لطالما كانت أجواء العلاقة بين المثقف والسلطة في كل العالم إشكالية وغير واضحة منذ القدم وحتى الأمس القريب فهي تمتاز أحياناً بالدفء والصفاء والصحو فيما تجتاحها في أحيان أكثر موجات من الصقيع والأمطار والعواصف ولنا في علاقة الكثير من المثقفين مع سلطات الأنظمة الحاكمة في بلدانهم عبر التأريخ خير مثال على ذلك.. ولكن بمرور الزمن وبعد ظهور مفهوم الدولة الحديثة تمكن المثقفون في الغرب بشكل خاص وفي العالم المتمدن بشكل عام من إرساء أسس راسخة لموقف واضح تجاه سلطات دولهم تَميّز بالخصوصية والاستقلالية عنها وإنطلاقهم دوماً وفي جميع مواقفهم من المصلحة العليا لمجتمعاتهم وبلدانهم مما جعلهم مؤثرين في مجتمعاتهم لامتأثرين بالسياسة وتقلباتها أما في بلداننا فالمثقف حتى هذه اللحظة ليس له موقف واضح ورأيناه على الدوام حائراً متأثراً بالتقلبات السياسية العديدة التي طرأت على بلداننا منذ ذلك الحين لامؤثراً فيها بدئاً من مرحلة الإستعمار الأجنبي ومايسمى بالثورات التحررية مروراً بمرحلة الإنقلابات العسكرية وصولاً الى المرحلة الراهنة والأخطر والتي تميزت بظهور وسطوة تيارات الإسلام السياسي وغزوها لعقول شرائح واسعة من مجتمعاتنا وغالباً ماكان هذا المثقف يخفق في لعب دوره الحقيقي أثناء هذه التغييرات ولايزال.. وفي الوقت الذي كان فيه للمثقفين الغربيين دور رئيسي وبارز في تغيير مجتمعاتهم ونهضتها نجد إن المثقفين في مجتمعاتنا لايزالون عاجزين عن لعب دورهم الحقيقي والتأثير في مجتمعاتهم وإخراجها من دهاليز الجهل والتخلف والمثقفون العراقيون طبعاً لم يكونوا إستثناءً عن هذا الجو العام بل لقد كانوا أحد أبرز الأمثلة الواضحة لإشكالياته وتعقيداته حتى هذه اللحظة.. لقد كتب ويكتب في هذا الموضوع ربما يومياً الكثير من الكُتّاب والمثقفين ونظراً لسعته وتشعبه سأتناول هنا جانباً بسيطاً منه وهو إشكالية تذبذب العلاقة بين المثقف والسلطة في العراق بين الأمس واليوم وتحديداً فيما يخص الموقف من هذه السلطة وسأركز على اليوم لأنه الأهم وسأتناول الموضوع من وجهة نظر ربما تحاشاها ويتحاشاها الكثيرون في كتاباتهم.

إشكالية الماضي
وللحديث عن إشكالية العلاقة بين المثقف العراقي والسلطة في الماضي من الضروري أن نذكر مثالين مهمين يمكن أن يوضحا حجم الإشكالية التي عاشها المثقفون مع السلطات المتعاقبة آنذاك والتي غالباً ماكانت تترنح بين مد وجزر والمثالان هما عملاقان من عمالقة الشعر العراقي والعربي ورائدين من رواده.. الأول هو نهر العراق الثالث وشاعر العرب الأكبر الجواهري وإشكالية علاقته مع سلطات الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق منذ العهد الملكي وحتى عهد سلطة إنقلابيوا 17 تموز والثاني هو رائد الشعر الحر الخالد بدر شاكر السياب وإشكالية علاقته مع الأحزاب السياسية التي كانت متنفذة في أيام بعض الأنظمة السياسية.. فالجواهري الكبير على سبيل المثال أتعب السلطات التي عاصرها كما أتعبته هي لأنه كان متقلب المزاج مع هذه السلطات فالسلطة الملكية على سبيل المثال بدئاً من الملك الراحل فيصل الأول وصولاً الى الأمير الراحل عبد الإله كانت دائماً تحتفي بالجواهري وتعتز به كرمز من رموز العراق والذي كان يحرجها أحياناً مستغلاً سعة صدرها التي ندم عليها فيما بعد لأنه لم يجدها لدى من جاؤوا بعدها فبعد أن عيّنه الملك فيصل الأول في تشريفات القصر الملكي ووقف الى جانبه في معركته الشهيرة مع ساطع الحصري الذي كان وزيراً للمعارف آنذاك أحرجه الجواهري في أحد المواقف مما دفع به الى الإستقالة ثم عمل عبد الإله الذي إعتاد أن يدعوه للإحتفالات الملكية على ترشيحه لعضوية مجلس الأمة ونجح في ذلك بعد عدة محاولات ليصبح الجواهري نائباً في البرلمان وليبدأ منذ اليوم الأول بتهييج النواب على السلطة التي أدخلته الى قبة البرلمان الذي سرعان ماإستقال منه.. وفي إحدى الحفلات الملكية التي أقيمت على شرف ضيف العرش العراقي الرئيس اللبناني الراحل بشارة الخوري عام 1947 ألقى الجواهري الذي كان حاضراً قصيدته المعروفة اليوم باللامية الهاشمية مخاطباً بها الأمير عبد الإله والتي كانت من الروعة للدرجة التي جعلت الأمير يسحب وسام الرافدين المعلق على صدر أحد وزرائه ووضعه على صدر الجواهري والتي قال فيها..

يا إبن الذين تنزلت ببيوتهـم سور الكتاب ورتلت ترتيـــلا
شدّت عروقك من كرائم هاشم بيـض نَمَيــن خديجـة وبتـــولا
وحنت عليك من الجـدود ذئابة رعت الحسين وجعفراً وعقيلا
ولكن وبعد 11 سنة من إلقائه لهذه القصيدة العظيمة تنازل عنها بلمح البصر لصالح نونيته الجمهورية التي حيا فيها إنقلاب 14 تموز عام 1958 والتي قال فيها..
ياليلــة الإثنيــن مامـن ليلــة جاءت بصحبك من فرادى أو ثنى
قلّمت أظفار الدعي ورهطه متفـــــائلاً بمـصـيرهــم مـتيمــــناً
ومبايعين تحضّنوا متصعلكاً حتـى إذا عُــقِــد اللـواء تفـرعـــنا
وعن هذه القصيدة يقول المفكر العراقي حسن العلوي وهو أحد أشد المعجبين ككل العراقيين بالشاعر الراحل.. quot; مازلت مطبق الجهل مصكوك الذاكرة مغلق الوعي لا أدري ولا أريد أن أدري إن كان أمير العرش العراقي هو هذا الماثل في اللامية الهاشمية أم هو الممثل به في النونية الجمهورية؟.. ولا أرغب في تأشير من كان الخاسر منهما.. الجواهري أم عبد الإله لكن الثابت هو أن الشعر العربي هو الأكثر خسارة عندما تطوى اللامية الهاشمية وتعد من عيوب الشاعر وتمجد نونية الثورة وتصبح من بعض المجد المؤثل للشاعر الأثيل quot;.. لكن الجواهري وبعد أشهر قليلة من تحيته للإنقلاب ورجاله عاد وإصطدم مع رجال الإنقلاب وعلى رأسهم الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ليشد رحاله الى المنفى.. ثم عاد الى العراق بعد إنقلاب 17 تموز 1968 متصوراً خطأً بأن مشوار الصراع السياسي قد وصل الى نهايته وبأن أبناء بلده سيلتفتون الى البناء والحوار بدل التدمير والإقتتال فقال متفائلاً:
أرح ركـابك مـن أين ومـن عثــر كفاك جيلان محمولاً على خطر
كفاك موحش درب رحت تقطعه كـأن مغبـــره ليــلاً بـلا سحــــر
وحينها رد عليه صالح مهدي عماش الذين كان آنذاك وزيراً للداخلية وهو من رجال الإنقلاب وكان هاوياً للشعر:
أرح ركابك من أين ومن عثر هيهات مالك بعد اليوم من سفر
إلا أن تصوراته هذه سرعان ماذرتها رياح الديكتاتورية والصراعات الداخلية التي عادت بين أبناء البلد الواحد قبل أن يريح ركابه فشدّ رحاله من جديد الى المنفى وبقي فيه حتى وفاته.. ويكفينا ماذكره الشاعر الراحل في مذكراته وفي بعض اللقائات الصحفية والتي عبر فيها عن ندمه للمواقف التي سبق وإن إتخذها تجاه السلطة الملكية أو سلطة الزعيم قاسم بعدما رأى وخبر طبيعة السلطات التي جاءت بعدهما والتي كانت كل واحدة منها أسوء من التي سبقتها لنعرف حجم الإشكالية التي كان يعيشها الجواهري مع هذه السلطات وعدم دقة وضبابية المواقف التي كان يتخذها تجاهها.
أما القصة الثانية والأكثر غرابة في بعض النواحي من قصة الجواهري فهي قصة شاعرنا الكبير السياب مع الحزب الشيوعي والأحزاب القومية والزعيم قاسم.. فبعد أن كانت ميول الشاعر الفكرية في شبابه شيوعية الى الدرجة التي دفعته الى أن يصبح عضواً في الحزب الشيوعي العراقي تحولت هذه الميول لأسباب يختلف عليها معاصروه الى ميول قومية مما دعاه الى إعلان براءته من الحزب الشيوعي والتي لم يكتف بها شفوياً بل عمد الى نشرها تحريرياً في جريدة الحرية البغدادية تبعها بمجموعة مقالات quot; كنت شيوعياً quot;عام 1959 التي تضمنت فصولاً من تجربته الإشكالية مع الحزب الشيوعي العراقي الذي كان من أبرز مثقفيه مطلع الخمسينيات لينتقل بعدها الى صفوف التيار القومي لحين مماته.. والغريب إنه حتى في مقالاته هذه التي كان من المفترض أن تعكس توجهاً مبدئياً واضحاً لدى الشاعر نراه يغرق من جديد في إشكالية النظرة الى السلطة ففي الوقت الذي يشيد فيه ضمن هذه المقالات برواية جورج أرويلquot; 1984 quot; التي قرأها بعد نشره الجزء الأكبر من مقالاته والتي يستخدم فيها أرويل فكرة الأخ الأكبر عند إشارته الى أسلوب العقائد الشمولية في عبادة الزعيم نرى السياب في قسم آخر من هذه المقالات يكيل المديح لشخص الزعيم الأوحد العبقري كما يسميه عبد الكريم قاسم مستثيراً همة الرعاع الذين يعتبرهم جورج أرويل في رواياته أهم أسباب إنحطاط العقائد وهيمنة اللامنطق في الدولة التوليتارية.. ثم يصل الأمر بالسياب الى أن يقول في إحدى هذه المقالات quot; إننا في جهاد ندافع فيه عن قوميتنا وديننا وتقاليدنا وتراثنا.. فإلى التكاتف والاتحاد يا أعداء الشيوعية من كل فئة وكل دين وكل قومية quot;.. وهكذا يتحول السياب الى مدافع كبير عن العرب والقومية العربية بعد أن كان ولسنوات طويلة أممياً وعضوا فاعلاً في الحزب الشيوعي العراقي ومن منظريه الأوائل وكل هذا إن كان يدل على شيء فإنما يدل على عدم رسوخ رؤية وبالتالي أفكار السياب السياسية والتي أدت الى إشكالية مواقفه وعلاقته مع الأحزاب والسلطات السياسية المتصارعة والمتعاقبة .
إن السبب في الإشكالية التي عاشها الجواهري والسياب وأغلب المثقفين العراقيين في الماضي مع سلطات الأنظمة التي عاصروها هو عدم إمتلاكهم لرؤية واضحة مستقلة حول القضايا المصيرية لشعبهم ووطنهم والتي قادت الى عدم بلورتهم لمواقف مبدأية وصائبة تجاه هذه السلطات.. فمواقفهم تجاه هذه السلطات وأحزابها كانت على الأغلب آنية تحددها عواطفهم التي كانت مأخوذة بالشعارات الثورية بنسخها المختلفة الإشتراكية والقومية والإسلامية حالهم كحال الدهماء التي كانت حطباً لاينضب لهذه الشعارات والتي كان بعض هؤلاء المثقفين للأسف يتصدر تظاهراتها ولم يعوا حينها حساسية وخطورة ماكانوا يقومون به من أفعال أو يكتبونه من شعر وأدب ومدى تأثيره وإنعكاسه على الأجيال التي عاصرتهم والتي كانت تقتدي بهم وتأخذ بآرائهم.. والجدير بالذكر هو إن الأحزاب وعلى إختلاف رؤاها وآيديولوجياتها كانت آنذاك ولاتزال تخشى المثقف كونه يستطيع فهم الأمور وتحليلها أكثر من غيره وبإمكانه التأثير على المجتمع وتنويره وتوعيته بحقيقة مايجري لذا كانت جميعها تتبع سياسة كسب ود بعض المثقفين ومحاولة ضمّهم الى صفوفها ليس حباً بهم وبثقافتهم وإنما لتتباها بهم أمام منافسيها ولتروج لنفسها على أنها أحزاب تحترم الثقافة والمثقفين مما يرفع من أسهمها ويزيد من شعبيتها ويضاعف من أنصارها في الشارع العراقي وبالتالي يمهد الطريق لإستيلائها على السلطة ثم تحولت هذه السياسة بعد أن وصلت بعض هذه الأحزاب الى السلطة وخصوصاً بعد أنقلاب 1968 وحتى الآن الى سياسة ترهيب المثقفين بل وحتى تصفيتهم لكي لايقوموا بدورهم التنويري الحقيقي الذي من الممكن أن يشكل خطراً عليها أو تدجينهم بحيث يتحولون الى مروجين لها ومبررين لأفعالها مقابل الحفاظ على حياتهم وإكرامهم أحياناً وهذه هي السياسة التي تتبعها اليوم بعض الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية والسلطة العراقية وهي ناجحة حتى الآن مادام هنالك من المثقفين من لديهم إستعداد لذلك.. وفي الوقت الذي يجب أن تكون فيه تجارب السابقين عبرة للاحقين وفرصة للتعلم نرى إن البعض يكرر اليوم نفس أخطائهم ويقع في نفس الفخ الذي وقعوا فيه وخرجوا منه نادمين بعد فوات الأوان فمثقفوا الماضي العمالقة ورغم عبقريتهم التي لاتناقش في الشعر والأدب أخفقوا في تسجيل مواقف تأريخية مؤثرة لأنهم لم يدركوا حينها بأن هنالك أجيال ستبني مواقفها على أساس مواقفهم كونهم يمثلون بالنسبة لها مثلاً عليا يحتذى بها وإنساقوا وراء أهوائهم وآيديولوجياتهم السياسية التي صورت لهم الحق باطلاً والباطل حقاً ونظّروا لها وتصدروا فعالياتها الشعبية والثقافية وبالتالي أوقعوا في شباكها شرائح واسعة من هذه الأجيال كان مصيرها الضياع أو الموت أو النفي بعد أن تحول الصراع الفكري بين هذه الآيديولوجيات الى صراع دموي لانزال ندفع ثمنه حتى هذه اللحظة.

إشكالية الحاضر
والآن نأتي الى الحديث عن إشكالية العلاقة بين المثقف العراقي والسلطة الحالية والتي عند الحديث عنها لابد من الرجوع بالزمن قليلاً الى الوراء وبالتحديد الى زمن السلطة التي سبقت 2003 لأن علاقة المثقف بالسلطة الحالية هي عبارة عن تطور أو بشكل أدق رد فعل على علاقته بالسلطة السابقة.. فكلنا نعلم كيف كانت تلك السلطة وكلنا عايشنا طبيعتها الإقصائية وفكرها الشمولي ونتيجة لذلك فقد عانى المثقف العراقي الكثير من هذه السلطة وعاش معها لحظات عصيبة خلال مراحل مختلفة من حكمها بدأت بهدوء حذر تلته عاصفة من المواجهة إنتهت بقتل البعض ونفي البعض الآخر وبقاء من لم يصطدم بهذه السلطة.. فهنالك دوماً في أي بقعة من هذه الأرض تياران من المثقفين تيار يؤمن بنظرية الثقافة للحياة وتيار يؤمن بنظرية الثقافة للثقافة وفي زمن السلطة السابقة في العراق تمت تصفية ونفي التيار الأول وبقي التيار الثاني يمارس نشاطه ولكن طبعاً تحت عين ورقابة أجهزة السلطة ولقد كان للكثير من المثقفين العراقيين سواء المنفيين منهم أو حتى من بقوا في الداخل مواقف تأريخية و مبدأية مشهودة تجاه تلك السلطة ورموزها.. ولكن في عام 2003 إنتهت تلك السلطة بسقوط النظام الذي كان يسيطر عليها وجاءت سلطة جديدة قوامها الشخصيات والأحزاب والقوى السياسية التي كانت معارضة للسلطة السابقة وتهاجم وتنتقد أساليبها في التعامل مع الثقافة والمثقفين وقد وقف أغلب المثقفين حتى الأمس القريب الى جانب السلطة الجديدة من باب (إعطائها فرصة) وظناً منهم بأنها ستتعلم من دروس من سبقوها وستحترم الثقافة والمثقفين وستحترم الحياة الثقافية إلا إن مانتج ورشح من سنوات حكمها الماضية العجاف هو عكس ذلك.. فأول ماقامت به هذه السلطة هو دفع المثقفين المحسوبين عليها وعلى أحزابها الى مهاجمة جميع المثقفين الذين بقوا في داخل العراق أيام السلطة السابقة ونعتهم بمختلف النعوت كأبواق ومطبلي النظام السابق ثم جاء دستورها الذي لم يذكر مفردة ثقافة في أي مادة من مواده فيما أسهب في تكرار المفردات الدينية.. وللتعتيم والتشويش على موقف المثقفين المعارض المتنامي لسياستها إبتدعت هذه السلطة اليوم عبر وسائل إعلامها مفهوماً جديداً يقول بأن ليس لها معارضين على الإطلاق وإن كل المثقفين الموجودين الآن في الخارج والذين فاق عددهم حتى الآن عدد من كانوا في الخارج أيام السلطة السابقة هم مغتربين حسب وصفها لتعطي إنطباعاً عاماً بأنهم قد هاجروا من العراق برضاهم لا قسراً متناسية بأن ميليشيات أحزابها كانت السبب وراء هذه الهجرة الجماعية لهؤلاء المثقفين الى خارج العراق بعد أن بدأت ومنذ دخولها الى العراق مخططاً شيطانياً لتصفيتهم الواحد تلو الآخر وفق سيناريوهات مختلفة إضافة الى مسؤوليتها المباشرة عن الدمار المقصود والمنظم الذي يطال الحياة الثقافية في العراق اليوم.
لذا فالسؤال الملح الذي يُطرح في الوقت الحاضر هو مادور المثقف العراقي الآن بالتحديد تجاه السلطة القائمة حالياً والتي تشير كل المعطيات الى أنها سلطة غير ديموقراطية ولاتحترم الثقافة وحقوق الإنسان أي إنها بمعنى آخر تقف بالضد من كل مايفترض إنها توجهات وتطلعات أغلب المثقفين العراقيين.. فهل سيتصدى المثقف العراقي للعب دوره الحقيقي تجاه هذه السلطة أم إنه سيبقى أسير الخطاب المعارض الذي تبناه معها يوم كانت شخصياتها (حليفته) ضد السلطة السابقة وهو مايحدث حتى الآن من قبل بعض المثقفين المسيّسين ويمكن تشخيصه بوضوح من خلال لغة المجاملة والديبلوماسيات التي لاتزال سائدة بين هؤلاء المثقفين ورموز وأحزاب السلطة الحالية بل إن المجاملة لاتزال موجودة حتى بين الأوساط والمراكز الثقافية الديموقراطية التقدمية ودكاكين أحزاب السلطة الحالية في المهجر هذه الدكاكين التي إزداد عددها وإتسع نشاطها الداعم لهذه السلطة بشكل غير طبيعي ومثير للشك خلال الفترة القليلة الماضية بل وبدأت تجذب إليها الكثيرين من أبناء الجاليات العراقية في المهجر بين منتفع ومخدوع وقريباً جداً (ستسحب البساط من جوة رجل منظمات المجتمع المدني الموجودة في المهجر النايمة ورجليها بالشمس والغارقة في سابع نومة وبعدها تسميهم جماعتنة( إذا بقي المثقفون العراقيون الديموقراطيون والتقدميون ومنظماتهم المدنية مُغمظين أعينهم ودافنين رؤوسهم في الرمال عما يجري وعما تقوم به السلطة الحالية لالشيء سوى أنها وريثة بعض أحزاب المعارضة العراقية التي كانت حليفة لهم ولأحزابهم السياسية سابقاً وكانت ضد نظام صدام وسلطته السابقة وكأن هذا الأمر وحده كاف لتزكيتها ولعصمتها من أي شيء بعد الآن والى الأبد من دون أن يعيدوا اليوم التفكير في السبب الذي كان يضعها سابقاً في الخندق المعارض لصدام ومن دون أن يتفكروا فيما تفعله الآن والذي كان من المفترض أن يدفعهم الى إعادة تقييمهم لهذه الأحزاب والبحث عن السبب الذي كان وراء معارضتها للنظام السابق وبالتالي دفعها الى التواجد في خندق المعارضة العراقية السابقة وقد تحدثت عن هذا المضوع بشيء من التفصيل في مقال سابق بعنوان quot; هل كان هدف المعارضة العراقية إسقاط النظام أم إسقاط العراق؟ quot;.. فإلى متى سكوت بعض المثقفين العراقيين عما تقوم به السلطة الحالية والى متى ستستمر مجاملتهم لها ولرموزها وممثليها السياسيين والى متى سيستمر شهر العسل بين بعض المثقفين العراقيين وهذه السلطة رغم إنه من المفترض أن يكون إختلاف الرؤى وتقاطع الطرق بات واضحاً بين الطرفين؟
إن المثقف لاينتهي دوره مع إنتهاء السلطة التي كان يعارضها وسقوطها على يد سلطة جديدة فنحن نفترض بأن هذا المثقف كان له موقف من السلطة السابقة إنطلاقاً مما يؤمن به من مباديء وقيم لاتتغير ولاتتفق مع نهج تلك السلطة وماكانت تقوم به من أعمال وممارسات وليس إنطلاقاً من موقف آيديولوجي لذا فإن مجيء سلطة جديدة جمعته الظروف وإياها في يوم من الأيام في خندق واحد أو كانت تربطه ببعض شخصياتها علاقات يجب أن لايكون سبباً لسكوته عن أعمالها وممارساتها الخاطئة بل يجب عليه كشف وتعرية هذه الأعمال والممارسات وإستهجانها بصراحة وبدون مجاملة كما كان يفعل مع السلطة التي سبقتها بل وأكثر خصوصاً وإنه وأغلب أفراد شعبه كانوا ينتظرون منها وهي التي كانت ترفع أحزابها أيام معارضتها للسلطة السابقة شعارات الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية أن تعوضهم ماضاع منهم في أيام سابقتها لا أن تسير على نفس نهجها بل وتزيد الطين بلة.. إن أكثر من يعيش هذه الإشكالية اليوم هم المثقفون الذين كان لهم خلاف آيديولوجي وصراع سياسي مع السلطة السابقة سواء من كان منهم في الداخل أو الخارج الذين لازالوا ينظرون الى بعض الأحزاب السياسية التي تمسك بالسلطة اليوم على أنها أحزاب مناضلة لأنها كانت معهم في يوم من الأيام في نفس الخندق المعارض للنظام السابق رغم إنها اليوم قد كشرت عن أنيابها وظهرت على حقيقتها للعيان وبات واضحاً مشروعها الظلامي الخطير لتدمير العراق الذي تنفذه بشكل جهنمي على أرض الواقع وهم يلمسون ذلك لمس اليد إلا أنهم يغالطون أنفسهم ويردون أن يغلّطونا معهم.. إنها إشكالية حقيقية لايحسدون عليها فهم اليوم بحاجة الى مصارحة جادة مع النفس وجرأة إستثنائية في إتخاذ القرار الذي يجب أن يكون مبدئياً مسئولاً مجرداً بعيداً عن الآيديولوجيات السياسية وهذا صعب لأن الخلفيات الآيديولوجية للكثيرين منهم لاتزال متجذرة في تفكيرهم وتلقي بظلالها على تحليلاتهم السياسية وتقييمهم لكل شيء كان في العراق قبل 2003 وحدث في العراق بعد 2003 وحتى الآن فنراهم على سبيل المثال مُتشنِّجين ومُستفزّين تجاه كل ما يتعلق بـ (تركيبة الدولة العراقية) التي كانت أيام السلطة السابقة من جيش وشرطة وأمن ومؤسسات ثقافية وخدمية والتي لادخل للسلطة السابقة بها بل يعود تأريخ تأسيسها الى بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 في حين نراهم مُتساهلين الى أبعد الحدود مع (خلطة دويلات الطوائف العراقية) الحالية غير المتجانسة والتي أسِّست وقامت على أنقاض التركيبة السابقة رغم علمهم الأكيد بملابسات تشكيلها الخاطئة والبعيدة عن أي شكل من أشكال النهج الوطني!!.. وفي الوقت الذي كانوا فيه ولايزالون يَصِفون بعض زملائهم المثقفين الذين بقوا في الداخل أيام السلطة السابقة بأنهم كانوا مثقفيها ومن المطبلين لها رغم علمهم بصعوبة الوضع الذي كان يعيشه هؤلاء آنذاك وبأن بعضهم كان (مجبراً) أحياناً على مجاراة تلك السلطة للحفاظ على حياته وحياة عائلته نجد إن بعضهم هم أنفسهم قد أصبح اليوم من مثقفي السلطة الحالية (مختاراً) وهو في الخارج فنراه يستعير مفرداتها المفبركة في أحاديثه وكتاباته ويميل معها حيثما تميل ويطبل لها في كل ماتقول وتفعل!
إن مثقفينا اليوم أمام إمتحان تأريخي صعب يتعلق بمصير العراق ووجوده لأن المسؤولية التي تقع اليوم على عاتقهم مسؤولية أخلاقية وتنويرية وإصلاحية وهي بالتالي أهم من المسؤولية التي تقع على عاتق السياسيين فالسياسة فن الممكن وعالم الصفقات والمصالح الذي ليس فيه مكان للأخلاق إلا نادراً لذا لن نُصدَم أو نتعجب إذا لم يحقق السياسيون ماوعدونا به أو إذا ثبت بأنهم كانوا يخدعوننا وهذا مابدأنا نكتشفه اليوم شيئاً فشيئاً لكننا سنصدم وبشدة إذا إكتشفنا بأن بعض مثلنا العليا منهارة أو إنها قد إنهارت وأصبحت جزئاً من من عالم السياسية لأن الثقافة فن الجمال وعالم المباديء والقيم والسياسي من الممكن أن يتغاضى على مبادئه ويقدم التنازلات للوصول الى أهدافه أما المثقف فلا وشتان مابين الإثنين.

كيف نتجاوز هذه الإشكالية؟
على المثقف الحقيقي اليوم أن لايكرر نفس أخطاء أسلافه في الماضي ويدرك حجم وخطورة مسؤوليته تجاه الأجيال الحالية التي تعقد عليه الآمال وأن يكون واضحاً في آرائه وبالتالي مواقفه التي تبنى عليها.. كما يجب عليه أن لاينساق وراء أهواءه وإنتمائاته الآيديولوجية وأن لايكتفي بالتنظير والترويج لها مستفيداً من الفراغ الفكري والفوضى الثقافية الموجودة في العراق كما يفعل البعض اليوم وأن يقول كلمته بحق السلطة القائمة ويكشف فشلها وعدم قدرتها على إدارة دولة إذا كانت كذلك حتى وإن كان مؤمناً بالأفكار التي تتبناها بعض أحزاب هذه السلطة أو عضواً في أحد هذه الأحزاب.
كما يجب أن يؤسس ويتبنى المثقفون اليوم موقفاً واضحاً يعلنونه بكل صراحة على الملأ على ضوء ماقدمته وتقدمه السلطة الحالية لشعبها أي على أساس المصالح العليا لمجتمعاتهم وأوطانهم لاعلى أساس تأريخها السياسي الذي قد يكون متوافقاً أو مختلفاً مع التأريخ السياسي لهم وأن ينسوا لحين من الزمن الى أي حزب ينتمون أو كانوا ينتمون ومن أي مدرسة فكرية وآيديولوجية نهلوا أفكارهم.. فما يؤسفنا هو ذلك الموقف الغريب الذي نجد فيه اليوم بعض أساتذتنا الكبار من المثقفين العراقيين الذين وإن أنكروا ذلك فإن تقييمهم لما يجري الآن في العراق ينطلق من مواقف آيديولوجية ليس لها علاقة بالواقع الحالي والمعاش لذا نراهم اليوم لاهُم مع السلطة الحالية ولاهُم معارضين لها ولاهُم معها ولاهُم عليها فهُم كما نقول بالعراقي quot; خَد وعَين quot; مع هذه السلطة ويحاولون دوماً الإبقاء على شعرة معاوية بينهم وبينها في الوقت الذي بات فيه على أغلب المثقفين أن يحددوا موقفهم ويقولوا كلمتهم في هذه السلطة وفيما يحدث في ظل حكمها وأن يختاروا مع من يكونون ومع من يسيرون مع الشعب أم مع السلطة (وخصوصاً أولئك الذين يدّعون منذ عقود إختيارهم لطريق الشعب) لأن طريق الشعب والسلطة لم يعد واحداً وياخوفي في النهاية أن (يُضَيّع بعض هؤلاء المثقفين المشيتين) ويصبح حالهم حينها كحال من قالت في المثل العراقي الشهير quot; صِرِت لاني لهَلي ولاني لحَبيبي quot;.
وختاماً يجب أن لايكتفي المثقف بالوقوف موقف المتفرج من المحنة التي يعيشها شعبه ووطنه اليوم والتي هي الأصعب عبر تأريخ هذا الوطن العظيم الجميل بل عليه أن يدخل في صلب هذه المحنة ويكون فاعلاً بالقدر الذي يُمَكِّنه من تغيير الواقع الذي يعيشه مجتمعه وكفى تنظيراً فنحن لسنا في السويد أو النرويج للمثقف التنظير وللناس الإطلاع بل نحن في بلد يتهاوى وسيسقط قريبأ في هاوية سحيقة لا قرار لها وليس هنالك مَن هو مؤهل لإنقاذه سوى المثقفين من أبناءه بعد أن يجمعوا شعبهم حولهم على كلمة واحدة وموقف واحد ليجدوا معاً الحلول الناجعة للمأزق الحالي الذي تعيشه بلادهم والتي عجز وسيعجز السياسيون الحاليون بكل تأكيد عن إيجادها لأنهم ببساطة وصراحة شديدة غير مؤهلين أصلاً ليكونوا سياسيين ويقودوا البلاد والعباد.

[email protected]