كلنا يتذكر بالتأكيد دروس الإنشاء في المرحلة المتوسطة، وكيف كنا نتبارى في الإتيان بعبارات بلاغية جديدة بين سطر وآخر، ولايهم أن يكون بعضنا قد اقتبسها أو لأقل سرقها من كتاب ٍ ما. وكلنا يتذكر أيضا ً أن ّ من أصبحوا في المراحل اللاحقة من حياتهم كتـّابا ً كانوا يساعدون زملاءهم في دروس الإنشاء، في تلك المراحل المبكرة من الدراسة. أي يكتبون quot; إنشاءهم quot; بالنيابة عنهم، لكي يتحصـّل غير الموهوبين في الكتابة على درجات مناسبة تجنـّبهم الرسوب.
وبحد ّ ذاتها، ليست الكتابة الإنشائية عيبا ً. فهي أدب قبل كل شيء، وهي اقتفاء لخطوات أعلام مرموقين في هذا المجال على الصعيد العربي، مثل مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وآخرين قد لايكون استحضار أسمائهم إلى الذاكرة هيـّنا ً. ولكن ّ هذا الصنف من الكتابة لايتلاءم مع البحث العلمي وأسلوبه المتميـّز بجفافه وحتميـّاته وإيجازه. فالكتابة الإنشائية أدب جميل يحلـّق في فضاءات التخيـّل والاستعارات والافتراضات، أما الكتابة البحثية العلمية فليست لها صلة قرابة مع الخيال والتمنـّي والتوهّم الحالم الجميل.
ولعل ّ الكتابة الإنشائية إحدى سمات الأدباء وكذلك الكتـّاب الصحفيين، رغم أن هؤلاء الأخيرين يطعـّمون كتاباتهم بأرقام ووقائع أكثر مما يفعل الأدباء المعنيـّون في العادة بإشباع الحاجة التخيـّلية للقارىء أكثر من رغبته في التوصل إلى معرفة الحقيقة.
وقد تميـّز عدد من أعلام الصحافة العرب بالكتابة الإنشائية الجذابة، وأبرزهم في رأيي الصحافي اللبناني وصاحب جريدة quot; النهار quot; النائب غسان تويني، فضلا ً عن مواطنه رئيس تحرير جريدة quot; السفير quot; السابق طلال سلمان، فضلا ً عن الصحافي والسياسي والكاتب العراقي حسن العلوي. أما أسلوب الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل فمختلف. إذ أن هيكل يكتب على طريقة الصحافيين الأجانب. فلابلاغة ولاتزويق ولاهم يحزنون، وإنـّما جزميـّات وقطعيـّات متلاحقة بعضها يأخذ برقاب بعض، رغم تنوّع منشئها بين الذات والموضوع، أو الخيال والحقيقة!
وإذا سئلت عن موقع الصحافي المصري عادل حمـّودة من إعراب هذه الجمل الكثيرة، قلت إنني أقرؤه كمن يلتهم قطعة من الشوكولاته. فمنهجه في الكتابة واضح وطريقته شيـّقة. وهو لاينشىء العبارات بل يرسمها ويلوّنها.
هذه المقدمة الطويلة تقودني إلى متن وخاتمة موجزتين :
هل تصلح الكتابة الإنشائية لاستعراض وقائع التاريخ واستخلاص حقائقه؟
للقارىء الحصيف أترك الإجابة، لكن quot; إنشاءات quot; السيد حسن العلوي ndash; التي دأبت على متابعتها كقارىء ومهني ٍّ منذ سبعينات القرن المنصرم ndash; تلخـّص التنويعات العديدة على مقاماته السياسية والفكرية والمهنية، لكنها، مع ذلك، تبقى موحدة الشكل والقافية، لايؤثر فيها تقدم العمر ولاتقادم السنين.
فهو إن انهمك اليوم، كما يكرر هو نفسه في لقاءات دعائية على شاشات فضائيات عراقية وعربية، في التنظير لنوع العلاقة بين الخليفتين الراشدين الإمام علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ؛ هذه العلاقة التي أسماها quot; ثنائية المشاركة quot; لكنه يكرر في هذا النشاط الجديد، ذات الهدفية المهنية التي عرفناها لديه، منذ ذلك اليوم الذي شبـّه فيه الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر برسول الله ( ص ) في مقال افتتاحي بمجلة quot; ألف باء quot; التي كان يرئس تحريرها، أبـّن فيه محمد أحمد حسن البكر، الذي قتل إثر حادث سيارة مدبـّر من قبل صدام الذي كان نائبا ً للرئيس حينذاك.
فهدفيـّة العلوي المهنية تتطلـّع نحو الرقي ّ والتنامي وغزو الأسواق الجديدة، حسب كل مرحلة وعهد، وهي خصلة من خصال الصحفيين المثابرين والرابحين والناجحين في العالم المعاصر. فالصحفي الناجح لايجلس في بيته مثل الكثيرين الذين أعرف بضعة أشخاص منهم على الأقل، معتمدا ً على إعانات المحسنين، بينما الآفاق مفتوحة أمامه لتنمية مصادر دخله المعرفي، كما العادي ّ. وقد لاحظت أن الصحف واسعة الإنتشار في بريطانيا مثلا ً، تنمـّي مصادر دخلها عبر quot; عروض خاصة quot; تبيع فيها مختلف الأشياء، من ثقافية وغير ثقافية، من أجهزة الراديو والحاسبات الآلية الكفيـّة إلى مستحضرات التجميل وأحمر الشفاه. ولـِم لا؟ إنه عصر اقتصاد السوق وحريـّة الإقتصاد.
إنـّما ؛ هل أهضم بسهولة إمكانية إعادة رسم التاريخ حسب هوانا وتمنيـّاتنا ومصالحنا التجارية؟ كلـّنا يتمنـّى ويأمل أن يكون القادة التاريخيون على غير ماكانوا عليه، لصالح الهالة الإيجابية التي يعاد تشكيلها، لكن هل ذلك ممكن حقـّا ً؟
مثالا ً، إنني، أحب ّ بالفعل، الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. حبوت ودرجت وشببت عن الطوق مع انتصاراته وانكساراته، وأتمنـّى من كل ّ قلبي، أن لايكون القمع الذي شهده عهده، من صنع فكره ويده، فهل سيغيـّر التاريخ طبيعته ووجهه إكراما ً لنرجسية عيني َّ؟ أتمنـّى، شرط أن تفتح لي أمنياتي فتحا ً اقتصاديا مبينا!

تنويه هام

كما ذكرت قبل عام ونصف، فإن هناك شخصا ً آخر يوقـّع مقالاته باسم مشابه لاسمي حرفيـّا ً، لكن مواقفه هي على النقيض من مواقفي، وأسلوبه في الكتابة مختلف عن أسلوبي تماما ً، لجهة الرداءة والضحالة. والمذكور، إلى ذلك، لاصورة منشورة له، ولابريد ألكترونيـا ً معروفا ً، وهو يكتب، فحسب، في المواقع المؤيدة لحزب البعث العراقي المحظور. لذا أعيد التنويه بأن quot; علاء الزيدي quot; المؤيد لحزب البعث، هو قطعا ً ليس أنا. فأنا معاد ٍ للبعث والبعث معاد ٍ لي على امتداد الزمان والمكان. وأنا أحد ضحاياه منذ 5/11/1980 حينما غادرت العراق ولم أعد إليه أبدا ً. وإذا كان quot; علاء الزيدي quot; البعثي حزينا ً على رئيسه المعدوم، فيهمـّني التأكيد على أنني فرحت فرحا ً طاغيا ً ولاحدود له، بإعدام قاتل أهلي وشعبي وقاضم أجمل سني ّ عمري. ويوم القصاص منه، بحثت دون جدوى عن أي قميص مزركش أعيـّد فيه، فلم أجد إلا قميصا ً أبيض ناصعا ً ارتديته على الفور، وخرجت جذ ِلا ً يوم العيد(ي) بملبسي الجديد(ي) أتمازح مع الأطفال والفراشات والطيور والقطط وحتى الكلاب البريئة!
لكل ذلك، اقتضى التنويه، لكل ّ الذوات والشخصيات التي ينال منها المذكور بكتاباته المغرقة في ابتذالها وسطحيـّتها.


عيون الكلام : الإمام عليّ بن أبي طالب : لاخير في الصمت عن الحكمة كما أنه لاخير بالقول في الجهل.

علاء الزيدي
[email protected]