بين عشية وضحاها تحول الصحفي الذي رشق الرئيس الأمريكي جورج بوش بحذائه من شخصية مجهولة لا يعلم عنها أحد شيئاً إلى بطل قومي تحتفي به الشعوب العربية والإسلامية، فسارعت مؤسسات وهيئات عربية وإسلامية بمنحه ألقاب وجوائز مادية وشرفية تكريماً له على فعلته التي يعتبرونها شرف. ومن غير المستبعد أن تطلق بلدان عربية وإسلامية اسم الصحفي على شوارعها كما تفعل إيران مع الإرهابي خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس المصري السابق أنور السادات.

التأييد والتكريم غير المسبوقين الذين تقدمهما البلدان والشعوب العربية والإسلامية للصحفي الذي استبدل قلمه بحذائه لا يعد غريباً عن الثقافة الشائعة في هذه البلدان حيث يغيب الحوار العقلاني وتحل محله القوة في حل النزاعات والمشاكل، وتختفي ثقافة التسامح ويقوم مكانها الإرهاب والعنف، وتتدهور العلاقة مع الأخر وتنتشر الكراهية ويستفحل الحقد وتكثر الاعتداءات والاختطافات.

محاولة صحفي الحذاء الاعتداء على الرئيس الأمريكي، إضافة إلى ردود الأفعال العربية والإسلامية عليها، تدعونا للتساؤل من جديد عن إساءة استخدام الحرية التي يحظى بها العراقيون منذ عزلت القوات الأمريكية الطاغية صدام حسين. فبعد أن تنازع العراقيون طويلاً في مشاهد دامية ومؤلمة، ها هو أحدهم يقذف الشخص الذي منح العراقيين الحرية بالحذاء.

لم يمتلك صحفي الحذاء ولا من يؤيدون فعلته الجرأة في الماضي لتنفيذ محاولة اعتداء بالحذاء أو بغيره على الطاغية صدام حسين حين حكم العراق بالحديد والنار. فأناس على شاكلة صحفي الحذاء يعلمون أن قصف ديكتاتور بجبورت وقسوة وصلف صدام حسين بالحذاء كان سيقوده من دون شك إلى مشانق بغداد الشهيرة.

كان إلقاء الصحفي المغمور حذاءه في وجه الرئيس الأمريكي وليس في وجه رئيس الوزراء العراقي الذي يتعاون مع الرئيس الأمريكي ويدعوه لإبقاء قواته في العراق إما بغرض الحصول على الشهرة الغائبة عنه أو لخوفه من بطش رجال الحكومة العراقية ومؤيديها. فقد كان الصحفي على ما يبدو مقتنعاً بأن إلقاء الحذاء في وجه بوش سجعل منه بطلاً قومياً بين أعداء الحرية والحاقدين والمتطرفين والإرهابيين، وهو ما لم يكن ليتحقق له لو كان ألقى حذاءه في وجه نور المالكي.

وفي الوقت نفسه كان صحفي الحذاء يدرك أن إلقاء حذائه في وجه الرئيس جورج بوش سيمر في الغالب من دون عقاب لأن إهانة رئيس دولة ديمقراطية يختلف تماماً عن إهانة رئيس دولة دكتاتورية، فهو كان يعي تماماً أن بوش، الذي قدم الحرية للعراقيين، ما كان لينتقم أبداً من صحفي، حتى ولو أساء هذا الصحفي استخدام وظيفته في التعبير عن رأيه بطريقة بذيئة وغير متحضرة. في حين كان صحفي الحذاء متأكداً أن الهجوم على رئيس الوزراء العراقي ربما كان سيعرض حياته لخطر حقيقي.

من المخجل حقاً أن يقوم صحفي باستبدال قلمه بحذائه، ومن المؤسف أن يهلل الجهلة، بمن فيهم من يدَعون الثقافة والمعرفة والعلم، بفعلة تنم عن سوء أدب وعدم تقدير للمواقف وعدم احترام للأخر. ولكن يبدو أنه بات علينا أن نتعامل مع هذا الأمر على أنه واقع لا محالة في تغييره، فالأوضاع في البلدان العربية والإسلامية تسير من سيء إلى أسوأ في كافة النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية، ولا يبدو في الأفق أية بارقة أمل في الخروج من مستنقع التخلف الذي نعيش فيه.

كان عجيباً أن يقوم الصحفي بإلقاء الحذاء في وجه جورج بوش رغم أن الرجل لم يقدم للعراقيين إلا الحرية والانفتاح على العالم. وإذا كان بعض العراقيين قد خانوا بلدهم بالعمل لمصلحة قوى إقليمية مسيئين في ذلك استخدام الحرية التي منحهم إياها جورج بوش، فهذه مشكلتهم وليست مشكلة أي شخص أخر. وإذا كان بعض العراقيين والعرب والمسلمين لا يعون الأخطار التي تنتظر العراق في حال سارعت الولايات المتحدة بالانسحاب منه قبل أن يستتب الأمن به، فعلى هؤلاء وأولئك مراجعة الحكومة والبرلمان العراقيين اللذين يطالبان الولايات المتحدة بالحفاظ على وجود أمني مؤقت
بالعراق لحمايته من المتربصين به.

لا بد من الاعتراف بأن هناك أخطاء كبيرة وسلبيات كثيرة للوجود الأمريكي المؤقت في العراق، ولابد من الاعتراف بأن الوجود الأمريكي المؤقت في العراق ربما لا يكون الحل الأمثل لكل المشاكل الداخلية في العراق. ولكن، برأيي، أن كل الأخطاء والسلبيات تهون أمام الإيجابيات التي تحققت بفضل الوجود الأمريكي الذي يجب أن ينتهي بحسب الاتفاقات الأمنية بين الجانبين العراقي والأمريكي. فالحرية التي حصل عليها العراقيون يحسدهم عليها الملايين ممن يصبحون ويمسون تحت حكم شمولي لطاغية أو لديكتاتور.

قيّم الصحفي المجهول الحرية بالحذاء، فالحذاء الطائر في قاعة المؤتمر الصحفي الذي كان يعقده الرئيس الأمريكي مع رئيس الوزراء العراقي لم يكن موجهاً لشخص جورج بوش وإنما للحرية التي حملها الرجل للعراق والعراقيين. لقد حرر جورج بوش العراقيين من أغلال حكم صدام حسين الدكتاتوري، ولكن كانت مكافأة الرجل إلقاء الأحذية في وجهه. وبدلاً من منح جورج بوش أعلى الأوسمة العراقية لمساعدته العراق في التحرر من الطغيان البعثي، كان حذاء صحفي مجهول هو الوسام الذي حصل عليه جورج بوش.. وعلى الرغم من المغزى السيء لواقعة إلقاء صحفي حذائه في وجه الرئيس الأمريكي، إلا أنني لا أبالغ هنا إذا قلت للواقعة جانب إيجابي يتمثل في النجاح الذي كللت به المهمة الأمريكية في تحرير العراق من الظلم والطغيان، وهو النجاح الذي يشتاط له الكثيرون غيظاً وحنقاً.

كان من المفترض أن تشعر الشعوب العربية والإسلامية بالخجل من حادثة إلقاء صحفي مغمور حذائه في وجه الرئيس الأمريكي، ولكن غالبية الشعوب العربية والإسلامية أبت، للأسف الشديد، إلا أن تهلل للحادثة المشينة. وبدلاً من أن يوجه المقهورون من أبناء الشعوب العربية والإسلامية غضبهم وحنقهم نحو الطغاة الذين يذلونهم وينتقصون من آدميتهم، فإنهم يوجهون أحذيتهم لمن يمنحهم الحرية ويفتح أمامهم طريق المستقبل ويعيد لهم حقوقهم الإنسانية المغتصبة. ولعل هذا نتاج طبيعي للثقافة المنتشرة بهذه المجتمعات التي ضلت طريقها وانحدرت مستوياتها واندثرت حضاراتها. وصدقوني حين أقول إن الحذاء الذي وجهه الصحفي نحو جورج بوش سيتحول يوماً إلى وسام على صدره، وذلك حين تعود الشعوب العربية والإسلامية إلى الحياة وحين تدرك أهمية الحرية المنشودة وروعتها وجمالها.

جوزيف بشارة
[email protected]