لا هذا، ولا ذاك، فمنذ أن خرجتُ يومــــاً ما في طفولتي منذ أكثر من أربعين عامـــاً مع والدتي الى سوق الخضــّارة في العشار بمدينة البصرة، لكي أتمتع وأرضي فضولي الفطري بمتعة التسوق وبما أحصل عليه من قطعة حلوى أو لعبة ما.. وبعد أن نهرَ والدتي أحد أصحاب محلات بيع الأسماك، لكونها صابئية مندائية ( نجسة ) لا يحق لها أن تمسك سمكة البني المعروضة للبيع! ومنذ أن تعرضت وأنا يافعاً في صيف تموز من عام 1963 في باب إحدى دور السينما في شارع الوطني الى ركلة حاقدة في خاصرتي من قبل أحد مجرمي مليشيات الحرس القومي، لوقوفي في وجه محاولته التحرش بشقيقتي! منذ تلك الأيام وما تلاها.. وفي خضم أمثلة كثيرة ومتعددة عانينا منها ولا زلنـــا ليومنا هذا، لازالت روح المواطنة التي تربينا وعشنا عليها أيامنا وسنوات حياتنا في وطننا الأم العراق، تبعث فينـــا شئنا أم أبينا، مواصلة وتحديـــاً مخصّبـــاً بالألم والمعاناة والقهر الإجتماعي وبنفس الوقت بالتحدي والشجاعة الفطرية في أن نكون موجودين ومتواجدين في مفاصل حياة الوطن. ورغم كل هذا وذاك وما قبله مما عاناه المندائيون في تاريخهم الممتد عبر آلاف السنين وما نعرفه عنه ونعيشه في تاريخ الدولة العراقية الحديثة، فإنهم قد أوجدوا لهم وفي فسحة من فترات الهدوء السياسي والأجتماعي التي عاشها العراق موطأ قدم في حياة المجتمع العراقي عبر مساهمات الكثير من المثقفين من أدباء وفنانين وأصحاب الكفاءات العلمية المتميزة والقديرة التي شقت طريقها الى بعض المواقع الإدارية والوظيفية والعلمية ( المحسوبة والمحدودة ) لهم مسبقاً وبما تسمح به قوانين الدولة العراقية الجائرة وحتى يومنا هذا.
ولو إستثنينا المكانة العلمية والوظيفية التي حصل عليها عالم العراق الأول الدكتور الراحل عبد الجبار عبد الله و ترأسه لجامعة بغداد كأول رئيس لها بعد تأسيسها في عام 1959 و بعد إصرار الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم في أن يكون إبن العراق البار الدكتور عبد الجبار على رأس تلك الجامعة الفتية رغم إعتراض الكثيرين ممن حوله من الوزراء والمسؤولين على تنصيبه، لكونه مندائياً، فكان رده الشهيرعليهم آنذاك: ( نحن لسنا في جامع ديني، بل نحن في دولة )! أقول لو إستثنينا ذلك لوحده، فإن ما حصل عليه المندائيون وحتى يومنا هذا لم يكن سوى التمييزوالتقتيل والتكفير والتهجير القسري والإكراه على تغيير معتقداتهم الدينية وغيرها من الممارسات التي تلحق وصمة عار بأصحابها قبل كل شيء وبالدولة العراقية في نهاية الأمر!
لم يقرأ ولم يترك لنا التاريخ الطويل لحضارة العراق من أن المندائيين في بلاد الرافدين قد أصبحوا ملاك أراضي أو إقطاعيات أو أنهم مارسوا سياسة الرق والتمييز والتكفير الذي لم يعرفوه في حياتهم أوالقسوة والعبودية أو التسلط تجاه الآخرين، رغم كونهم كانوا يعدّون بعشرات الملايين في حقبات تاريخ ما قبل الإسلام، ورغم أن المندائية وثقافتها ولغتها وآدابها كانت هي السائدة والغالبة في فترات طويلة من التاريخ.. وإمتدت من فلسطين الى حيث بلاد فارس! وكان هؤلاء القوم المسالمون، وكما تذكر لنا كتب التاريخ، يمارسون وبتماس مع الطبيعة التي منحتهم الحماية في بطائح وأهوار العراق، مهن الصيد وصناعة أدواتها وصناعة القوارب والنجارة والحدادة وفي فترات لاحقة مهنة الصياغة العريقة التي إشتهروا بها ولازمتهم حتى يومنا هذا، بل وأشتهر منهم الكثير من العلماء والمفكرين الذي يذكرهم التاريخ العربي والإسلامي! ولم يكونوا ليصلوا الى موقع ما في تاريخ الدولة العراقية حديثاً إلا بشق الأنفس كما يقال و وسط صعاب ينفذ منها هذا ويسقط فيها الكثيرون! وحتى هذا الذي يثبت جدارته في موقع عمل ما أو مهنة ما، تراه محاصراً بكثير من القوانين والإجراءات التي تمنع من ترقيته أو وصولة الى سلم وظيفي أعلى منذ أن عرفت الدولة العراقية القوانين والدساتير وحتى يومنا هذا الذي نعيشه. والأمثلة كثيرة عشناها في سنوات العراق الجديدة بعد سقوط النظام السابق.
فلا غرابة أن تجد على سبيل المثال أن عراقيــــاً مندائياً قد منحه الموظفون الدوليون في منظمة الهجرة الدولية تقديراً كبيراً لكفاءته ونزاهته من خلال توظيفه مرتين مسؤولاً لمحطة إنتخابية في عمليتي الأنتخابات التي جرت في العام 2005، أقول لا غرابة في أن يبعد قسراً وسط عملية محاصصة طائفية مقيتة، من تولي مسؤولية مدير إدارة المركز الإنتخابي في إحدى المدن الأوروبية التي جرت فيها الإنتخابات الأخيرة، لا لشيء سوى لكونه مندائي!
ولا غرابة أنه حتى الدستور العراقي الأخيرالذي ضمن الحريات الدينية للأقليات الدينية في مادته الثانية، في أن لا يتطرق في بنوده الى حقوقهم المدنية والإجتماعية والسياسية، وكأن المندائيين وغيرهم من أبناء الوطن لا يعنيهم شيء ما في هذا الوطن سوى طقوسهم الدينية ومعابدهم وحسب! أما الإعتراف بمواطنتهم وحقهم المشروع في المشاركة في مؤسسات الدولة على مختلف صنوفها وعلى درجة المساواة مع الآخرين وصياغة القوانين و تشريعها، فهذا هو الخط الأحمر الذي يجب أن لا يتجاوزه المندائيون!
لا غرابة بعد أكثر من أربعة عقود أن تعود بي الذاكرة الى سوق ( الخضـــّارة ) و ذكرى والدتي وأنا أجد أبناء جلدتي يعتصر قلوبهم الخوف والمعاناة في مدنهم التعيسة والبائسة! ولا غرابة أيضاً أن أتلمس هذه الأيام خاصرتي التي لم تسلم من عنف و دموية ميليشيات الحرس القومي المسلحة وغطرستها وأنا أجد نفس الأساليب والسلوكيات تمزق من جديد لحمة الوطن المتهرئة أصلاً من جراء الأزمات والحروب الرعناء.
لا غرابة في أن تضيع الكلمات والهموم التي نحملها كابناء لهذا الوطن وسط كل هذا التدافع والتزاحم الذي لا يرحم والذي لا يقيم إعتبارا للقيم الإنسانية والدينية و للمواطنة الحقة إلا في الشعارات والوعود والمؤتمرات الصحفية!

شواهد تلك الأيام التي كوفئ فيها عالِم العراق الراحل الدكتور عبد الجبار عبد الله من قبل الشهيد عبد الكريم قاسم لا تزال حاضرة وتعيش بيننا في كل الأوقات، وهي تسترجع فينا مع الزمان المفقود والآلام المستمدة.. بعضٌ من روح الوطنية الصادقة التي يعتز بها كل العراقيين! فكم من الوطنيين النجباء كالزعيم الراحل نحتاج، لكي ينهض العراق المبتلى ويُنصف فيه المخلصون من جديد؟!
لذلك كله، لا غرابة في أننــــا سنمد أيادينـــا وكما كنا، لكل مشروع وطني حقيقي يعيد للوطن سلامته وأستقراره وعافيته وينعم فيه أبناء الوطن بكرامتهم الإنسانية دون تكفير أو تمييز أو تقتيل أو تهجير..

عبد الجبـــار السعودي

بصرة ndash; أهـــوار في آيـــــار 2006
[email protected]