اعتدنا ومع اقتراب الذكرى السنوية للنكبة أن نتابع العديد من الفعاليات التي تقام تعبيراً عن تمسك الشعب الفلسطيني بثوابته الوطنية وعلى رأسها تمسكه بحق العودة. وهي في الوقت نفسه محاولة لإحياء الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني حول ما تعرض له خلال النكبة من قتل واقتلاع من أرضه وتشريده هنا وهناك. وهي في الوقت نفسه انعكاساً لمدى الشعور بالغضب والحزن والألم على الأداء العربي الهزيل على المستوى السياسي والعسكري قبل وخلال وبعد النكبة، وما تضمن هذا الأداء من تواطؤ وصل إلى حد التأمر على مستقبل فلسطين من قبل بعض الأطراف العربية. وبالرغم من أهمية هذه الفعاليات في إحياء الذاكرة الجماعية، ونقل هذه الذاكرة إلى الأجيال الجديدة التي ينبغي مواصلة النضال من أجل نيل الشعب الفلسطيني حقوقه العادلة والمشروعة فإنها قد تحولت إلى ظاهرة بكائية احتفالية، وأصبحت تؤدى بشكل روتيني كأنها أمر واجب أو تحصيل حاصل. وقد تزداد وتيرتها أو تنقص حسب الأجواء السياسية. وتتحول أحياناً إلى مزايدات من قبل فصائل على أخرى، أو إثبات حضور مؤسسات في غياب مؤسسات أخرى. واستخدماً للبعض لتجنيد الأتباع الجدد أو إعادة حشد الأتباع السابقين في ظل تردي الأداء السياسي للفصيل. وأصبحت مجالاً لإبراز فن الخطابة والبحث عن الزعامة الشخصية والفصائلية والمؤسساتية.

إن تأدية هذه الفعاليات على نحو روتيني دون أن يصاحب ذلك عملية تقيمية للأداء السابق على الصعد كافة لن يشكل سوى ذر للرماد في العيون، وإطالة عملية البكاء على الأطلال. فلا يكفي هنا التذكر والتذكير بالنكبة الفلسطينية وما ترتب عليها من نتائج كارثية بل يجب أن يرافق ذلك بمحاولة النهوض في الواقع. فمن الواضح أننا سمعنا الكثير من التصريحات من القادة السياسيين خلال الأيام القليلة الماضية عن التمسك بحق العودة، وحول برامج الفعاليات لإحياء ذكرى النكبة. والتساؤل المطروح هنا هل يكفي التمسك بحق العودة أم العمل على تجسيده واقعاً. القول بالتمسك بحق العودة هو نوعاً من المقاومة السلبية بمعنى أنني متمسك بحقي في مقابل المحاولات التي تسعى للنيل منه، ولكن المقاومة الإيجابية تعني انتزاع حقي حيث أن التاريخ يعلمنا أن الحقوق لا يمكن أن تمنح مجاناً بل تنتزع انتزاعاً. وهنا لابد من القول وحسب نظرية المؤرخ البريطاني توينبي في فلسفة التاريخ أن حق العودة يواجه تحدياً خطيراً هو المشروع الصهيوني الذي لا يشكل فقط استعماراً بالمعني التقليدي أي استعماراً عسكرياً بل يشكل استعماراً استيطانياً يهدف إلى اقتلاع شعب وإحلاله بعناصر استيطانية يتم تجميعها من العالم تحت مسمى شعب يهودي ومؤدلجة بخطاب عنصري يستند على أساطير دينية مزيفة لإقامة هذا الكيان. وحسب نظرية توينبي فإن الاستجابة لهذا التحدي هي التي سوف تحدد مستقبل فلسطين. وحتى الآن ثبت أن الاستجابة الفلسطينية والعربية والإسلامية لهذا التحدي لم تكن على المستوى المطلوب. فالتحدي الكبير يتطلب استجابة كبيرة وهذا أيضاً يسير وفقاً للقانون الفيزيائي بأن كل فعل له رد فعل مساوي له في القوة ومضاد له في الاتجاه. وأن التحدي الصهيوني لم يواجه بقوة ولذلك فإن المشروع الصهيوني قد تم تجسيده واقعاً في مقابل تعثر المشروع الوطني الفلسطيني. ولم تكن ردة الفعل الفلسطينية مساوية للفعل الصهيوني ولذلك استمر الفعل الصهيوني قوياً مدوياً في مقابل ضعف وتراجع وهزالة ردة الفعل الفلسطينية. وهنا لا بد من أن نستذكر أن تيودور هرتزل _مؤسس الحركة الصهيونية_ قد قال عقب عقد المؤتمر الصهيوني في بال (أو بازل) في سويسرا سنة 1897م: quot;لو طلب إلى تلخيص أعمال مؤتمر بال فإني أقول_بل أنادي على رؤوس الأشهاد_ أنني أسست الدولة اليهودية. وقد يثير هذا القول عاصفة من الضحك هنا وهناك، ولكن العالم قد يشهد بعد خمس أعوام، أو بعد خمسين عاماً قيام الدولة اليهودية حسبما تمليه إرادة اليهود بأن تنشأ لهم دولةquot;. هكذا يصبح المشروع دولة، والخيال حقيقة. فالمشروع الصهيوني الذي اعتبر خيالاً في مرحلة أصبح واقعاً قائماً ومجسداً في مرحلة أخرى وفي المقابل فإن فلسطين التي كانت تشكل واقعاً مجسداً في فترة أصبحت حلماً في فترة أخرى. وهذا يبرز بشكل جلي أن الاستجابة وردة الفعل لم تكن على مستوى التحدي والفعل ولذلك نجح المشروع الصهيوني في مقابل فشل المشروع الوطني الفلسطيني. وحتى لا يشكل هذا الحديث جلداً للذات في بعض أبعاده فلابد من القول أن الشعب الفلسطيني قد قاوم المشرع الصهيوني منذ نشأته وإن لم تكن هذه المقاومة بحجم التحدي، حيث قام بالمظاهرات والثورات والانتفاضات التي أوقعت الخسائر في الطرف المقابل على الصعد كافة ولكن لابد من التأكيد هنا أن المشروع الصهيوني هو رأس الحربة لمشروع استعماري كبير تقف وراءه أوروبا لاسيما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ويهود العالم وبالتالي فإن هزيمة هذا المشروع يتطلب مشروعاً مقابل يقف على رأسه الشعب الفلسطيني. أي بمعنى أخر إن المقاومة الفلسطينية قد وجهت ضربات لإسرائيل تتفاوت في قوتها وتأثيرها، وأن هذه المقاومة سواء المسلحة أو الجماهيرية تشكل إعاقة أو إضعاف للمشروع الصهيوني ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تهزم هذا المشروع لوحدها حيث يتطلب ذلك سنداً عربياً وإسلامياً ودولياً من قبل الدول المناهضة للاستعمار. فكما إسرائيل تشكل رأس حربة لمشروع استعماري دولي فلا بد أن يشكل الشعب الفلسطيني رأس حربة لمناهضة هذا المشروع. وربما أن فشل المشروع الوطني الفلسطيني لا يعود فقط إلى عوامل ذاتية تتعلق بالشعب الفلسطيني بل بضعف دوائر المساندة له وهي الدائرة العربية والإسلامية والدولية. ومن هنا نجح تحالف المشروع الاستعماري مقابل فشل المشروع المناهض له.

وهنا نؤكد أن أهم شيء في مواجهة المشروع الصهيوني هو الحفاظ على رأس الحربة قوياً موحداً وأقصد هنا الشعب الفلسطيني لأن قوة الشعب ووحدته هي الكفيل بعدم تحقيق المشروع الصهيوني كامل نجاحه في الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها. وهنا بيت القصيد على اعتبار أن ما يجري من فعاليات في ذكرى يوم النكبة هي فعاليات بكائية خطابية لا تقابل بما يجب أن يفعل حقيقية. فذكرى النكبة ليس فقط فعاليات خطابية مركزية هنا أو فرعية، وليس عرض صور هنا أو هناك، وليس تراث وطني غنائي هنا أو هناك بل تتطلب من الجميع العمل على مراجعة ذاتية للمرحلة بل المراحل السابقة والتعلم من الأخطاء. وأن يكون الإدراك والوعي قائماً على أساس فهم كيف ضاعت فلسطين وكيف السبيل لاستردادها. ومما يثير استغرابي هنا هي قيام الفصائل الوطنية والإسلامية بتنظيم فعاليات لذكرى النكبة في الوقت التي لم تع هي جيداً واقع النكبة ولم تستفد من أخطاء الماضي. فهي تنظم الاحتفالات وتطلق الشعارات الرنانية والخطب الجوفاء حول حق العودة في الوقت التي تمارس على أرض الواقع أبشع الممارسات التي تجعل من حق العودة حلماً بل بعيد المنال. فكيف يتحدث أحد القيادات في العديد من الندوات التي تنظم له هنا وهناك عن حق العودة في الوقت الذي تصدر عنه تحريضات وممارسات تساهم في إشعال الصراع الداخلي بين الفينة والأخرى. فالمراقب للوضع الداخلي الفلسطيني يجد أن شعار الوحدة الوطنية لم يجد طريقه للتطبيق، وأن شعار الشراكة ليس سوى شعاراً يخفي بين جوانبه نظام محاصصة هنا وهناك لاسيما بعد أن برز هذا النظام جلياً في وزارة الصحة. وأن ما تشهده الأراضي الفلسطينية لاسيما قطاع غزة من صراع داخلي فصائلي بين الفصيلين الكبيرين لا يمكن أن يسهم بأي حال من الأحوال في تحقيق وتجسيد حق العودة أو حتى التمسك به. حيث أن الصراع الداخلي يشكل انحرافاً للمشروع الوطني عن أهدافه وثوابته الوطنية التي يقف على رأسها حق العودة. فالفلسطيني الذي يعاني من واقع معيشي صعب وفقدان للأمن الشخصي لا يمكن أن يفكر في حق العودة. فلا يمكن الحديث عن حق العودة في الوقت الذي ينتزع من المواطن الفلسطيني الحق في الحياة وعلى يد من؟ على يد أبناء الوطن ومن يدعون بكرة وأصيلاً أنهم مقاومي ومجاهدي هذا الشعب. ولذلك فإن السعي من أجل تحقيق وتجسيد حق العودة لا يمكن أن يأتي إلا بهزيمة المشروع الصهيوني. وأن هزيمة المشروع الصهيوني لا يمكن أن تتحقق إلا بتمتين رأس الحربة المقاومة لهذا المشروع ألا وهي الشعب الفلسطيني الذي تكمن قوته في وحدته وفي قوة إرادته. فمن المتعارف عليه أن الشعوب المستعمرة لم تهزم القوى الاستعمارية بقوة السلاح بل بوحدتها وقوة إرادتها سواء ما حدث في الجزائر أو فيتنام أو أي مكان أخر. وأن ضياع فلسطين كان أحد أسبابه الرئيسة هو التنافس والصراع العائلي بين الزعامات العائلية التقليدية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وأن فعاليات إحياء النكبة يجب أن تنصب على وقف الاقتتال الداخلي، وأن تخرج المسيرات والمظاهرات للمطالبة بوقف الاقتتال ورفع الغطاء عن مرتكبيه وتجريهم وتقديمهم للقضاء، لأن الاقتتال الداخلي يطيل من أمد نتائج النكبة ويطيل من أمد الفشل في تجسيد حق العودة.

ومن هنا على فصائلنا الوطنية والإسلامية ألا تتحفنا فقط بمهرجانات وفعاليات النكبة وما يرافقها من شعارات وخطب رنانة بل عليها النهوض بالواقع الفلسطيني المؤلم والمأزوم على الصعد كافة. فحق العودة لا يمكن في النهاية أن يتحقق من جراء هذه الشعارات والخطب بل من خلال معالجة أمراض الواقع، وتشخيص الداء والسعي الحثيث للبحث عن الدواء، ولا يكون ذلك سوى بمراجعة شاملة للذات الفردية والفصائلية والمجتمعية لتحديد جوانب القصور، ومواطن الخطأ لمعالجتها، وتحمل المسؤولية عما وقع من أخطاء. فحق العودة ليس بحاجة فقط إلى تصليب الخطاب السياسي بل إلى عوامل قوة ذاتية وموضوعية تدعم هذا الخطاب وتجعل منه خطاباً قابل للتحقيق والتجسيد وليس مجرد ظاهرة صوتية بكائية ليس إلا.

د. خالد محمد صافي