حاولت في مقالي السابق أن ألقي بعض الضوء على جانب من شخصية القاضي رزكار محمد أمين وسلوكه وتصرفاته داخل أسرته، إعتقادا مني أن شخصية أي فرد إنما هي مستمدة من البيئة التي يعيش فيها، وطبعا الأسرة تحتل المرتبة الأولى في تكوين شخصية أي منا،ثم تأتي التربية المدرسية التي لا غنى عنها في تهذيب سلوك الفرد داخل المجتمع، ثم البيئة الإجتماعية التي تؤثر دون شك على إتمام شخصية ذلك الفرد..وبما أن القاضي رزكار كان محل إنتقاد الكثيرين ممن تربوا أو تشبعوا بثقافة العنف والقسوة المعروفة عن العراقيين،سعيت في ذلك المقال أن أبرز شيئا من الجانب الإنساني لهذا الرجل في محاولة مني لإقناع بعض منتقديه بسلوكه الشخصي الذي رأيت أنه يشكل جزءا من شخصيته إنعكس بوضوح على أدائه داخل المحكمة،وأعتقد راسخا أن هذا الأداء لم يكن متكلفا أو متصنعا أو ينم عن جهل بالأسس القانونية أو الصلاحيات التي يتمتع بها القاضي عند إدارته لجلسات أية محاكمة.
وفي هذه الحلقة سأحاول أن اقارن بين أداء القاضي رزكار الذي ترأس ست جلسات متتالية من محاكمة صدام حسين وأعوانه،وبين القاضي الجديد رؤوف رشيد عبدالرحمن الذي أدار لحد الآن جلستين من تلك المحاكمة المثيرة للجدل.
وباديء ذي بدء أود أن أشير الى أن اختيار القاضي عبدالرحمن الكردي أثار عندي بعض الشكوك لا أستطيع اخفائها، فبرغم أنني لست من أنصار نظرية المؤامرة العتيدة، لكني أكاد في هذا المقام أن أجنح الى جانب المؤمنين بتلك النظرية اللعينة التي خربت الكثير من أوجه حياتنا، فأني أعتقد بأن هذا الاختيار لم يكن بريئا أو خاليا من أهداف معينة،فالقضية التي يحاكم بشأنها المتهمون، هي بالأصل قضية عراقية، والمتهمون أجرموا بحق كل العراقيين من دون إستثناء، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، لماذا قضاة أكراد لمحاكمة صدام وأعوانه على أول جريمة يمثل بسببها أمام المحكمة، والتي حسب بعض الأوساط ستكون الأخيرة أيضا، حيث أشار رئيس هيئة الإدعاء العام جعفر الموسوي قبل أيام أن صداما إذا حكم عليه بالإعدام في قضية الدجيل فسينفذ الحكم عليه في غضون شهر واحد من صدور الحكم وستسقط عنه بقية الدعاوى القضائية في الجرائم الأخرى التي تزيد على مئات الدعاوى من أبرزها محاكمته ورموز نظامه عن جريمتي الأنفال وقصف حلبجة الكردية بالأسلحة الكيمياوية؟.والسؤال المكرر هو، هل خلت الأوساط القضائية العراقية من قضاة غير الأكراد ليحاكموا صدام؟؟.
أعتقد أن وراء الأكمة ما ورائها في هذا الأختيار، ولعلي أجتهد بالقول، أن الهدف الأول من وراء هذا الإختيار هو تأكيد ضعف رزكار في إدارة المحاكمة بإبراز ضد نوعي،وعلينا أن لا ننسى بأن المنتقدين لأداء رزكار كانوا في معظمهم من دوائر السلطة الجديدة، أو هم من المتأثرين بردود فعل الشارع العراقي لقضايا انتخابية،فلو كان الخلف قاضيا عربيا لكان من الصعب إيجاد أوجه المقارنة بين أداء القاضيين على ما أعتقد.
وعلى الرغم من أن القاضي الجديد أكد في أول تصريح صحفي له نشر باللغة الكرديةquot; أنه يكمل المهمة التي بدأها القاضي رزكارquot; لكني أجزم بأن هناك بون شاسع بين أداء القاضيين، وأنهما على النقيض تماما.فالجلسات التي كان يديرها رزكار تتسم بشيء من الإثارة والتشويق خاصة لجهة تداخلات المتهمين الذين أظهروا معادنهم الأصلية في تلك المداخلات، وأثبتوا على أنفسهم الكثير من التهم التي يحاكمون بسببها من دون أن يشعروا بذلك من حيث الاستهتار بالأرواح البشرية التي أزهقوها أثناء حكمهم، وأعتقد أنه لو سمح لهم الاستمرار على هذا النهج لكان بالإمكان إيقاهم باعترافات على الكثير من الجرائم التي إقترفوها.
أما الجلسات التي يديرها القاضي الجديد فتخلو بشهادة الكثيرين ممن يتابعون تلك المحاكمة من أي نوع من الإثارة والتشويق، فالقاضي كما أشرت في مقالي السابق يحاكم كراسي فارغة وليس هنا أي عنصر يغري المشاهد للمتابعة، وكان بالإمكان جعل الجلسات مغلقة أو محجوبة عن وسائل الاعلام مادامت المحكمة لا تخرج عن إطار إستماع القاضي وهيئة الإدعاء العام الى عدد من الشهود وراء الستار،وأعتقد أن إيقاف التغطية الإعلامية لهذه المحاكمة سيكون أفضل خاصة وأنها ستستعيد حالتها الطبيعية من حيث مواجهة الشهود للمتهمين وجها لوجه، مادام ليس هناك أي عنصر لتشويق إعلامي في المحكمة.ولا يظنن أحدا بي الظنون عندما أشير مرارا الى فقدان عنصر التشويق والإثارة في المحاكمة، فأنا أعلم أن المحاكمات لا يفترض بها أن تكون مشوقة لأنها ليست عملا دراميا، ولكن ماذا أفعل والكل يريد لهذه المحاكمة أن تكون فعلا عملا دراميا يجذب لها المشاهدين.
كان القاضي رزكار يمتنع عن الإدلاء بأية تصريحات إعلامية أثناء ترؤوسه للمحاكمة إلا في حالات نادرة جدا، فالرجل متمرس في القانون والقضاء وكان ينأى بنفسه كثيرا من الوقوع في فخ وسائل الإعلام بعضها مغرضة، لأنه كان يعتبر المهمة لم تنته بعد، وأن النزاهة والحياد يقتضيان منه المحافظة على سرية ما يحدث داخل المحكمة، وبالتالي فليست هناك أية حاجة للإستغلال الإعلامي وكسب الشهرة،فيما سارع خلفه القاضي الجديد في أول لقاء صحفي له بإعلان رغبته بنشر مذكراته حول المحاكمة وهو لم يكد يترأس جلسة واحدة منها، وأعتقد أن مثل هذا التصريح لا يصدر بهذه السرعة الا ممن كان مستعجلا الشهرة والأضواء، وهذا بإعتقادي يتناقض مع مباديء القضاء ودور القاضي في المجتمع.
لا أستطيع إخفاء شعوري بأن القاضي الجديد عندما قبل هذه المهمة أنما كان مدفوعا من أجل الشهرة والأضواء الإعلامية التي تسلط عادة على القاضي في مثل هذه المحاكمات المهمة، ولا أطلق هذا الرأي جزافا،لأن القاضي ورط نفسه بنفسه بتصريحاته مما جعل من الشك يقينا.
صحيح أن من حق القاضي قانونا أن يحاول الحفاظ على هدوء المحكمة وإنسيابيتها،وأن له الحق في إسكات المتهمين الذين يحاولون الإخلال بنظام المحكمة أو يتطاولون عليها أو على الشهود أو هيئآت المحكمة،ولكن الطريقة التي سلكها القاضي الجديد في إخراج بعض المتهمين من قاعة المحكمة في الجلسة السابعة كان من الممكن أن يفسرها البعض بالتحامل أو عدم الحياد، فيما أعتبره أنا خضوعا لتأثيرات بعض المتحاملين على القاضي السابق رزكار،فأنا أشعر بأنه قد يكون تعيين هذا القاضي بدلا عن رزكار مشروطا بإبداء بعض الحزم داخل المحكمة لإحتواء غضب بعض الجهات على سير المحاكمة تحت إدارة القاضي رزكار.
والآن إذا استمر الحال على هذا المنوال أعتقد أن المحاكمة التي كانت توصف بمحاكمة القرن ستفقد بريقها وطعمها لدى الكثيرين ممن تشوقوا لمثول صدام في القفص يوما ما،ولا أدري ما ستسفر عنه الأيام القادمة من أحداث جديدة خاصة وأن هناك نية لدى هيئة المحكمة بإحضار المتهمين عنوة الى داخل القاعة عندها ستكون هناك مفاجاة كثيرة أتمنى على قيادة القوات الأمريكية أن لا تقطع إرسال الصوت والصورة الى جمهور المشاهدين عند حدوثها لنرى على الطبيعة نتيجة المقارنة بين أداء القاضيين.
وقبل أن اختم هذا المقال، أود أن أشير الى أنه من عادتي أن اتابع التعقيبات التي ترسل الى الموقع على مقالاتي، وقد تابعت التعقيبات التي وردت على الحلقة الأولى للمقال فلفت إنتباهي تعقيب أحد الأخوان الذي ذيلها بـ(ملاحظة مهمة) يدعوني فيها الى الإعتذار لإستخدامي كلمة(الرعاع)، وكأني به يستتيبني عن نطق كلمة كفر، وحاشا لله أن أكون كافرا، ولكني أود أن أزيد هذا الأخ علما، بأني قصدت من كلمة (الرعاع) اولئك الذين ما زالوا يحنون الى أيام السحل المتشربون بثقافة العنف والقسوة، وأنا على رغم كوني ضحية من ضحايا النظام البائد حيث عارضت هذا النظام الدكتاتوري منذ أن فتحت عيني على السياسة، فقد التحقت بقوات الثورة الكردية عام 1974 وأنا في السابعة عشر من عمري، وعارضت هذا النظام في صفوف المعارضة الكردية لحد سقوطه، ولي مئات الكتابات التي تعكس موقفي من هذا النظام الذي دمر بلدي وشرد أهلي،وارتكب أبشع جرائمه ضد الانسانية بحق شعبي من الأنفالات والضربات الكيمياوية، كما أنني لم أترك بلدي ولو لساعة واحدة طوال عمري على عكس البعض ممن يستأسدون علينا من بلاد المنفى،وأعتقد أن لمثل هؤلاء بعض العذر في إنتقاد كتابات البعض من أمثالي،فمن الطبيعي أن يصدر عن مثل هؤلاء تلك الطروحات لأني أعتقد أنهم يعانون من مركب النقص بسبب ما فاتهم من دور في معارضة النظام الدكتاتوري أثناء سنوات حكمه، واليوم عندما سقط النظام يريد هؤلاء أن يعوضوا عما فاتهم من شرف الإنتماء الى المقاومة أو معارضة ذلك النظام الدكتاتوري بتسويق بعض الكلمات الرنانة والطنانة وإظهار أنفسهم كمدافعين عن العراقيين المظلومين والمفجوعين بفلذات أكبادهم، فيبيعون بطولاتهم برأسنا كما يقول العراقيون في محاولة منهم لتعويض ذلك النقص، وامثال هذا الأخ الهارب من وطنه والجالس الآن في شقة أو فيللا في السويد يطلق صيحاته المستنكرة كثر، ولكن ليعلم هذا الأخ أن عهد الدكتاتورية قد انقضى مما يفترض بالعراقيين أن يغيروا ثقافة العنف والقسوة بثقافة التسامح والتآلف والقبول بالآخر، ثقافة ديمقراطية تعيد بناء ما هدمته الدكتاتورية في هذا البلد العزيز، ولعل تلك الثقافة المسخ القائمة على رفض الأخر وقمعه هي التي قادت بلدنا الى الخراب منذ أكثر ثمانية عقود عندما تمكنت فئة قليلة من السيطرة على مقادير الدولة قامعا كل المكونات العراقية الأخرى، وللأسف لا زلنا نعاني من آثار تلك السياسة الخاطئة بتحكم فئة طائفية على السلطة وقمع الآخرين، وحان الوقت لتغيير هذه المعادلة ولكن بأفكار جديدة تسمو على الحساسيات القومية والطائفية، وتبشر بغد ديمقراطي ينهي ثقافة العنف والسحل في الشوارع وتحتكم الى القضاء العادل لإنزال القصاص بالمجرمين أيا كانوا.

ساعة مع القاضي رزكار 1-2

شيرزاد شيخاني

[email protected]