بعد هزيمة الأنظمة العربية في الخامس من حزيران العام 1967، وأجواء دمشق تعيش تلك الهزيمة المريرة القاسية على كل الصعد الرسمية والشعبية، وفي يوم حزيراني قائض كانت هناك سيارة أجرة (تاكسي) تقف في ساحة دمشق الرئيسة (المرجة ) وهي في ذلك الوقت منطلقا لسيارات الأجرة الى كافة أرجاء سوريا وخارجها، في السيارة المذكورة جلس أربعة ركاب عراقيين والسائق السوري ينتظرأي راكب خامس ليبدأ الرحلة بإتجاه الشرق حيث هدف الوصول الى بغداد في رحلة تزيد على الثمنمائة كيلو متر!، الركاب العراقيون الأربعة بدوا متعبين حيث كانوا قد قدموا من الجزائر بعد أن كان من المقرر مشاركتهم كممثلين عن العراق في مؤتمر للإشتراكية في الجزائر ألا أن ظروف حرب حزيران وما تبعها من تداعيات أجلت أعمال ذلك المؤتمرحيث قفلوا راجعين الى دمشق في طريقهم لبغداد،والعراقيون الأربعة كانوا كلا من السادة المرحوم فؤاد الركابي (وزير عراقي سابق)، جلال الطالباني (سياسي كردي،رئيس جمهورية الوضع الراهن ببغداد حاليا)،الدكتور محمود الحمصي (وزير عراقي سابق وأستاذ جامعي)، والنقابي المرحوم هاشم علي محسن،وفيما هم في إنتظار الراكب الخامس كي ينطلقوا في رحلتهم لبغداد، حضر راكبان جديدان وهما كلا من السيدين طارق عزيز وسعاد أديب،وتحركت تلك السيارة (السياسية) بركابها الستة أي بزيادة راكب عن المسموح ووصلت بغداد قبل حوالي الأربعين سنة!!

وبعد سلام الوداع، تفرق اولئك الركاب كل لشأنه وهدفه ومصيره!!
بدا السيد طارق عزيز آنذاك نحيفا وقد أتعبته أيام السجن في سوريا والتي فلت منها بعد أن كاد الوضع السوري أن ينهار بسقوط الجولان ومدينة القنيطرة أثناء الحرب مما جعل القيادة السياسيةوالحزبية السورية والتي كان على قمتها الدكتور نورالدين الأتاسي واللواء صلاح جديد واللواء الطيار حافظ الأسد،بأن تصدر قرارها الشهير بإطلاق سراح المسجونين والموقوفين،وكان أن أستفاد من ذلك القرار كلا من طارق عزيز وسعاد أديب اللذين كانا قد أعتقلا بدمشق على إثر نجاح الحركة العسكرية الحزبية في 23/شباط/1966،والتي أبعدت أمين الحافظ عن رئاسة الجمهورية وأسقطت القيادة القومية لحزب البعث الحاكم بقيادة ميشيل عفلق منذ الثامن من آذار 1963،وأقامت وضعا سياسيا وحزبيا جديدا!

ونقل المعتقلان مع آخرين من البعثيين بعد فترة من سجن (المزة) بدمشق الى سجن (تدمر) الصحراوي لينضموا الى سجناء سوريين وعرب من مختلف الفئات والإنتماءآت السياسية، حيث قضوا تلك الفترة والتي قاربت على ما يزيد عن السنة، الى أن أطلق سراحهما وها هما في طريق عودتهما لبغداد حيث كانا قد غادراها كل على حده ما بعد سقوط حكم البعث الأول1963،ويعودان للعراق وقد تغيرت الحال كثيرا بعد مقتل الرئيس عبدالسلام عارف بحادث الطائرة في نيسان/1966،ومجيء شقيقه الفريق عبدالرحمن عارف رئيسا لجمهورية العراق.


وعلى الرغم من نحافة طارق عزيز آنذاك وتعبه الظاهر، ألا أنه كان شابا نشطا،حال رجوعه لبغداد أستأنف حياته العادية فيها ليعود لمهنته كمدرس أختصاص لغة إنكليزية بعيدا عن التنظيم الحزبي وكل أجنحته الإنشقاقية آنذاك!،ومع رجوع (البعث) للسلطة ثانية العام 1968 رجع (أبو زياد) للحزب،وسار بمعية الشاب الماسك بقمة الحزب آنذاك، ومن ثم الدولة،الرئيس الراحل صدام حسين ورافقه الى حين سقوط دولة العراق وإحتلال بغداد في 9/4/2003 من قبل الأمريكان، حيث رجع ( أبو زياد) بعدها من جديد الى السجن وهذه المرة في وطنه العراق وتحت حراسة المحتلين الأمريكان!!


لقد ظهر السيد طارق عزيز يوم الأثنين 5/3/2007 على التلفاز حيث جلبه سجانوه الأمريكان للمحكمة (العراقية) الخاصة التي أنعقدت في المنطقة الخضراء بجلستها الثامنة والأربعين لمحاكمة المتهمين المتبقين بما يعرف بقضية (الأنفال) وكذلك مسألة إستعمال السلاح الكيماوي المحرم دوليا في حلبجة ومناطق أخرى ضد المواطنين العراقيين الكرد،وبدا طارق عزيز وقد هزل بدنيا وهرم خلال سنوات الإعتقال الأربعة الماضية ألا أنه كان متوقد الذهن ونشطا في التعبير عن إرادته القوية فيما يعتقد ويؤمن فيه!!

وقد كان طارق عزيز أيام الحكم السابق يبدو دائما أمام الإعلام الخارجي متماسكا ومدافعا عن نظامه وكان واسع الذكاء في الدفاع عن النظام مستعينا بسعة إطلاعه وتنوع مصادره من جهة وتمكنه من اللغة الإنكليزية في مخاطبة الرأي العام الغربي من الجهة الأخرى، وكنا نشاهده في مناظرات تلفزيونية مع مسؤولين أمريكان على شاشة السي أن أن الأمريكية ومقدم الابرامج الشهير (لاري كنج) وحينها كنا في (المعارضة العراقية الخارجية السابقة) نقارن بين ما كان يعلن عنه نظام بغداد عن ضحايا الحصار الدولي من أطفال ونساء وشيوخ وبين وضعية طارق عزيز بأناقته وسيكاره الكوبي الشهير،ووجهه الملآن صحة وعافية وكنا ندلل بذلك بأن الحصار الدولي لم يكن ليطال الفئة الحاكمة ومنها السيد عزيز، وإنما الطبقات الشعبية العراقية التي غدت وقودا لحروب النظام المستمرة وتفتك بها أنياب الحصار الدولي الشرسة!!.
أثناء المحاكمة الحالية وتفاصيل شهادته في موضوع (الأنفال)، حاول (شيخ الدبلوماسية العراقية) أن يوضح بعض المسائل الدقيقة في العلاقات العراقية مع الدول الأخرى وكذلك العلاقات السياسية الوطنية في فترة النظام السابق والمتتبع يدرك بأن طارق عزيز لم يكن في إجاباته يتوجه لهؤلاء القضاة، وإنما لبقية العراقيين وللأجيال القادمة، ألا أن جهالة ونزق الشاب القاضي محمد العريبي الخليفة و(نرجسيته المفتعلة!) قادت الى أن يقطع السيد طارق عزيز إسترساله المهم وليرد على إتهامات القاضي له قائلا بالحرف الواحد(يشرفني أني عملت مع النظام السابق ومع البطل صدام حسين الذي حافظ على وحدة العراق وسيادته..)، ولو أن القاضي المذكور تمعن فيما ذكره السيد طارق عزيز عن وحدة العراق وسيادته الضائعتان الآن لما رد عليه بعبارات غير مؤدبة وغير لائقة ولا تناسب عمرالسيد عزيز ووضعه السابق في مسؤولية الدولة العراقية،لكن ذلك على ما يبدو جائز جدا في عراق الإحتلال والعمالة والديمقراطيةالمزيفة!!


الشيء اللافت للنظر في تلك الجلسة هو ما ذكره المدعي العام منقذ آل فرعون متهما السيد طارق عزيز بقوله (بأنه-يقصد طارق- يريد الدفاع عن النظام السابق وليس عن المتهمين..)
وتبعه أحد محامي الإثبات من المشتكين قائلا (بأن طارق عزيز متهم بالأنفال من خلال مناصبه العليا في النظام السابق مطالبا المحكمة بتوجيه الإتهام له وضمه الى بقية المتهمين في قفص المحاكمة!!).


وكأنه لا يكفي العراق ما هو غارق فيه من دم وإجرام وبطش على يد الإحتلال الأجنبي والعصابات الطائفية والعنصرية،التي حولت العراق الى مضمار سباق للنهب والرشوة والفساد فيما بينها،وإنما يراد للعراق أن يكرر نفس المهازل التي جرت في محكمة العقيد المهداوي سيئة الصيت العام 1959 حينما كانت تحاكم الضباط المتهمين في ثورة العقيدالركن المرحوم عبد الوهاب الشواف (آذار 1959) ووقتها جيء بالمقدم عزيز أحمد شهاب لقاعة المحكمة ليدلي بشهادته حول تدخل الجمهورية العربية المتحدة(الإقليم السوري) ومساعدتها للحركة العسكرية في الموصل،وحينما نفى الشاهد شهادته تلك واصفا إياها بأنها قد أنتزعت منه تحت التعذيب،وقف المدعي العام العقيد الركن ماجد محمد أمين مهاجما الشاهد ومطالبا تحويله الى متهم وبالفعل وافق المهداوي على ذلك الطلب ودخل المقدم عزيز أحمد شهاب القفص وليصدر عليه مع بقية رفاقه الضباط حكم الإعدام، حيث نفذ فيهم في موقع أم الطبول غربي بغداد وأقيم عليه جامع فيما بعد، وكان في مقدمة الضباط المعدومين العميد الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري وأحد عشر ضابطا آخرين وذلك يوم 20/أيلول/1959 وكانت تلك الوجبة الثالثة والأخيرة للضباط العراقيين الذين أتهموا بالإشتراك في حركة الشواف..فهل يراد لتلك المأساة التكرار علىشكل مهزلة فيما يراد تحويل السيد طارق عزيز من شاهد الى متهم؟!.


إن ما هو جدير بالملاحظة بأن كل المتهمين من مسؤولي العهد السابق الذين مثلوا أمام هذه المحكمة كانوا ولحد الآن متماسكين سواء في إمتناعهم في التنكر للنظام السابق الذي كانوا جزءا منه أو إبداء ندمهم على أي شيء أو قرار أتخذه رأس النظام السابق الرئيس الراحل صدام حسين،ولربما يدخل ذلك في تفسير يقود الى أن أي واحد منهم لا يريد أن يعطي الإنطباع بأنه كان مسايرا للنظام خشية من البطش وأنه الآن إذا ما أنقلب وأعلن عن تبدل خطابه وكلامه فسوف يتهم بالجبن الأكيد هذا من جهة، ومن الطرف الآخر وهو التفسير الأقوى، حيث ليست هناك قناعة ذاتية بأن هؤلاء الذين حلوا محل النظام السابق هم من الوطنيين العراقيين وقد نجحوا في إقامة هذه السلطة ببغداد بعد أن أزالوا النظام السابق بنضالهم وجهودهم وتضحياتهم!!، فهم بالملموس ليسوا أكثر من سلطة عميلة متنكرة وحاقدة على كل قيمة وطنية عراقية أو قومية أم دينية حقة، أقامها الإحتلال ويسيرها يوميا وفقا لأوامره وتوجهاته ومصالحه..

اسماعيل القادري
لندن في 7/3/2007

[email protected]