائد، وأن تتمّا في ولاء كامل لشروط البنية الثقافية لتلك المجتمعات التقليدية، فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة والتغيير، إنما هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكل خروج على مبدأ الطاعة والامتثال للنسق الثقافي السائد، مهما كان هدفه، يعدّ مروقا وضلالا، لا يهدف إلى الاصطلاح إنما التدمير؛ لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهميتها وجدواها مشتقة من تصوّرات مغلقة على الذات، ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير ضيق للماضي.
&ولكن ليس الأمر حكرا على المجتمعات التقليدية، فالمجتمعات المتقدمة تعاني من سيطرة فكرة التفوق والتمركز حول الذات، وهي تطور دائما أفكارا شعبوية عبر (الميديا) تدعو للتفاضل والتراتب والتفوق، وما دامت التباينات وصلت إلى هذه الدرجة، فمن المتوقع أن يندلع سوء تفاهم عميق، لأن لغة الحوار غائبة. والحق فما يحكم العالم الآن هو نوع جاف وضيق الأفق من سوء التفاهم، ولابد من شراكة في الأفكار والوعي والمسؤوليات، ويخيل لي بأن إعادة ترتيب العلاقات الجارية في العالم الآن سببها كل ذلك.
يتبع
&