بعد تشكيل الحكومة الموحدة في اقليم كوردستان بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، ومشاركة أغلب الأحزاب الكوردية فيها بطريقة المحاصصة الحزبية والطائفية التي جرت لتشكيل الحكومة الفيدرالية في بغداد، برزت حالة من الركود التام بفعل التعطيل المتعمد لدور الهيئات الرئاسية الممثلة برئاسة الإقليم والحكومة والبرلمان المشلول الغير معبر عن الثقة التي منحها الشعب الكردستاني فصار مرتعا لحصول الأمتيازات والأموال والأراضي المنهوبة من الوطن، مع عدم ظهور أي اتجاه للإصلاح في عقلية وتفكير قيادات الحزبين الحاكمين ورئاستي السلطة التنفيذية التي تمثلها رئاسة وحكومة الإقليم ورئاسة مجلس البرلمان.


وتميز الركود المصطنع من قبل قيادتي الحزبين بعدم وجود أية فعالية للتماس بالشعب ومحاورته ومخاطبته، كالتي تمت إجرائها قبل الانتخابات من قبل الرئيسين بارزاني وطالباني، للتفاعل معه والعمل على إيجاد الحلول والأجوبة المطروحة في الشارع بخصوص الأزمات المعيشية الخانقة التي تتعرض لها أغلب شرائح المجتمع خاصة الفقيرة منها بخصوص أزمات السكن وفرص العمل والغلاء الفاحش والوقود والبطالة وغياب الخدمات البلدية، وتزامنا مع هذه الحالة تلاشت أي أمل لإجراء إصلاح على الصعيدين الحزبي والحكومي، ولم تبدر أية محاولات جادة للتغيير والتجديد، ولا برامج مرحلية آنية فعالة لخدمة الشعب، ولم تقام أية خطوات جدية لمعالجة المشاكل والأزمات التي يعاني منها أبناء كوردستان في الظرف الراهن، مع إصرار متعمد من قبل القيادات على غياب حضور برامج العمل التي أعلن عنها كل من رئيس الإقليم ورئيس الحكومة يوم تنصيبهما في البرلمان.
ومما لا شك فيه، لو استمر الحال هذا على هذا المنوال فإن الشعب سيكون في حال يرثى له في المستقبل القريب وفي الآتيات من الأيام، لأن الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي بدأت تترسخ من سنين طويلة بين أقلية متسلطة مستغلة متجبرة متحكمة بجميع مداخل السلطة وأغلبية ساحقة فقيرة من الكردستانيين بدأت سيوف الغلاء والإيجارات والارتفاع الفاحش في العقارات والأزمات الخانقة للحياة تقطع من رقابهم دون هوادة، وكأن البلد الذي نحيا لا سلطان فيه لعدل وقانون ومساواة، فكل ما فيه مسخر للأقلية الحاكمة التي تحولت الى شيطان مارق لا إحساس ولا وجود لأية مساحة إنسانية في كيانه وقلبه الفاسد.


أمام هذه الصورة القاتمة للحياة المعيشية للمواطن الكردستاني التي بدأت تتسم بالغلاء الفاحش حتى بات الكثير من العوائل لا تقدر على الإيفاء بتوفير المقومات الأولية للحياة، نجد أن هذا الركود السلطوي للحزبين الرئيسين والأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة، والغياب المتعمد لبوادر الإصلاح، فان الجهود الحكومية والحزبية منصبة على إبقاء الحال على وضعه وعدم تغييره، واستمرار الاحتكار في السوق وانتشار الفساد واتساع الغلاء حتى وصل الأمر الى طرح شقق سكنية بأسعار خيالية يعتقد أنها تفوق أضعافا مضاعفة الأسعار السائدة في الخليج وفي المدن الكبرى، وكأن كل فرد من كردستان يتربع على منجم من ذهب كمكرمة مباركة من الرئيسين الطالباني والبارزاني.


والمشكلة الحقيقية في هذا الواقع المفروض على الإقليم من قبل الحزبين، تكمن في عدم وجود أي حضور جدي لأية معارضة وطنية كوردستانية، والأصوات التي تبرز هنا وهناك خاصة لكتاب سياسيين وصحفيين جريئين لا تحصى بعدد أصابع اليدين، ما هي الا قطرة من بحر لا تقدر على خلق رأي عام قادر على مواجهة السلطة بأساليب سلمية مدنية، لهذا بقيت الساحة خالية من أي أثر يذكر لمعارضة حقيقية في المشهد السياسي الكوردي بالرغم من وجود أحزاب وكيانات سياسية غير الحزبين الحاكمين ولكن هذه الأحزاب الصغيرة تملك مجموعات صغيرة غير مؤثرة وفاقدة لمصداقيتها أمام الشعب وهي تعيش برفاهية في ظل مكرمات الحزبين ورئيسيهما طالباني وبارزاني بحجة التوافق الوطني والإجماع الكوردستاني، بينما السبب الحقيقي هي لتفريغ الساحة من أي وجود أو حضور لمعارضة وطنية مدنية قادرة على حمل هموم وأزمات ومشاكل الشعب لتحقيق العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات والإمتيازات والمكاسب والحاجات والخدمات.


أمام هذا الواقع المؤسف أصبحت الضرورة ملحة لتشكيل نخبة مثقفة معارضة وطنية كردستانية تسير وفق نهج عملي سلمي بناء لمجابهة أهل السلطة من المراقين المتسلطين ومجابهة حالة الفساد والاحتكار والغلاء وحالة القطبية الواحدة التي فرضت نفسها على الساحة السياسية في الإقليم نتيجة اتفاق قيادتي الحزبين على تقسيم السلطة بينهما وفق مصالحهما الذاتية المتسمة بأنانية مفرطة لا مثيل لها على مستوى المنطقة لمدة أربع سنوات مما تنتج عنها تغيب متعمد لدور الشعب نتيجة تحالف وتوافق الحزبين على ترتيب السلطة بينهما.


وكما قلنا في مقالات سابقة quot;لابد من البيان أن المعارضة الوطنية التي نقصد بها ليست معارضة مسلحة أو ثورية كالتي جلب البعض منها الدمار والكوارث على شعوبها وأممها، إنما معارضة مدنية تتحرك بالوسائل السلمية المتسمة بالمدنية والتحضر للضغط على الحكومة والبرلمان لأداء دور فعال وحقيقي لتلبية مطالب كافة شرائح الشعب ومعالجة كافة المشاكل والأزمات والمعاناة والحالات المستعصية التي يعاني منها المواطنون في حياتهم ومعيشتهم وصحتهم وعملهمquot;، ولكي تكون هذه المعارضة مؤثرة وفاعلة على الساحة السياسية، فإن الحال يلزم توفر بعض المقومات الأساسية في البنية التحتية والواجهة السياسية لهذه التشكيلة الوطنية المقترحة لأن القطبية الواحدة للحزبين التي تسيطر على مقاليد أمور الإقليم بدأت بدت غير مهتمة مطلقا بمصالح الشعب نتيجة انشغال القيادات والمسؤولين بمصالحهم الذاتية وهي quot;امتدادا للحالة التي اتسمت بها التشكيلات الحكومية السابقة نتيجة الفساد المستشري في مفاصل الأجهزة الحكومية والحزبية والعسكرية على المستويين الرسمي وغير الرسميquot;.

واستنادا الى هذه الرؤية فإن الفكرة التي طرحناها في السابق والداعية الى تشكيل معارضة وطنية كردستانية تستند في بناءها بالدرجة الأساسية على جهود ومشاركات القطاعات والشرائح المجتمع كافة خاصة المحرومة منها لكي تكون مشاركة هذه الجهات فعالة ومؤثرة لإحداث ضغط فعال على أهل السلطة، ولغرض تحقيق هذا الأمر فإن المعارضة المقترحة يجب أن ترتكز مقوماتها بالدرجة الرئيسية على ما يلي:

أولا: اتخاذ المسلك المدني في التعبير وفق المفاهيم الدستورية للتعبير عن الرأي، والتعبير عنها بوسائل مدنية جماعية أو فردية وفق آليات مضمونة دستوريا.
ثانيا: تبني كافة أشكال التعبير عن الرأي الآخر وعن الرأي المعارض وفق الحقوق الدستورية ولائحة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية الواردة في اللوائح الدولية المصدقة من قبل الأمم المتحدة.
ثالثا: تبني كافة المطالب المشروعة لكافة شرائح المجتمع ولكافة المواطنين على السواء دون تمييز.
رابعا: اللجوء الى كافة مظاهر التعبير عن الرأي الآخر والرأي المعارض سلميا ومدنيا وبكافة الوسائل المتاحة دون إلحاق أو ترك أي ضرر، كإشعال الشموع وإطلاق الصفارات والطرق على الأواني المنزلية وغيرها من الوسائل الجماعية المتسمة بالمدنية والصعود الى السطوح وغيرها، والمتاحة بسهولة أمام الجميع.
خامسا: تبني طرح المطالب وفق آلية مفهومة لإفهام الطرف المقابل المعني بالأمر، تساعد على استيعاب المشكلة للعمل على إيجاد وطرح الحل المناسب لها.
سادسا: المشاركة الشعبية الفاعلة من جميع قطاعات وشرائح المجتمع، خاصة منها النقابية والطلابية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني بكافة أنواعها.
سابعا: تفهم الأطراف الحكومية وتقبلها بالحق الشرعي للمعارضة المدنية والاستجابة لمطالبها وحقوقها الشرعية.
ثامنا: تفهم البرلمان وتقبله بالحق الشرعي والدستوري للمعارضة المدنية والاستجابة لها بفعالية وحيوية.

باختصار، هذه هي أهم المقومات الأساسية لتوفير معارضة وطنية فعالة تعمل لصالح الكردستانيين وتعمل في الوقت نفسه على مساعدة الحزبين الحاكمين ورئيسيهما والرئاسة والحكومة والبرلمان لتحقيق مطالب الشعب في تأمين حياة حرة كريمة تتسم بتواصل حيوي نابع من تقدير القيمة الإنسانية للمواطن من خلال العمل الصادق على توفير أجواء تتسم بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والسلطة لبناء مجتمع مقتدر يتمتع فيه المواطن بكافة حقوقه المدنية والمعيشية والصحية والسكنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.


ومما لا ريب فيه أن رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني معني بهذا الأمر، وكذلك الرئيس العراقي جلال طالباني، لأنه لحد الآن لم يفعلا شيئا تذكر لصالح الأغلبية الساحقة الفقيرة من الكردستانيين، وكل ما تحقق لحد الآن هو إثراء فاحش بكل معاني الكلمة لأقلية فاسدة من أهل وأرباب السلطة والقيادات والمسؤولين من الحزبيين والحكوميين على حساب الشعب من خلال نهب المال العام، وكأن موارد الإقليم مسخر فقط لهؤلاء المارقين، الذين حرموا الحقوق الطبيعية والبسمة البريئة من ملايين الأطقال والنساء من شعب كردستان لغايات شيطانية فاسقة في نفوسهم التي لا تملأ مهما لج فيها المال الحرام، ولا شك أن الأمر قد حان لينهض كل من الرئيسين طالباني وبارزاني لفض الغبار عن هذا الوضع الجائر المختلق بأيادي السلطة الفاحشة لحرمان الأغلبية الساحقة من الشعب من أبسط حاجاته وحقوقه الدستورية، وبعكسه مع استمرار السكوت من قبل الرئيسين على هذه الحال فان الأمر يعني أن سمكة القيادة والسلطة الكردستانية فاسدة من قمة رأسها الى ذيلها، وفي هذه الحال سيكون لكل مقام مقال.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]