أجرى الحوار د. إسماعيل الربيعي
و د. سمر ماضي

&
&
سيّار الجميل.. هذا الاسم الكبير المتوهج.. هذا المفكر العراقي العربي الاصيل.. هذا المؤرخ المتمّيز بمنتجاته وابداعاته وفلسفته للحياة والزمن والتاريخ.. هذا الذي يهوى حياة العصر وقد اثرى ثقافتنا العربية بكل جديد.. وهو المتواضع الذي لا يأبه للتفخيمات والتعظيمات وقد امتلك ناصية النقد وآليات التفكيك بحيث يخشى الاخرون الاقتراب منه.. هذا الذي تعب على نفسه وتكوينه الخصب وترّبى تربيته الخاصة وارتوى من بيت عربي اصيل وهو حفيد
شاعر نهضوي جليل القدر وابن مثقف ورجل قانون ضليع.. قرأ ثقافات عدة وله موهبة في النقد وملكة في فحص الادلة ودقة في كشف العورات ونقد المعلومات وله اسلوبه البارع اذ تأسرك كلماته وجماليات ادبه وتوليده ونحته لعدد كبير من المصطلحات والتعبيرات العربية.. هذا الذي قّدم افكاره وقناعاته وتصوراته وتحليلاته في الاستراتيجية والتحولات العولمية ومن الغرابة والدهشة ان كل توقعاته التي نشرها قبل سنوات قد حدثت عند مطلع هذا القرن!
&وان التقيت به سحرتك كاريزماه وجذبك الى ما يقول.. تجده رومانسي حالم في حياته يهوى الموسيقى والشعر وفي الوقت نفسه واقعي براغماتي في تنظيم زمنه وعمله وتفكيره هذا الذي دفع ثمنا باهضا من قبل خصومه وحّساده ذات اليمين واليسار العربيين معا على ترابه العربي جراء استقلاليته السياسية وحرية كلمته وجرأته وقوة آرائه ونقداته وموضوعيته ودقته وعلميته.. هذا الذي يحترم كل المعتقدات الدينية والاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية ولكنه يأبى المؤدلجات والتحّزبات والانخراط بين جدرانها الموبوءة.. وهو يحارب التخلف والبلادة ويؤمن بالحرية والتقدم فهو الذي يمّثل فكريا ريادة الليبرالية العربية الجديدة بأبهى تجلياتها.. هذا الذي يريد امة عربية ليست شوفينية بليدة، بل يريدها ذكية وعاقلة ومنتجة وحرة ومحترمة فاعلة بصمت من دون شعارات تشارك العالم ابداعاته ويأتلف فيها كل انواع البشر ويتعلم منها كل العالم!! دعوني اشارك في حوار هذا المفكر القادم من اعماق ارض الحضارات.. من العراق.
د. سمر ماضي
&
كمّ من الهواجس المعرفية التي لا تعرف للطمأنينة طريقا أو بوابات، إستراتيجيات من التبصرات النافذة نحو شمس المعنى الساطع، من دون الوقوع بين براثن الاكتمالات والمطلقات، لافظ للتواطءات والمصالحات، ساع بكل ما ملك من روح نحو لي الراسخ والثابت، دائب بصبر وأناة للتدقيق في تلك الملامح، التي لا تستدعي الوصف فقط، بقدر ما تكون الممارسة حاضرة بكل توقها ومعتركاتها واذكاراتها.
منشغل هذا الرجل حد الافتتان بالوقوف على الصياغات، والحفر العميق في تحولات الواقع والمعرفة، في استبصار لايني من الابتعاد عن التقعيد والتعقيد،توقد يلهب الحماس في مناطق الانطفاء الكثيرة في الأرض اليباب العربية، التي سكنت الى الأسباب من دون التفكر لحظة بالتكونات والتفاعلات والحركات.مسافر زاده الاسترشاد بحركة الواقع، وكاشف حاذق للأسباب والعلل، تلك التي استوطنت في حشاش العلاقات، صاخب من دون ضجيج، عراقي من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، عروبي صميم كأنه لا يعرف الارتواء إلا من حليب الناقة، حاد وباتر وصارم كأنه جراح إنكليزي، دقيق لا تميزه عن ابرع حرفيي الساعات السويسريين الجالسين في ضواحي جنيف.
في بحثه الدؤوب عن مواطن الاشكالات والتقرحات، لا يفتأ من الولوج في احتدامات الضرورات والمحظورات، مؤرخ من سلالة التبجيل والتقدير، عاكف على الترتيب والتوظيب والتقميش والتهميش، حتى لتراه بالعين مجالسا للطبري واليعقوبي والغزي والمقري،، يطرب لبيت شعر يقوله مقيس بن صبابة، ويقف باجلال عند الزهري المحدث،ومستزيدا من الفراهيدي اللغوي،ومستمعا الى عمرو بن عبيد المتكلم،ومتفحصا في نصوص ابن الزيات الكاتب،متبصرا في تجليات الجاحظ المفكر،ومابين الصولي والمحاسبي والنظام والجمحي والكندي وابن خلدون، يستغرق محاورا وقارءا ومفككا لنيتشه وهيدغر وميشال فوكو.
سيار الجميل خلطة سحرية من المؤرخ الفيلسوف، والفيلسوف المؤرخ، حيث التماهي في أقصاه.متهاديا يسير في عالم المخطوطات والمجلدات والموسوعات والأبحاث والمؤلفات، من دون سكون ولا اضطراب، يعانق السؤال الذي ملأ عليه حواسه، حيث الرجوع الى غريزة التفكير، تلك التي ما انفكت تؤسر عليه لبه.
د. اسماعيل الربيعي
&
ولد سيار الجميل في الموصل / العراق العام 1952. ونال دكتوراه الفلسفة (التاريخ الحديث) في جامعة سانت اندروس الاسكتلندية العام 1982. عمل محاضرا واستاذا في جامعات : وهران وتونس الاولى والموصل واليرموك وآل البيت والامارات .. استاذ زائر في جامعة كيل بالمانيا الغربية منذ العام 1987. شارك في عشرات المؤتمرات الدولية والندوات العلمية. حصل على عدة جوائز علمية منها شومان (1991) وبراءة تقدير (1992) وقلادة الابداع للعلماء المتميزين (1995). تخّرج على يديه العديد من حملة الماجستير والدكتوراه. وهو عضو مزامل ومشارك في العديد من المؤسسات الاكاديمية والجمعيات الثقافية وهيئات التحرير واللجان الاستشارية والمراكز العلمية والمنتديات الفكرية والسياسية في العالم. خبير دولي في الدراسات الاجتماعية والثقافية للعديد من المنظمات والمراكز العلمية.ادار العديد من وحدات البحوث والدراسات وورشات العمل البحثية في تاريخ المدن الاجتماعي والاقتصادي. شارك في كتابة وتحرير موضوعات مختزلة للانسكلوبيديا الاسلامية والانسكلوبيديا التركية وموسوعة المدن الكبرى وموسوعة تاريخ الثقافة البشرية الحديثة وموسوعة التاريخ العالمي. له اكثر من عشرين كتابا منشورا ونشر 76 بحثا علميا في العربية والانكليزية. ترجمت بعض اعماله الى الانكليزية والفرنسية والتركية. اشترك مع علماء آخرين في دراسات مشتركة، منهم : سمير امين وبيتر بيرك وخليل انالجيك وغيرهم. يعمل على تأسيس مشروع معرفي في كيفيات التعامل بين الثقافات والعولمة من خلال انشاء مركز I.C.N.C في تورنتو / كندا.
&من اهم كتبه المنشورة :
- A Critical Edition of ADDURR: 1514-1812, Edinburgh, Scotland, 1983.
العثمانيون وتكوين العرب الحديث / تكوين العرب الحديث / بقايا وجذور / العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة / المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي / زعماء وافندية / تفكيك هيكل / العولمة الجديدة / استراتيجية تفكير!/ التحولات العربية / النسر الاحمر / الدليل التاريخي / الرؤية المختلفة / انتلجينسيا العراق / المجال الحيوي للخليح العربي وغيرها.
وكان اللقاء وهذا الحوار :
يقال انك سليل عائلة عراقية عريقة لها ارث ادبي وعلمي وارستقراطي.. فهل كان لذلك كله تأثيره على شخصيتك وابداعاتك؟
- ربما بعض الشيىء.. ولكنني لا اؤمن بالسلالات والارستقراطية ولم تكن تربيتي ارستقراطية.. لست من آل جميل زاده ببغداد فنحن من آل الجميل بالموصل.. نجح والدي رحمه الله وهو واحد من رجال القانون البارعين ان يحسن تربيتنا وتربيت في بيت يعتز بمواريث الشعر والادب وكان جّدي علي الجميل مثقفا بارعا وكاتبا لامعا لم ازل اردد ابيات من شعره.. عشت منذ صغري مع الكتب والارواق والاقلام في بيتنا القديم واعتقد ان الزمن والسفر والتفكير بالمعاني والاشياء والحياة ومتغيرات العالم هي التي أثرت على تكويني اكثر من كلاسيكيات بيئة عائلية قديمة لم اعايشها الا في سنواتي العراقية الاولى.. مع اعتزازي بمدينتي ووطني.
&
ما هي هواياتك؟ وما الذي تحب ممارسته اثناء اوقات الفراغ؟
- ليس لدّي أوقات فراغ ابدا.. ولا أحب سماع هذا التعبير فالزمن اثمن شيىء في وجود الانسان. هواياتي متنوعة كالموسيقى والسفر وقراءة كتب المذكرات..
&
يقال انك تمارس لعبة الاسنوكر والبليارد..
- كان ذلك قبل اكثر من عشرين سنة عندما حصلت على بطولة فيها
&
ما الذي يعجبك من الموسيقى؟
- الموسيقى الكلاسيكية ولي معرفة وخبرة فيها وبمؤلفيها والسمفونيات والكونشترتوات..
&
&ومن تهوى سماع موسيقاه؟
- الموسيقار النمساوي غوستاف مالر في اروع ابداعاته وسمفونياته التسع.. ولكن لدي ما يمكن قوله هنا ان الموسيقى عالم شفاف جدا لا يمكنني التمتع به الا بمزاج خاص وحالة خاصة وفي بيئة تساعدني على سماع فضاءاته والحالة التي يمكنني ان اكون جزءا منها..
&
&وهل تهوى سماع الغناء الشرقي؟
- طبعا، والطرب العربي في مقدمة ذلك.
&
ومن تهوى سماع طربه؟
- الاوائل اهوى ابداعاتهم وبعض المتأخرين اذ لم يتبق اليوم الا النادر من المطربين.
&
ما هو اهم ما يمكن للعرب ان يهتموا به؟
- الزمن وكيفية توظيفه لبناء مستقبلهم.
&
ما الذي تريده من العرب؟ اقصد ما اهم ما تدعوهم اليه؟ اي بمعنى : ما الذي يمكنك ان تفيدهم به؟
- ان يفكرّوا.. ان يؤمنوا بالنسبية في تقويم الامور بعيدا عن مطلقات الاشياء.. ان يدققوا كثيرا.. ان يشككوا في كل ما يقرأونه.. ان يؤمنوا بالقيم الديمقراطية.. ان يميزوا بين القيم العليا والقيم العادية.. ان يحترموا الزمن بشدة.. ان يكون عندهم مشروع محبة يجمعهم.. ان يكف بعضهم عن التلفيق وعن الاطراء والتزييف والاطناب والمديح والمفاخرات والانوية والنرجسية.. ان يحبوا الاخرين.. ان يقرأوا كثيرا.. ان يجادلوا بالحق.. ان لا يصادروا حقوق المرأة.. ان يؤمنوا بالتقدم والحداثة.. ان يكفوا عن عبادة الاوهام والاشباح ان ينبذوا الخرافات ان يبحثوا من اجل حقائق الاشياء.. ان يجددوا حياتهم المدنية من خلال قوانينهم المدنية وتربوياتهم المدنية واساليبهم المدينة ومقاصدهم الاساسية.. عليهم بتوظيف التاريخ واحترام الماضي لا تقديسه.. عليهم بتنمية التفكير.. ان يعرفوا كيف يكتبون وكيف يتكلمون وكيف يعيشون وكيف يربون اولادهم.. عليهم بالصدق والتواضع واجتناب الكبائر.. هل تريدين اكثر من ذلك!
&
هل تعتقد انك كاتب شامل ذائع الصيت ام فيلسوف عربي غير معلن عنه ولم يأخذ مكانته بعد في الحياة العربية؟
- هذا سؤال اكبر مني.. دعيني منه رجاء. لا اريد ان تشتمني الناس.. رجاء دعي الناس هي التي تقول كلمتها.. ان ليس اليوم فالمستقبل ابوابه ستفتح وستقول احفادنا فينا احكامها..
&
ولكن العرب لهم حصصهم وموازناتهم ومحاصصاتهم حتى في ثقافتهم.. فكم من مبدع عراقي غبن ولم يسمع صوته وسط ضجيج اعلامي عربي صارخ تؤلفه سلطات وقوى قطرية واحزاب ترفع اسماء وتحّط من قدر اسماء اخرى!
- هذه سنة الحياة العربية المعاصرة التي عرفناها منذ ان خلقت.. ربما يختلف الناس بغير الناس من بيئة لأخرى.. فما نراه في مصر مثلا من علاقات واعلاميات ربما لا نجدها في العراق وعند العراقيين بالذات.. اي بمعنى لكل بيئة عربية اساليب وادوات وطبائع ومخلوقات تختلف عن الاخرى. ان العراقيين قد ضيّعهم حكامهم واحزابهم وايديولوجياتهم وتعصباتهم على مدى خمسين سنة، وكان لابد ان يحيا العراقيون من مثقفين ومبدعين ومتخصصين في وطنهم.. كان لابد ان يعملوا على ترابهم.. كان لابد ان يموتوا على ارضهم.. كان لابد ان يفخر احدهم بالاخر.. كان لابد ان ينعموا بظل عراقهم وبخيراته.. لكنهم تشردوا وعانوا وتمزقوا.. فقبل ان نعتب على الاخرين لابد ان ننقد ما الذي جرّته علينا اوضاعنا..
&
ولكن الم تكن هناك ادوار عربية في تغييب العراقيين؟
- ربما، ولكن ان لم يجد العرب ان هناك ثمة سياسات ومناخات مساعدة لما غبن هذا على حساب ذاك.. وعلينا ان لا نقف عند النتائج، بل لابد لنا ان نفحص الاسباب. لابد ان نعرف اولا بأن العراقيين لا سند لهم يدافع عن حقوقهم ووجودهم وابداعاتهم وثانيا ان ندرك من كان ولم يزل يسيطر على الاعلام العربي من الاخوة العرب وثالثا لابد ان نفقه اللعب السياسية وراء السلطات العربية وعمليات صناعة هذا على حساب ذاك.. الخ
&
سابقى مصّرة على معرفة سبب ذيوع اسمك في امريكا مثلا مقارنة بما هو عليه الحال في عالمنا العربي.. ومنذ ان نشرت مشروعك في فلسفة التكوين التاريخي وسلاسل الاجيال بدت اهتمامات واسعة بمقالات كتبت عنك هناك قبل ان ابدأ بترجمة كتابك (المجايلة) الى الانكليزية..
- هذا امر متوقّع.. فلقد كتبت (المجايلة) لاجيال المستقبل عربيا.. ولا تنسين ايضا ان مؤرخينا العرب يكتبون تاريخا ولا يكتبون فلسفة للتاريخ! ان (المجايلة) ثمرة التسعينيات في حين ان مشروع (التكوين التاريخي) ثمرة الثمانينيات ولقد اهتم بعض الزملاء في الولايات المتحدة بالمشروع الاول قبل اهتمامهم بالثاني، وخصوصا ما كتبته ونشرت عنه كل من المؤرخة دينا خوري واستاذ الفلسفة بيتر ثورون والصديق الكاتب توماس لنك وغيرهم.
&
ما العلاقة العضوية بين " الرؤيوية " التي دعوت اليها منذ كتابك الاول في مشروعك الاول وبين " فلسفة الاجيال " في مشروعك الثاني؟ وهل ثمة رابط ايضا بينهما ومشروع " التفكيك " النقدي؟
- لا احب مصطلح (مشروع) فانا لست صاحب مشروعات حتى اتفلسف بها على اقراني في هذا العالم. ان لدي مجموعة افكار ازعم انها جديدة وهي مترابطة حقا، بين " الرؤيوية " و " سلاسل الاجيال " رابط هو (فلسفة التكوين التاريخ) الذي يعتمد جملة مبادىء نظرية قدمت عليها تطبيقات عديدة اولاها فحص ترسبات التاريخ ومكوناته من خلال جذوره وبقاياه.. ثانيها ربط الدواخل بالاطراف في اطر المكان وجيو تاريخيته وهذا انتج الاهتمام بجيو ستراتيجية المجالات الحيوية في العالم المعاصر.. ثالثها محاولة الخروج من ماضويات التاريخ بتكوين قطيعة معرفية وليست بالضرورة تاريخية من اجل توليد حالة منهاجية رؤيوية جديدة للحياة والمستقبل .. رابعها استبطان مخفيات ما وراء النص بعيدا عن السرد وعدم الاكتفاء بالظاهر وهنا تتطلب الحاجة الى مهارات ومقارنات لاستنباط النتائج التاريخية والاستنتاجات المعرفية ثانيا .. وهذا كله هو الذي اثمر عن آليات التفكيك النقدي في مطارحاتي ومعالجاتي لظواهر اراها قد غيبّت الحياة العربية وراء التاريخ اي الكشف عن الزيف فيها حتى وان اختلفنا مع حقائق ذلك التاريخ.. خامسها وهو المطلوب : ما الذي اثمر عن هذا كله؟ بتواضع ارى ان حصيلته جملة من النتائج الرائعة التي خدمتني في تحليلات وتوقّعات سياسية وفكرية وجيوستراتيجية من اجل المستقبل.
&
المعروف عنك انك دوما تؤكد من خلال كتاباتك ومحاضراتك على امور وتوقعات اغلبها يحدث.. ما مدى استفادتك من كل من الرؤيوية و المجايلة في ذلك.. علما بأن ما توقعته قد حصل، مثل : سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1992.. وما توقّعت حدوثه في الولايات المتحدة من احداث دراماتيكية عند مطلع القرن الجديد؟ وقد توقعت ايضا سقوط النظام العراقي عام 2009 ولكنه سقط العام 2003؟
- اعتقد انه لولا الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وقوى التحالف باسقاط نظام صدام حسين، فقد كان بمقدور النظام ان يعيش مترنحا حتى 2009 هذا ما كنت اقوله منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.. اي ان عوامل الانهيار كانت موجودة وتنخر في جسد العراق السياسي ولم يكن باستطاعته البقاء ابدا! اما عن هذه التوقعات فهي من قبيل الثيمات والاستنتاجات لا من قبيل التنبؤات، فالاحداث التاريخية عندما تحدث لها ظروف ولادة ومسببات لابد من التوغل في معرفة قوة نضج الاسباب وقوة تفاعلات المصالح ومراقبة التباينات في العلل والمعلولات ولكل قوة تكوينية في التاريخ عمر زمني.. فاذا نجح المرء في قياس ذلك امتلك توقعات تأتي في اغلبها كما هي وليدة ظروف وليس وليدة اقدار.. وحتى الحرب الاخيرة التي راهن عليها البلداء والاغبياء، فهي مقررة سلفا لصالح الاقوى بدليل عدم وجود اية موازنات بين قوة الطرفين.
&
اريد معرفة كما وعدت قراءك انك ستطبق نظريتك في المجايلة على التاريخ البشري بعد ان نجحت في تطبيقاتك على التاريخ العربي الاسلامي.. فهل مشروعك قائم؟
- نعم قائم ولكنه بحاجة الى اتعاب كبرى واكثر من برنامج على الحاسب الالي انه بحاجة الى زمن وبحاجة الى مساعدي بحث يعاونوني للتصدي له من النواحي الاحصائية واتباع المنهج الكمي.. واذا انجز فانني اتأمل بأن نتائجه ستكون مذهلة جدا.
&
منذ العام 2000، لم تنشر اي كتاب.. ولكن بدا اهتمامك بالمقالات اكبر! لماذا؟
- لدي الان عدة اعمال جاهزة وتحت النشر اكثر من عمل، ولكن ثمة ظروف خاصة مررت بها اخّرت بعض اعمالي وخصوصا عدم استقراري بمكان منذ العام 2000.
&
بودي ان أسألك اسئلة صعبة وانا اتوقع منك وضوح الاجابة لما عهدناه فيك من الجرأة والشجاعة الكافية وسبل الاقناع.. لقد ذكرت في واحدة من مقالاتك اننا كعرب لم نقرأ تاريخنا بعد قراءة نقدية.. فماذا تريد ان تقول هل هناك مخفيات فيه؟ وهل هناك مستور عنه؟ وهل هناك ما لم يكشف منه؟
- لست الوحيد الذي قال بذلك.. لقد سبقني غيري باثارة هذا كله، ولكن لا حياة لمن تنادي في وسط عالم يجمع كتب منمقة ومطرزة ومزينة يتباهى باغلفتها ولا يقرأ منها شيئا ! علينا ان ندرك بأن هناك من يقدّس سفاسف التاريخ ولا يريد زحزحة تفكيره بالوعي به فكيف تريدين منه دراسته نقديا! هناك بنية كهنوتية من المؤرخين والكتاب العرب والمسلمين الذين يمكنني ان اطلق عليهم بارثودكسية اللا تفكير من الذين لا يريدون الا اتباع التقاليد الميتة التي عرفها الاباء والاجداد فقط على شاكلة تسجيل الحوليات وترديد المقولات الخاطئة! وهناك كتاب وباحثين عرب انتقائيون لا يريدون الكشف عن كل مخفيات هذا التاريخ واسراره خوفا ورعبا من سلطة المجتمع قبل سلطة الدولة! وهناك كتاب ومفكرون عرب مؤدلجون يريدون اثارة ما ينفع اجندتهم وافكارهم السياسية من دون اي منهج ولا اي عملية تفكيك! وهناك ندرة من باحثين حقيقيين لا يمكنهم ان يغطوا كل هذا التاريخ والتراث باعماقه الدنيا وآفاقه الواسعة وهم قد جعلوا دراسة التاريخ وتدريسه مهنة او حرفة ترزقهم واولادهم.. فلا يريدون اذكاء النيران او اثارة المستور من علامات الاستفهام! الخ
عفوا للمقاطعة) هل تريد القول ان ليس هناك اية استفادة من المناهج الحديثة؟
&- لقد مرت اكثر من مائة سنة على ولادة افكار ومناهج وقراءات وكتابات عن تاريخنا.. وترجمت فلسفات وكتب ومناهج الى العربية، وتعّرف العرب على اساليب وسبل متطورة حديثة، بل ودرس خيرة ابناء العربية في جامعات عالمية متقدمة.. ولكن يبدو انهم لم يوفقوا في تطبيق سبل الحداثة بفعل سطوة التفكير القائم!! ولم اجد هناك من له القدرة والجرأة حتى اليوم على ان يفصل بين الماضي والحاضر.. لقد مرت عشرات السنين وكتابة التاريخ عربيا تمشي على عكازات مكسّرة وتخشى من اثارة موضوعات وتتمنع على ان تثير اية اشكاليات او معالجة اية مشكلات.. الخ والاحوج الينا والى تفكيرنا ان نشّخص السلبيات في تاريخنا وان نمتلك الشجاعة الكافية لكي يقول الانسان اليوم بأن في تاريخنا خطايا ارتكبها العرب انفسهم بحق انفسهم وبحق اجيالهم ومستقبلهم! لابد ان تدرك الاجيال اليوم بأن تاريخنا ليس كله مزدهر وعظيم وان لا نبقى نزّمر ونطّبل ونغّرر بالاجيال بأن ليس للعرب من مثالب وليس للمسلمين من هنات وليس للحكام والخلفاء والسلاطين من موبقات.. لا يمكن ان نبقى اسرى الخوف من بعض الذين ليست لديهم الا التهم الجاهزة فيتهمونك بالمروق والاستشراق والكفر وانت من ابعد الناس عن ذلك.. ليس من الصحة ان نسكت على ما حدث في تاريخنا من ظلم ومن عبودية ومن استبداد ومن قمع ومن قطع رؤوس وحز رقاب ومن معارك قبلية او صراعات محلية او طبقية او سياسية.. او حتى من ممارسات جنسية واباحية ضد المرأة تحت ابواب ما يجوز وما لا يجوز!! ليس من الحقيقة ان نقمع اي صوت يريد ان يعلن ما سكت عنه الاخرون.. ليس من العدالة ان نبقى اسرى الكهنوت سواء من رجال احتكروا الدين واحتكروا التاريخ ايضا! ليس كما تعلن بعض السلطات الشوفينية والايديولوجيات الكاذبة ان اثارة موضوعات حقيقية سيفكك كيان الامة وينخر الثقافة ويميت العرب ويتصدّون للنقاد والمفكرين تحت شعار (لا تجلدوا الذات..) .. العكس هو الصحيح.
&
&ماذا انتج ذلك كله دكتور سيار؟
&ان السكوت عن اعلان الحقيقة والخوف من ممارسة النقد ومعالجة ما حدث من اخطاء وخطايا في تاريخنا هو الذي يجعل الاجيال تعيش وهما مزدوجا وثنائيات غبية! لا يمكن ابدا ان نبقى اسرى العناوين الخلابة والمعلومات العامة المزيفة من دون معرفة ما يكمن في الاعماق من خطايا حصلت وانتجت واثمرت بحكم ترسبات التاريخ. ليس من الحكمة ان نسكت على تواريخنا الكسيحة ونصبغها بصبغات ملونة مضيئة ونزيّف تاريخنا ونربي اولادنا على الزيف والبهتان.. ليس من المنطق ان نمزج تاريخنا الحضاري وهذا العالم المضيىء من حضارتنا وثقافتنا ورقينا عبر التاريخ بما صنعه تاريخنا السياسي المقيت بكل ما حفل به من السيئات ومشروعات القتل والسمل والخنوع والعبودية والظلم والاستبداد .. لابد ان يخرج ايضا اولئك المتشرنقون بمرجعيات ومنطلقات طائفية ومذهبية وعرقية وقومية شوفينية وسلطوية وقبلية من اثيابهم ليكونوا حياديين وموضوعيين في معالجة التاريخ واتخاذ المواقف.. واخيرا، لابد للعرب ان يتخلصوا من الانوية والشخصنة والمحليات والجهويات وايضا ما ولد في القرن العشرين من القطريات المقيتة بحيث هذا يرى امجاده مصرية فرعونية وذاك يرى عظمته شامية اموية والاخر يرى عراقيته فوق الجميع وهذا يتفاخر باردنيته البدوية او لبنانيته الجبلية او ليبيته العظمى او تونسيته الخضراوية او خصوصياته المغربية او جزائريته الثورية او فلسطينية لا تمس.. الخ لابد من الاعتراف بأن هناك في تاريخنا مركزيات ومحاور واطراف.. هناك اعمار وازمان واجيال وآجال .. هناك مدن حضرية وهناك ارياف زراعية وهناك بواد وصحراوات وجبال.. هناك سواحل ودواخل.. هناك حضارات نهرية قديمة وهناك آثار وكنوز في خارطة تاريخية متغيرة لم تكن هكذا ابدا عبر الزمن كالتي نراها في القرن العشرين! وآخر ما يمكنني قوله ان تاريخنا الاسلامي بالذات يتجاوز عمره 1400 سنة لا يمكن ان نقف فقط على اربعين سنة منه ونترك 1360 سنة منه.. لا يمكن ان نتجاهل ما حدث حتى في هذه الاربعين سنة من حكم الخلفاء الراشدين من اخطاء وفتن ومشكلات الى جنب المنجزات! لا يمكن لمن يعتز بالامويين وتاريخهم ان ينكر ما حدث من مآس وظلم في عهودهم! لا يمكن لمن يعتز بالعباسيين وتاريخهم ان ينكر ما حدث من خطايا قاتلة وثورات مميتة وانقسامات مريعة في عهودهم! لا يمكن لمن يعتز بالفاطميين وتاريخهم ان ينكر ما فعلوه ويتغاضى عن ذلك! لا يمكن لمن يعتز بالاندلسيين ان ينكر حجم الانقسامات والتشرذمات ومملكات العصبيات والطوائف.. لا يمكن لمن يعتز بالصفويين والعثمانيين وتواريخهم ان ينكر ما حدث عند الطرفين من مشكلات سياسية وفتن وظلم وحروب داخلية وصراعات طاحنة! ليأتي الجهلة ويقولون والله نحن نمتلك تاريخا عظيما وان مشكلتنا فقط هي مع الاستعمار والصهيونية!!
&كما قلت في كتابي (بقايا وجذور) ان ما تحّكم في مصائرنا اليوم مجموعة من ترسبات التاريخ وجذوره العقيمة التي خلقت من بيئاتنا ما اهلّها لتكون طعاما للاستعمار والصهيونية.. فهل يفّكر العرب علنا في ذلك ويقولون ما يبطنون.. ام انهم يبطنون عكس ما يعلنون ويعترفون بأن الحاجة باتت ماسة لمعرفة ثيمات التاريخ وبدائله بكل خصبه وبكل خطاياه من اجل ان نعرف كيف نتخلص من ترسبات قالتلة في تفكيرنا واساليبنا وندرك كيفية تعاملنا مع الاخر في ضوء اساليب جديدة لا علاقة لها بما تمنحنا اياه غرائب التاريخ العجيبة.
يتبع
&