د.إسماعيل نوري الربيعي
&
&
يال هذه اللحية والتي لم يمض عليها سوى ساعات، لتغدو أكثر شهرة من لحية ماركس. ذلكم هو العالم الجديد، أو العولمة كما يحلو للنظم الرأسمالية والديمقراطية توصيفها.عالم يجعل من البعيد في أشد الحالات قربا الى الحد الذي تجعل منك وسائل الاتصال معتادا على المزيد من الوجوه، وهم يبعدون عنك آلاف الكيلو مترات، إنها الإلفة والتداول المستمر الذي تصنعه الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والكيبل والإنترنت. وها أنت تنظر في الشاشات أكثر مما تنظر في وجه ولدك أو زوجتك، الى الحد الذي بات الفرد ( أحيانا!) ينسى البعض من تفاصيل وقسمات أفراد عائلته.
&
الباذخ والمتقشف
في الظهور العلني الأول لصدام ناطقا، ماترددت صحيفة في العالم ، من الشرق الى الغرب، عن الإستشهاد بالجملة التي أطلقها مرتجفا؛ (( أنا صدام، أنا رئيس العراق)). كأن العالم برمته لاشاغل يشغله سوى صدام ومحاكمته وهكذا يتم تصنيع العالم، في إحيائية وإيحائية مبيتة ومقننة للمشهد المقدم الى المشاهد، القابع في منزله من أجل الإندراج في فعل التلقي، ولعل السؤال المهم يتوقف عند مسألة المقارنة بين محاكمة الطاغية ميلو سوفتش، الذي ظهر على الشاشات حليقا مهندما كأنه عريس في ليلة زفافه، والطاغية صدام الذي بدا أشعا مرتديا بدلة بائسة، فيما تثير طريقة التصوير المزيد من الأسئلة الحائرة، حول هذا البخل المفاجيء الذي حل على الطاقم الإعلامي ، ليكون الإكتفاء بكاميرا واحدة، احتار بها المصور وغابت الكثير من اللحظات والمشاهد والملاحظات التي كان من الممكن أن يحظى بها المراقب والمتابع.
لاشك أن المسألة برمتها تتعلق بقضية الحث على تغيير الأنماط والسياقات، السائدة في الشرق الأوسط، والمراد به أن يكون كبيرا وموسعا وشاملا للعديد من القوى، ولكن دقة الإنتقاء على صعيد الطريقة التي تم بها تقديم صدام، تشي بالكثير من الأسئلة المتعلقة بالكيفية التي ينظر بها الأميركان الى العراق، لاسيما وأن فترة السبعة أشهر التي تم فيها تغييب الطاغية، كان لها الأثر الأهم في إظهار هذا الرجل بهذا الشكل البشع والمريع، وهو الذي عرف عنه عنايته المبالغ فيها على صعيد المظهر، الى الحد الذي بات الجميع يعي مقدار النرجسية التي تطغى على نفسيته.صورة مرسومة بدقة شديدة وعناية وحذق يحسب للمعد، إلا أن المتابعة المتلفزة بقيت تعاني من الفقر الشديد والتقشف، الى الحد الذي شعر الكثير من المشاهدين والتابعين بخيبة الأمل. لكن هذه الأخيرة كانت وعلى مايبدو مطلوبة ومرغوبة. باعتبار حالة الإستجابة لقضية الشفافية التي تروج لها الولايات المتحدة باعتبارها الراعي والمسؤول والمصمم للنظام العالمي الجديد، والذي مازال جديدا على الرغم من إتمامه السنة الرابعة عشر من عمره (( المديد أم القصير))!
&
الهول أم الصدمة
هل يمكن النظر الى محاكمة الطاغية بإعتبارها مسألة تتعلق بالشأن العراقي فقط، أم أن خيط المتعلقات يطول الى الحد الذي يطال الكثير من الغايات والأهداف والأطراف. لقد جيء بثلة من الرجال البائسين المرتعدين الخائرين، والذين كانوا في الأمس القريب يملؤون أرواح العراقيين بالفزع والخوف والإضطراب. لتكون الصدمة على أشدها لدى المواطن العراقي أولا، والذي أذهلته المفاجئة الى الحد الذي راح فيه يتساءل، عن مدى هذه الأكذوبة التي هدمت عليه حياته وأحلامه وذكرياته ، وجعلت منه يدور في فلك الأفكار الغائمة والمتشككة حول الصدق والكذب في هذا العالم الكالح والكئيب، والذي لم ير منه سوى المصائب والكبت والقمع والإبادات الجماعية.
خيط تكشف عنه لائحة الإتهام التي استمع إليها، الرجل الأول في النظام الشمولي ، الذي تحصن بشرعيته الثورية، الى الحد الذي ما تردد لحظة من التأكيد على الشعارات، التي كانت تطلقها الماكنة الدعائية التي أسست له، وهللت له الى الحد الذي يبدو فيه وكأنه مصدقا للأباطيل والأكاذيب، والمتعلقة بأنه رئيس العراق، والقائد العام للقوات المسلحة بإعتباره (( فريق أول ركن )) في الجيش العراقي، على الرغم من كونه لم يخدم يوما واحدا في الجيش، أو حتى ينتسب لأي أكاديمية عسكرية. هذا بالإضافة الى محل سكناه والذي يكون بحسب زعمه(( كل بيت عراقي)).
ماالذي تغير على الواقع العراقي الراهن، في ضوء الظهور الأول للطاغية وهو في قفص الإتهام.وهل يمكن التكهن بظهور بعض الأعراض والتغيرات والتبدلات على صعيد التجربة الإجتماعية العراقية.صدمة اللحظة الأولى لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها بالنسبة للعراقيين، ولكن الأهم في كل هذا يبقى راسخا ن مقولة أطلقها مواطن بسيط عندما قال؛ (( كل هذا من الماضي، المهم أن ننتبه الى القادم من حياتنا، فقد شبعنا دماء حد التخمة)). ولكن تبقى المعادلة العسيرة قائمة وحاضرة في صلب المشهد العراقي، والتي تشي مفرداتها بالعديد من الملاحظات والهنات والبلايا والرزايا والمصائب. الى الحد الذي تكون فيه كلمات المواطن البسيط، وكأنها ضرب من العبث، خصوصا وأن القوى والفاعلين واللاعبين يتوزعون وينتشرون في المحيط العراقي بطريقة تبعث على الغثيان، فالداخل والخارج يتضافر على توسيع حدة التقاطع الى الحد الذي يظهر العراق، وكأنه الجثة المسجاة على مشرحة الأطماع والرغبات الشيطانية والشهوات الجامحة.
لقد تبدى صدام في مشهد المحكمة مسكينا، على الرغم من بعض المكابرة التي أبداها، متحصنا بالإشهار والعلنية التي توفرها كاميرا التلفاز، الى الحد الذي ظن الكثيرو ن أنه يعاني من أعراض الخرف وغياب الوعي، خصوصا عندما يشير إلى أنه الرئيس الذي إنتخبه الشعب بمحض إرادته.تلك الإرادة التي تم طمسها تحت رغبات الأميين واللصوص والأفاقين وقطاع الطرق، والذين ظهروا بعده على الشاشات، مرتعدين خائرين.وهم الذين ماترددوا لحظة عن تصوير بشاعاتهم مع المواطنين العراقيين، في سبيل توثيقها بأمانة مطلقة وراسخة للقائد الضرورة، الذي تعز عيه نفسه فيما ترخص بعينه نفوس الناس.
تورنتو كندا