توقفت منذ زمن عن الكتابة في الشأن السياسي بالرغم من الحاح الصديق اسماعيل الزاير رئيس تحرير الصباح الجدبد ان اواصل كتابة زاويتي (قريب بعيد )، وكان اخر ما كتبت في هذا المضمار حول اهمية الثقافة المعرفية لمن يمارس السياسة وخاصة في اوضاع العراق المعقدة والمتشابكة.. توقفت لاعتقادي ان لا جدوى، فمن تخاطب ومن يقرأ، ومن يرى ابعد مما يحيط به، فالكل منكفئ على ما حازه من مال او جاه او منصب او حراس او ازلام!! وصار فايروس الفساد الفكري او الاداري او المالي او الامني منتشرا حتى بين من كانوا يحملون رايات الاصلاح الوطني ويزعمون انهم ما جاءوا الا لنصرة الشعب واعلاء شأن الوطن، فوجدنا معظمهم يكررون كلاما وطروحات ربما مختلفة المفردات والصياغة ولكنها متشابهة المضمون هدفها الظاهر هو التخدير والتاجيل وربما خداع الناس بوعود وتباشير بتجمعات وكتل جديدة وتحالفات ستنقذ البلاد والعباد ـ ثم يكتشف الناس ان الهدف الظاهر هو مجرد الاعلان اننا ما زلنا هنا ولنا دورنا في ما يجري في الساحة السياسية العراقية، فانتظرونا ولا تنسوني او لا تنسونا!!


ما اثار شجني كي اعود فاكتب على حافة الشأن السياسي تلك الاستغاثة التي اطلقها المفكر العراقي البعيد عن الوطن عبد الاله الصايغ يعلن فيها ندمه على فرحه (الساذج ) بسقوط النظام السابق! ندمه ورفاقه على دفاعهم (المغفل ) اول وهلة عن الحكام الجدد، ظناً ان الخير سيكون للعراقيين جميعا وليس لافراد اهلهم انتمائهم الحزبي او الطائفي!


ويقول الصايغ ( ومسوغ ندمي ان هؤلاء المعارضين الذين ازاحوا صدام حسين عن كرسيه ليجلسوا مكانه خدعونا بتقواهم المفتعلة وزهدهم المرائي وشرفهم الشغافي ففرحنا معشر العراقيين البسطاء رغم كم هائل من التجارب والخيبات! فرحنا وقلنا من سذاجتنا للغربة والفاقة والتهميش وداعا والى الابد! فقد جاء زمن العراقيين كل العراقيين )


هذا كلام موجع، يعبر عما يجول في وجدان ملايين العراقيين في الداخل والخارج.. انها خيبة الامل الكبرى.. الوجع الاعظم... المحنة.. سببها هولاء السياسيون السائدون الان في وطننا الذين يتحدث عنهم الصائغ، هؤلاء الذين يجلسون في البرلمان وفي الوزارات وفي قيادات الكتل السياسية ويعتقدون انهم سياسيون وقياديون ووطنيون مهمون ماهرون واذكياء، فيطلق كل منهم ndash; معمما او افندي - او منهن ndash; سافرات او محجبات - تصريحات ووجهات نظر يطربون لها كمن يغني في الحمام!!


قبل سنتين كتب المفكر السياسي د. شاكر النابلسي الاستاذ في جامعة واشنطون يقول اننا نسمع عن دورات لتدريب الشرطة العراقية والجيش والاعلاميين ورجال القضاء وموظفي البنوك والضرائب والبلديات وغيرهم ولكننا لا نسمع عن دورات لتدريب من هم بامس الحاجة للتدريب : السياسيين العراقيين الحاليين، اذ ان معظمهم هم ابعد ما يكونون عن اصول العمل السياسي وادارة دفة البلاد نحو شاطئ الامان!!
يقول المثل اذا عرف السبب بطل العجب!!


والسبب يظهر عندما نتفحص كيفية وصول من وصل الى الصدارة السياسية في العراق، بعضهم عن جدارة ؛ نعم.. وهم قلة! ولكن الاكثرية، بغض النظر عما يضمرون من وطنية واخلاص، وصلوا عن طريق ليس له علاقة بالمهنية والكفائة، ولا بمدلول الحديث الشريف الذي يؤكد على اهمية الاستعانة باصلح الرجال لانجاز الاعمال!!


يستخدم اهل الشام كلمة ( نَطوَطة ) للتعريف بتصرفات الشخص الذي يتجاوز حدوده ويدعي ما ليس عنده او يتدخل بما لا يحق له او يتظاهر بالمعرفة في خفايا الامور، او يقدم على ما لا يقدر عليه فيقولون فلان يتنطوط، والكلمة مأخوذة من الفعل quot; نط، ينط quot; اي قفز في الهواء، والذي يقفز في الهواء يبدو اطول من حقيقته، ولكنه لن يبقى معلقا بالهواء وسيعود حتما الى الارض فيظهر من جديد على طوله الحقيقى، يعود الى حجمه الطبيعي ووزنه الحقيقي.!!


والنَطوَطة قديمة في البشر... يقوم بها المتظاهرون بما ليس عندهم، والمانحون انفسهم صفات ليست فيهم والسارقون ادوار غيرهم!! وهي تزداد عندما تهتز القيم وتنعدم المعايير وتتاشبك العلاقات ويكتنف المرجعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية الغموض، فيكثر المتنطوطون، وترتفع درجات المزاودات وتطفو النطوطة على السطح الى حد التخمة!!


لقد انتشر عندنا بشكل مذهل فايروس النطوطة، وكثر المصابون به في جميع المجالات واصبح بلا ملح!!! فتكاثر المتنطوطون في مجالات السياسة حيث ظهر زعماء وقادة سياسيون صنعوا من انفسهم زعماء ومفكرين وقادة مجتمع دون سلوك مقنع، ولم تقتصر ظاهرة المتنطوطين على بعض من جاءوا من الخارج بل برز وابدع فيها ايضا اشخاص من الداخل - لم نعرف للكثيرين منهم اي ماض سياسي يزكيهم - يتنافسون على احتلال المقاعد الاولى ويطلقون التصريحات والاراء ويتخذون المواقف ويتحزبون ويرفضون ويوافقون.. وكلها جعجة بلا طحن، فالعباد تحصد الريح بعد كل تصريح!!
وتعددت فئات المتنطوطين، فمنهم من يتمختر في مجالات الاعلام المكتوب والمرئي يظهرون على شاشات التلفزيون بصفة محللين سياسيين وخبراء استراتيجين يصفطون الكلام! وهنالك فئة اخرى هي من نوع المتنطوطين المنشقين ولا يقتصر وجودهم على الاحزاب والكتل السياسية والتحالفات فقط بل هم موجودون حتى في الانشطة المسلحة والعنف والخطف والمليشيات!!


ان ظاهرة فايروس النطوطة الان كحركة في المجتمع العراقي تستحق ان نستحدث لها اسمها العلمي اللائق قياسا على السياقات وهو Natoatism = النطوطيزم!

فيصل الياسري