أجرى الحوار د. إسماعيل نوري الربيعي
&
&
من دون التباسات أو احترازات يشرع ((محمد القضاة)) في مقاضاة ذاته،كأنه المحاسبي الصوفي الذي آثر أن يعقد تطواف الروح في دائرة الوجد العميق.يمر الكلام قريبا من روحه، يمرق من خاصرة البوح الذي استغرق فيه، من دون أن يرف له جفن، إنه المنكب على الكلام، يمد الجسور بجناح خافق لا يعرف الزخرف أو المعسول من التوسلات. مدققا في كل شيء،
متفرسا في المعاني التي لا تعرف الركون الى الالتصاق بالحناجر التي آثرت التكرار، واستكانت الى المداخل الجاهزة.
ناقد لا يروم من النقد غير الابتكار، حيث الوقوف على الأرض التي تحفز في المرء الإحساس العميق بالكينونة. من فعل النقد الى فعل الحياة، يواصل(( القضاة ))تجليات المعنى عبر لسع النصوص وتفكيك المتصلب منها، بغية الولوج الى شفراتها السرية، التي استقرت جاثمة على الوجوه والأبدان والورق المسفوح. وهاهو ذا ينظر شزرا بعين الرقيب الى كل هذا التناسل والتكاثر، لسفاح المقولات التي انبرت تستقي الحضور على حساب الإنصات الى البوح الشفيف الذي ينضج في الروح.
&
تجليات اللحظة الفارقة في المجال النقدي العربي، الى أي حد قيض للناقد العربي أن يكون على مستوى اللحظة التاريخية، وما مدى أثر الذهان الأيديولوجي في العقل العربي، لا سيما بعد التحولات الكبرى التي يعيشها العالم؟
- شيء مؤسف أن نرى العالم يتقدم ونحن نعيش في القرون والحقب الماضية، والناقد في حاضرنا يعيش في تساؤلات لم تصل حد التحولات التي يعيشها العالم، وعندما نتأمل المشهد النقدي لا نرى ذلك النقد الذي يؤطر للحظة الراهنة و لا لتلك التحولات العالمية التي تدور حولنا، حتى الأيدلوجيات التي مارسناها في نقدنا وكتاباتنا أصبحت الآن في مرحلة تغريب، وكأننا أمام عقل عربي لا يتحرك بل مصاب بحالة من الجمود، والعقل الجامد هل ينتج فعلاً نقدياً، إذاً نحن أمام حالة من الضمور والغياب بفعلنا وليس بفعل غيرنا.
&
التجديد والابتكار صار المانشيت الذي لا يغيب عن التوجهات النقدية العربية، لكن الملفت في الأمر يقوم على هذا الاستلاب الغريب للمناهج النقدية الغربية، أين الأزمة في التعمية التي يعمد البعض من النقاد الى التركيز عليها، أم في أهمية التطلع نحو التأصيل لفعل القراءة؟
- التجديد والابتكار سمة الشعوب الحية والمثقفة والواعية، والتجديد الذي نراه في الساحة النقدية العربية متشابك مع المدارس النقدية الغريبة ومغرق في المصطلح ونحن أمام محاولات حقيقة لكن هذه المحاولات لم تصل إلى نتيجة يرغب بها النقد العربي الجديد، وهو نقد يجب أن تكون له شخصيته وحضوره وسلطته الفعلية في الإبداع والتأصيل، لكن ما نره استخدام لمصطلحات نقدية غربية غريبة على بيئتنا، وهنا لا بد أن يكون لدينا مدرسة نقدية عربية حديثة تمتزج بإبداعنا إبداع البيئة العربية التي تبتعد عن التعمية والاستلاب والاغتراب والخلط بين التغريب والتأصيل، وان تثبت أنها قادرة على مجاراة التغيرات التي يشهدها العالم في شتى الصعد، والنقد ساحة فعلية لا بد أن تتأثر إيجابيا بما يجري ويدور في مناهج النقد الجديدة وأنا اعتقد انه آن الأوان لثورة نقدية حقيقة ترفض الرتابة والروتين والنقل وتبحث عن مكانها الصحيح كي تظهر بثوب جديد حي لا يعيش في الوهم الجديد ولا يرتدي الثوب البالي الذي لا مكان له في العالم الجديد.
&
أين تجد (محمد القضاة)) في الأكاديمي، في الناقد، في الصحفي وأنت مدير تحرير المجلة الثقافية، في كاتب العمود الصحفي الذي يتواصل مع الناس بكثافة؟
&
- أجد نفسي في المحاور كلها، في الأكاديمي الذي اشعر أنني أعيش ولادته لحظة لحظة مع طلابي الذين أعيش لحظات ولادتهم وإبداعهم، واشم روائح ابتكاراتهم، وحين أكون معهم وأفتح باب الحوار اشعر أنني أمارس الدور الذي يحبه الطالب أن يتحدث بأريحية وحرية وطلاقة وأسمعه وهو يحاور زميله حول نص أو مقطوعة أو مقالة، ولا أخفي عليك أنن اعشق المحاضرة حد الثمالة وخصوصاً حين تجد طالب الجامعة مقبل على العلم والمعرفة، وأعتقد أيضاً أنني أمارس معهم في المحاضرة النقد التطبيقي بمنتهى الموضوعية وخصوصاً حين نتوقف عند نص نحلله وننقد ونربطه بما يدور حولنا، ولا أظن أن هذا الإطار يبتعد عن دوري كمدير لتحرير المجلة الثقافية التي تصدر عن الجامعة الأردنية وننشر فيها الإبداع والنقد والمقالة الفكرية والثقافية والسياسية والعلمية وغيرها، وهنا أمارس أيضا دور الناقد الذي يميز بين ما يستحق النشر وبين ما لا يستحق، كل هذا يدفعني لاختيار مقالتي الأسبوعية التي انشرها في جريدة الرأي العزيزة التي أتواصل من خلالها مع الناس بكثافة ومحبة،و لذلك تجدني أعيش في ثوب الأكاديمي الحر والناقد القاضي والصحفي الذي يحب رائحة الحروف وأجواء المطابع، وكاتب العمود الصحفي الذي يطل على الناس من معاناتهم وهمومهم وأنفاسهم هدفه الأسمى ترطيب عروق الحياة وتغيير السائد إلى الأفضل.
&
من الصياغات الى الاندراج في الوصف والتبرير والتسويغ والشرح، بقي الناقد العربي، يكتفي بالتلميح والإشارة العابرة العصية على الفهم من قبل المتلقي، حول كم الإثقال والضغوط التي تنال منه،نعي جيدا أن الناقد إنسان عليه أن يأكل ويشرب ويصالح ويتقاطع أحيانا،ترى الى أي حد يمكن للناقد أن يتعايش مع الدور الأصل باعتباره الراصد لمضمون التغير؟
- الناقد العربي مثقل بالهموم كالمثقف العربي الذي تعصف به الهموم والانقلابات الفكرية والثقافية، وحين نراه يكتفي بالإشارات العابرة العصية على الفهم نراه يعيش حالة فقدان الوعي التي يعيشها غيره من البشر في عالم اليوم الذي تتصارع فيه القيم والتقاليد، فقد نراه يلجأ إلى الوصف والتبرير والتسويغ لأنه بالنتيجة إنسان يرغب بالعيش ولديه مسؤولياته الأسرية والمجتمعية، ولذلك إذا وجدنا المتلقي يعيش حالة التعمية وعدم فهم مقاصد الناقد فهي نتيجة طبيعية لحالة التقاطع التي يعيشها الناقد، وأنا ارى أن الناقد حتى يكون فاعلاً وصادقاً وناقداً لا بد أن يكون كالقاضي بحيث يتجرد من موقفه وأهوائه، لا بد أن يكون معياره الصدق الخالص على الدوام، لتميز الغث من السمين ومعرفة قدرة المبدع على مواصلة رحلة الإبداع في عصر تنقلب فيه المفاهيم وتتغير،،ودوره أن يحاكم النصوص محاكمة موضوعية حتى لا يقدم مجهولا إلى جماعة تتهمه مسبقا ولا رغبة لها في التعرف إليه،ويمكن القول إن المبدع سواء أكان قاصا أم روائيا أم رساما أم شاعرا كان ظاهرة لا يمكن أن تمر دون أن تثير اللغط والاعتراض والنقد،بدءا من امرئ القيس وانتهاء بالبياتي وحجازي ودرويش لان المبدع الأصيل يحمل دائما مبدأ إدخال المبتكر في قاموس اللامعترف به والمقبول والمعروف فمثلا الشاعر المتميز قد يلقى تشككا من بعض ورفضا من الأغلبية وترحيبا من القلة غير أن غبار دائرة الرفض لا تخفي هالة المبدع ولا تجرده من تميزه مهما طال الزمن أو قصر.&
يتبع