مرت يوم أمس الذكرى السنوية الحادية والعشرون لأول ضربة كيمياوية لمناطق كردستان، وتحديدا لقريتي ( باليسان وشيخ وسانان ) في السادس عشر من نيسان عام 1987، وسبقتها الذكرى العشرون لقصف مدينة حلبجة بنفس الأسلحة الكيمياوية. ولكن في العنوان إحتلت ضربة حلبجة صدارة الإعلام العالمي لضخامة حجم خسائرها البشرية، وتداعيات تلك الضربة ببقاء تأثير الغازات السامة في أجساد الكثيرين من الضحايا لحد يومنا هذا. ولم يكن عدد الضحايا في القريتين الكرديتين بقليلة مقارنة بضحايا حلبجة، حيث أنه ساوى نفس العدد لو أخذنا بنظر الإعتبار الكثافة السكانية في المنطقتين..
وما زالت ذاكرتي المثقلة بالكثير من هموم هذا الشعب الذي فقد بتصوري طعم الحرية التي نالها بتضحيات جسام تفوق تصورات البشر، تختزن صور ومشاهد حية لأجواء مدن كردستان التي وصلها الخبر المفزع لأول مرة في تاريخ الشعب الكردي. حيث كان النظام البربري لصدام حسين قد أصدر أوامره الى مستشفيات المدن الكردستانية، بعدم تقديم أية علاجات للجرحى والمصابين. وأعتقد أنه كان يريد بذلك إختبار آثار تلك الغازات المميتة على أجساد الضحايا لتطوير أسلحته الكيمياوية بما يقضي على أكبر عدد ممكن من السكان، لذلك كانت ضربة حلبجة أكثر دموية وإيلاما..
سمعت حينها أن الكثير من عوائل أربيل والسليمانية إستضافت الجرحى والعوائل المشردة، سرا في بيوتها، وقدمت ما تيسر لديها لمعالجة الضحايا، وكان معظمهم يعانون من إختلالات في العيون ومن آثار الحروق جراء تعرضهم للغازات أو إستنشاقهم لها.
ويروى أن أحد أغنياء مدينة أربيل تبرع بحمولة شاحنة من المواد الغذائية للعوائل الشاردة، بالإضافة الى حمولة شاحنة أخرى من المهود لأطفال العوائل التي تدفقت الى المجمعات السكنية حول أطراف المدينة..
وأنا أتفحص وجوه المسؤولين الذين حضروا مراسيم الذكرى يوم أمس وهم ينظرون الى لوحة فنية تعبر عن المأساة التي حلت بالقريتين،وأرى معظمها واجمة متأثرة، وهم يتابعون أطفال القريتين الذين يستعرضون آلام ومعاناة الشعب في تلك الأثناء، وتكاد الدموع تنزل من عيون بعض المتفرجين، كم وددت وتمنيت مع نفسي أن تعرض مثل هذه المشاهد التعبيرية صباح مساء على المسؤولين الذين يمسكون بالسلطة الحالية في كردستان، يفتتحوا بها صباحاتهم ويختتمون بها مساءاتهم، عسى ولعل أن يعتبروا بتلك المآسي ويعرفوا الجروح الغائرة التي لا تندمل من جسد هذا الشعب الذي ناضل سنين طويلة ضد أبشع دكتاتوريات الأرض لنيل حريته..
فعرض مثل هذه الصور التراجيدية أمام أصحاب النعم والكروش التي إنتفخت على حساب معاناة هذا الشعب، ضرورية جدا، لكي يراجع القادة مواقفهم تجاه الشعب المسكين، ويعيدوا البهاء والصفاء الى كردستان، ويستعيدوا قيم النضال النقية للحركة التحررية الكردية، حتى لا تخنق أصوات الموسيقى الصاخبة في الملاهي والنوادي الليلية العامرة بأصحاب الكروش البارزة، أصوات اليتامى والثكالى من أبناء هذا الشعب، ولكي يستمع القادة بوضوح الى صوت الطفلة التي صرخت من بين دخان الغازات الكيماوية مستنجدة بأب قضى قبلها خنقا بغازات صدام وإبن عمه الكيمياوي علي..
من يستعيد تلك الصور الفظيعة المليئة بالدموع المختلطة بدماء أشلاء الضحايا، لا بد أن يهتز ضميره لهول الكارثة التي حلت بهذا الشعب، وكم سعدت وأنا أسمع السيد مسعود بارزاني وهو يعد ضحايا باليسان وشيخ وسانان بالقصاص ليس من الأيادي الملطخة بدماء الأبرياء من سكان القريتين وبقية قرى كردستان، بل من جميع الدول والشركات التي زودت النظام الفاشي السابق بتكنولوجيا الأسلحة الكيمياوية.. وأخيرا أصبح الصوت الكردي صادحا في المحافل الدولية بعد أن كاد صدام حسين أن يخنقه بغازاته الكيمياوية.
وكم كنت سأسعد لو إستحثت دموع الضحايا قيادتنا الكردستانية، للبدء بإعادة صلتها بالشعب، ومشاركته همومه وآلامه في هذه الأيام الكالحة، حيث الفساد والجوع والحرمان تنهش بمجملها جسد هذا الشعب.
فنحن الجيل السابق والأجيال التي سبقتنا لم نناضل لكي تتنعم شرذمة صغيرة أو حفنة من الفاسدين بخيرات الحرية التي دفعنا من أجلها أنهارا من الدماء، ولم نلوذ بالجبال تاركين الحبيب والعزيز لكي يتلاعب بعض المفسدين بمصير ومقدرات هذا الشعب الذي هو المرجع والأساس لكل حركة تحررية سليمة وصحيحة.
كم كنت أسعد لو أن قياداتنا الحالية إستذكرت جسامة التضحيات التي قدمها أبناء هذا الشعب، منهم من كان يعاقب بالإعدام لمجرد إستماعه الى شريط يحوي نشيدا وطنيا،أو يقتل لمجرد الشبهة بولائه للسلطة البعثية، فكم من الألسن قطعت لأنها نالت من رموز النظام السابق، وكم من الرؤوس أجتزت بسبب الإنتماء الى التنظيمات السرية للأحزاب الكردستانية المعارضة للنظام، وكم من الأعراض أنتهكت لعائلات البيشمركة اللائذين بجبال كردستان..
تلك التضحيات التي تفوق التصورات، وتلك الدماء الغزيرة التي أسيلت من جسد هذا الشعب الكريم، هي باهضة الثمن، فهل ستقدرها القيادات الكردية حق قدرها، وترد الدين الذي في عنقها لهذا الشعب، وهذا أقصى ما نتمناه؟؟؟!
نترك الجواب للوجوه الواجمة التي كانت تتفرج على لوحة إبنة قرية باليسان...
شيرزاد شيخاني
التعليقات