تموز: شخت كثيراً أيها الرجل!
قاسم: أخبريني، هل تلمحين فراشات الليل المهاجرة، تلك التي تنسل مع خيوط فجري المرمي بلا زمن في هذه العلبة المعتمة، وهي تحمل فوق كاهلها أثقال حكايتي؟
تموز: أمل أن لا تكونَ قد أتهت الطريق؟
قاسم: وماذا أخبروكِ؟
تموز: [صمت]
قاسم: أكملي يا تموزتي، متى سيعود أصحابي؟ ولماذا هنا أنا موجود؟
تموز: كل الذي أعرفه هو أن أترككَ في مكان مجهول.
قاسم: هكذا لا على التعيين؟ لكن لماذا؟
تموز: [صمت]
قاسم: لقد ابتعدنا ما فيه الكفاية الآن يا تموزتي، ولم يعد في البصر ما يغني الروح، ولا عند العمر ما يتباه به أمام الخراب.. فكوني رحمة بمن عشقكِ، وبمن ولد منكِ، ذاك الذي قام ومشى، ركض وسقط.. كوني رحمة بمن استفاق في صباحكِ ومضى، وبمن عشق وأنتحب في لياليكِ، ارحمي من دفن في جسدكِ ومن قتل وهو بريء.
تموز: [غير مبالية]
قاسم: [بإصرار] وهل أنتِ متأكدة؟ وهل حقا سوف تتركيني هكذا وترحلين!
تموز: لقد طلبوا مني المجيء بكَ إلى هذا المكان.
قاسم [مقاطعا]: ومن ثم؟
تموز: [مبتسمة، وهي تعطي له ظهرها]
قاسم: [مع نفسه] إنها نفس تلك العزلة المزمنة التي تنتاب طيور الحقول في رحاب صباح ممطر.. الشروع بالفكرة اللامعتادة، الهروب من الأيام العجاف، بصحبة عروس الليل المتكئة على وعكة الصدفة، تلك التي لم يريحها النسيان.. [يطيل النظر بوجه تموز، ثم] وأنتِ يا تموزتي، هل تعلمينَ بأن لاشيء يغريني فيكِ، لا ابتهاج البسطاء، ولا الأعناق التي قطعت، ولا حتى هذه النفوس التي تبعثرت في أركان المعمورة، فرحة اليوم لشيخوختي وأنا في هذا المكان المجهول.. نعم أنا شيخوخة الهلال الذي يؤدي تحية الفجر كلما دنت الذكرى، وذاكرتي التي أخذت اليوم أشكال نجوم تطفو في أفواه المزارعين البدو والقبليين، أو في عقول أولئك الذين لم يفعلوا شيء يذكر غير الإدمان في المبالغة والتباهي بأرضكِ يا تموزتي.. أرضكِ التي سوف لن تستقر أبداً لأنها ستسقى دوما بدم الأبرياء [صمت]
تموز: [تهز يدها وكأن حديث قاسم لم يرق لها]
قاسم: والآن.. من أنا.. ومن سأكون؟ هل حقاً ما يقال عني وعن الهلال الخصيب؟ ربما أنا مثل بحار أهمل قاربه على ساحل العذابات، وأخذ يستحم بتناقض الحضارات وقلق المدن العصرية.. يحتمل بأن تكون أمنيتي مثل مدينة عرجاء، لا يسكنها غير الغربان والغرباء، وذكراكِ يا تموزتي شبيهة بأمسيات مريضة هاربة مثل قلبي في أروقة ضيقة، لا تشرق عليها سوى شفاه مجلودة بالاحتجاج وبطون جائعة وعقول موشومة بالوشاية والاحتيال.. وداعاً إذن يا حياة، فأني سأسكن التراب والحجارة، وداعاً يا تموزتي.. يكفي تدحرج الرؤوس في الساحات، وداعاً يا هذي.. ولو أنكِ كنتِ جميلة فضفاضة ومتداعية، وكاذبةً.. وداعاً سوف لن أراكِ بعد الآن، لأن عذاباتي حررتني من الخرافات والجنان والآخرة.. سأترك لمن يريد لون صباحاتكِ ورائحة لحظاتكِ، سأترك له النهارات ومشاغلها، الحقيقة ودهاليزها، وحتى صدق المضحين المجهولين، وسأترك لكِ يا تموزتي ليالي العمر سارحة فوق مصائب رجالكِ المسكونين بالنواح والنحيب واللطم.. وداعاً يا شعلة الاستفحال والنور والانطفاء.
تموز: البعث، الدكتاتورية، الحروب، الحصار، واليوم quot;القاعديينquot; والعربان القتلة، ومن جديد البعثيين والسلفيين والمحتلين والخونة [صمت]
قاسم: ألم يعد هناك أحد ينتظرني بعد؟ لقد غدروا بكل شيء، حتى بذكراي، أليس كذلك؟
تموز: لقد التهم الشيء كل الأشياء! ومن كنت تدافع عنهم قد غدروا حتى بالهواء، وشردوا الأطياف! وأنا اليوم خائفة منهم.. أنظر [تفتح صدرها، ليرى قلبها ممزق بـ 63 طعنة مسمومة] تلاحظ لقد ضحكوا على ذقون الجميع وخذلوا تاريخ الضحية!
قاسم: هذا يعني!.. أن دموع الناس المقهورة بعد 8 شباط لم تعد تنفع بشيء؟ ولم يكن هناك قصاص ومحاسبة، لقد رحل كل شيء.. حتى العزاء!
تموز: نعم.. حتى النار
قاسم: حتى الموت؟
تموز: إلا الذاكرة
قاسم: في يوم من الأيام خرجت لشراء بعض من ضوء القمر للأولاد الحفاة، المصطفين أمام مداخل مخابز رغيف quot;أبو العانةquot;، إلا أني تهت الطريق.
تموز: بالتأكيد، فبين طريق الصد مارد، والطريق المؤدي إلى الروح، لا شيء غير الضياع.
قاسم: هل رأيتِ ما جرى ليّ، وهل تعرفين من هم هؤلاء الملثمين، الذين يطلقون النار على الزمن ويقتادون من يريدون من الناس للذبح؟
تموز: هم جزارو 8 شباط ومازالوا يعبثون بالأرض فساداً، لقد مزقوا بكارة الوطن باسم وحدتهم، واغتصبوا نساءنا باسم حريتهم وسرقوا جميع الناس باسم اشتراكيتهم.
قاسم: لماذا يا تموزتي؟
تموز: لأن أفكارهم محشوة بالنفاق والغدر، وقد بنو تاريخهم وربوا أجيالهم على الخديعة والاحتيال والاغتيال والسرقة.
قاسم: في يوم مبلل من أيام الخريف، بين ضلوعكِ يا تموزتي، قديماً، حدث أن ولد من جراح بابل شاب.. حين ذاك، كانت بابل تقبع وسط حوض من الأسماك، في كف صبي لا يملك من المعرفة غير الصحو مبكراً لمساعدة ضنى أفئدة المحتاجين.. وبين الحين والأخر، كان يستحم مع نجوم تأريخك التي زينت لفترة طويلة طريق حياته.. ترعرع هذا الشاب بين دروب أسواق الأسماك العفنة التي كانت تفوح من فمكِ وجسدكِ وروحكِ.. لم تمض ليلة إلا وتغنى بسمائك.. كان بعد نوم الفرسان والحراس والجبناء، يحمل الأمل في جيوبه مثل قمر وجده صدفة باكياً طريداً في خرائبكِ.. جال وصال مع هذا القمر الذي لم يفارقه أين ما حل، في ضيق الشوارع والمحلات القديمة والصرائف. لقد كان سعادة المساكين وتعاسة للنصابين، لكنه كان مسامحاً مع الغادرين.. كان هو الأب والمعبد الشاهق لجميع الفقراء.. لكن، ماذا بقي اليوم لمؤاساة كهولته يا تموزتي؟ ربما أمنية، أن يورق مثل نخلة من خراب الحروب، ومن عظام المجهولين في المقابر الجماعية، أو من رمال الصحراء، فهو الزائر المنتظر لهذه الناس المترعة بالحداد، وهو الضيف الودود في منفى الأصحاب النبلاء، وهو الوعد والوجد.. ربما هو أنا؟ أو ربما هو حفيد ما؟ يكون هو الملاح والفلاح والعامل والإنسان الذي سيصرخ بالأموات والغافين، كي يخرجوا من قبورهم وسباتهم ويتمردوا على الطغاة.. أعرف جيداً يا تموزتي كيف تكون ملامح الفدية، ولون فؤاد المطارد، وأعرف الجلاد والخبيث، وأعرف من سيخلدكِ، ومن سيهتز عوده، ومن ستتمرغ روحه بالطين لحكايتكِ، وحكاية تاريخ وطن وقح وعنيد، وطن لا يعرف اليوم لغة غير التخاذل، ولا يتباهى شعرائه ورجاله إلا بالمأساة، وآباءه بالخطيئة والكذب.. وطن تتباهى أجياله بتاريخه القديم لأنها لا تملك اليوم أي تاريخ حديث.
تموز: أنا الذكرى التي تعالج المظلوم، متوقدة سأبقى رغم الخونة والبعثيين ورغم الدمار، مني يبدأ تاريخكَ، وبعدكَ يبدأ تاريخي يا قاسم!
قاسم: نعم يا حبيبة روحي.. أنتِ الباقية يا تموزتي رغم القتلة والسفاحين، وأنت الخالدة والتاريخ المنير لهذا الوطن التعيس.. فيا 14 تموز، يا أحلى الأرقام والأسماء، بعد أن تتركيني أجالس عزلتي وموتي، أخبريهم، قولي لكل من لا يعرف ما سيفعله في عامك الـقادم.. أن يوقد النار ويشعل الشموع ويغني لذكرايّ، وهذا أبسط أيمان الضعفاء والمشلولين والجبناء.. [يبكيان معا]!

صلاح الحمداني