جاء طلب السيد إسماعيل هنية منحه مهلة أسبوعين آخرين من أجل استكمال تشكيل الحكومة الجديدة بعد أن استنفذ المدة القانونية الأولى التي استمرت ثلاثة أسابيع لتبرز مدى الإشكاليات القائمة في المحادثات بين القطبين الرئيسين في النظام السياسي الفلسطيني. حيث كان من المتوقع أن يتم تشكيل الحكومة بوتيرة أسرع لاسيما وأن ذلك يتم بعد توقيع اتفاق مكة التي وضع أسس الشراكة السياسية في المرحلة المقبلة، وتضمن فوق ذلك بعض التفاصيل المتعلقة بعدد الحقائب الوزارية لكل طرف. ولذلك فإن ما تم من تحركات سياسية في الأسابيع الثلاثة الماضية يبرز بشكل كبير ما يلي:

- إن هناك أزمة ثقة لا زالت قائمة بين الطرفين، وأن هذه الأزمة قد برزت بشكل جلي حول المرشح لوزارة الداخلية. فمن الواضح أن التجربة القاتمة لحركة حماس في علاقتها مع السلطة في سنوات التسعينيات من القرن الماضي لا زالت ماثلة في الأذهان، وأن حركة حماس لا زالت تخشى تغول السلطة عليها بالرغم من أنها أصبحت شريك رئيس وفعلي في معادلة النظام السياسي الرسمي. كما أنها تخشى من جهة على قوتها التنفيذية التي شكلت بالأساس ليس لحفظ الأمن والنظام في المجتمع الفلسطيني بل كمليشيا لحماية الحكومة القائمة التي تواجهها التحديات الداخلية والتي لا تقل عن التحديات الخارجية. ومن هنا جاء تصرح وزير الداخلية السيد سعيد صيام بتاريخ 11/3 خلال حفل افتتاح معهد العلوم التقنية التابع للوزارة بأن quot;القوة التنفيذية التابعة له ستبقى على وضعها الحالي في ظل حكومة الوحدة الوطنية مثل باقي الأجهزة الأمنية إلى حين إعادة صياغة الأجهزة الأمنية على أسس مهنية بعيدة عن الحزبية والفئويةquot;. حيث يشير ذلك إلى إصرار حركة حماس على بقاء القوة لأجل غير مسمى. ومن هنا نجد أن الخلاف على وزارة الداخلية لا زال قائماً حتى الآن. وأن حقيبة وزارة الداخلية قد أخذت نصيب الأسد في المباحثات الثنائية لتشكيل الحكومة. حيث ننام على أسم مرشح للداخلية لنصحوا على أسماء آخرين. وأن هناك حالة من المد والجزر بين الطرفين بخصوص هذا الموضوع. حيث أن هناك إصرار من قبل الطرفين على وزير داخلية يحظى بالرضا المطلق للطرفين وهو من المكان بصعوبة.

- لقد أبرزت مشاورات تشكيل الحكومة مدى قوة نزعة الاستوزار لدى أفراد التنظيمين الكبيرين وكذلك المستقلين. حيث أن هناك رغبة جامحة لدى الكثيرين في الحصول على منصب الوزارة. فما أن يرشح أو يتداول أسم شخص في وزارة معينة حتى تصدح حنجرته بتصريحات إعلامية بأنه الوزير المرتقب، وأنه الفارس الهمام لخوض غمار الساحة السياسية. وأنه فتحاوي أصيل أو تربطه بحركة فتح علاقات وطيدة إن كان من المستقلين. وهذا يبرز أنه في الوقت الذي يتراجع فيه خطاب المقاومة والنضال يزداد فيه خطاب الاستوزار. فالكثير أصبحوا يتمنون الوزارة في صحوهم ومناهم ولا يتمنون العمل الوطني المقاوم. وهذا يبرز صدق المثل الشعبي القائل quot;نحن مثل كيس البصل وين ما مديت يدك تتناول رأس (أي وزير مرشح). وبالطبع هذا يبرز مدى الانحطاط الذي أصاب النخبة السياسية والعسكرية، وتراجع مرجعيتها وأولويتها. فبالرغم أن منصب الوزارة في سلطتنا الموقرة لا يزيد في قيمته وواقعه الفعلي عن رئيس قسم أو دائرة في بلدية من بلديات الدول الكبرى فأن هناك إصرار كبير على تولي ذلك. وبالرغم من أن صلاحيات الوزير في سلطتنا الموقرة مقيدة بل مستنفذة بسبب ظروف الاحتلال فإن هناك إصرار على الاستوزار حتى ينال كل وزير زغرودة زوجته في ذهابه وإيابه. فمن المعروف أن وزير المالية سيعمل وفق واقع السلطة متسولاً، يطرق الأبواب منذ بداية كل شهر. فهذا يصده صارخاً وذلك يتهرب منه بطريقة دبلوماسية، وذاك ينتظر مباركة السيد الأمريكي على منحه الصدقة وهكذا دوليك. فهو في حيرة من أمره كيف يصرح كل يوم، كيف يكذب على هذا وكيف يمنى ذاك بقرب أجل صرف الراتب. فالوزير هنا ليس أكثر من محاسب يتسول وينافق ويكذب حتى يمشى شهره بانتظار الشهر التالي. أما وزير الخارجية فهو يعاني من تداخل الصلاحيات مع الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وخير مثال على ذلك تصريح وزير الخارجية بأنه لم يشارك في الاجتماع الدوري الأخير لوزراء الخارجية العرب خوفاً من الدخول في إشكالية حول التمثيل في الاجتماع مع فاروق القدومي. أما وزير الداخلية فمن الواضح أنه الأكثر من بين الوزراء المرشح للخروج quot;بسواد الوجهquot;. فوسط مجتمع يسوده الانفلات الأمني والتغول العشائري والفصائلي على القانون، وغياب قرار سياسي واضح في ضوء تعدد المرجعيات، وسيطرته على أجهزة أمنية فصائلية دون أخرى يجعل من منصبه حقل من الأشواك إن لم يكن حقلاً من الألغام. وهكذا دوليك في كل وزارة مع تفاوت طبعاً في درجة المشاكل والمعوقات. وهكذا نجد أن الانفلات الاستوزاري قد غزا سوقنا الفلسطيني السياسي، وأصبح شأنه في ذلك شأن الانفلات الأمني والاقتصادي والصحي والثقافي والرياضي... الخ.

- إن المباحثات أبرزت بشكل كبير سيادة روح المحاصصة في عقلية الفصيلين الكبيرين. فوزارات السلطة الفلسطينية والوظائف الكبيرة ستخضع للتقاسم بين الطرفين، وسيشمل ذلك الرتب العسكرية الكبيرة، والمحافظين والسفراء... الخ. وهذا يبرز إن الشراكة في النظام السياسي الفلسطيني لا تقوم على أسس وطنية بل على أسس فصائلية. فالوطن يقسم بين الطرفين ولا مكان فيه للغير إلا ما يلقى لهم من فتات. وهذا يعد إشكالية كبيرة في بناء النظام السياسي الفلسطيني. حيث يجب أن تخضع الوظائف العامة لاسيما الكبيرة منها لمبدأ تكافؤ الفرص، و التوظيف على أساس الكفاءة العلمية والمهنية وليس البعد الفصائلي. حيث أن طبيعة المباحثات التي جرت من أجل تشكيل الوزارة قد أبرزت رغبة جلية في تمترس كل فصيل في الوزارات الممنوحة له. وأن سياسية التهميش والإقصاء التي مارستها حركة فتح في الفترة السابقة للانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي مُورست من قبل حكومة حركة حماس في السنة السابقة سوف تستمر في حكومة الوحدة الوطنية. وأن عقلية الشراكة التي يتم الحديث عنها الآن ليس إلا واجهة جميلة فقط لنظام محاصصة وتقاسم للسطوة والنفوذ.

إن ما جرى ويجرى على الساحة السياسية الفلسطينية، والتأخر في تشكيل الحكومة منقوصة الصلاحيات والسيادة... الخ، والتي ستقام على بقعة جغرافية لا تتعدى مساحة مدينة من المدن الكبرى يشير إلى أزمة في العقلية السياسية الفلسطينية، وإلى أزمة في النظام السياسي الفلسطيني الذي أصبح برأسين، وبرنامجين، ومرجعيتين بينهما أزمة ثقة حادة حتى وإن بدا ظاهراً أن نظام شراكة ينبثق من وسط الركام. وكل ذلك يعزز تراجع التفاؤل الذي انتاب شعبنا بعد توقيع اتفاق مكة، وأن المعوقات القادمة كبيرة لاسيما مع ضحالة ثقافة الحوار، وضعف بنيان عقلية الشراكة السليمة. وكلنا بانتظار وزارة الصين العظيمة كإحدى عجائب الدنيا السبع.

د. خالد محمد صافي