(1 من 2)
في مقابلة له، نشرت بالعربية الفصحى على جريدة الشرق الأوسط، قبل أيام، لم يتردد السيد نيتشيروان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كُردستان، من إطلاق وصف جماعي على الأكراد.
بارزاني عمّم النعت، واعتبر الشعب الكُردي كسولاً!
في الواقع يُعتبر التعميم ضد الموضوعية، وعليه فإن إطلاق أوصاف جماعية ونعوت عامة على الشعوب والجماعات، يدخل في باب العفوية التي يفرزها الجهل العام.
فقائل الكلام من هذا القبيل والوصف، يثبت أنه لم يختبر حظاً وفيراً في الثقافة. وهو كذلك محاط بمستشارين جاهلين، أرفع ثقافاتهم لا يتعدى طقوم أزيائهم الرسمية، وعلاقاتهم المتينة مع المغنيات والفتيات الصاعدات، اللواتي يخدمن في مجالات (الإعلام والفن) الحزبي!
قد يُحال أي رئيس وزراء في أي دولة في العالم، على إطلاق هكذا عبارة جارحة بحق شعبه إلى المحاكم، وحتى على الإستقالة.
يبلغ تعداد الشعب الكُردي حوالي خمسة أو ستة ملايين نسمة في إقليم كُردستان. فهل يا ترى يصح تجريح كلّ هذه الملايين، ووصفهم بلون واحد ومظلم؟!
كان على السيد نيتشيروان بارزاني التفكير مليّاً، قبل أن تملي عليه عفوية مشفوعة بتهريج الذين يحيطون به، ويزودونه بالكثير من التضليل والدجل والأكاذيب. هؤلاء مثل صويحبات زُليخا، يزيّنون الإثم، ويدفعون الإنسان نحو الشهوة فالهلاك!
هؤلاء لا يبالون بمستقبل من يعملون تحت إمرته. فهم عارفون، أن المشطة غداً إذا كسرت ـ وفق المثل الكُردي ـ فإنها تُكسر في شعر نيتشيرفان، إحالةً على ماحدث ويحدث للزعماء والقادة، حين تُقلب العروش والكراسي، وآخرهم صدام حسين وأولاده، وحاشيته كمثلٍ طازج في أذهان الجميع.
لذلك فإن غاية آمال هذه الثلّة الجاهلة، هي التمتع بالقصور والسيارات والأموال والفتيات، والرفاه وما على، والجشع وما دنى.
كنت أكتب هذا المقال حين طلع (وَين سوان) أمين خزينة أستراليا، من على شاشة التلفزيون، متكلماً في البرلمان، يخاطب بطلاقة. وقال ضمن ما قال: (هذه الميزانية ليست أموالنا لكي نصرفها لصالح حزبنا، إنها أموال الأستراليين، نريد أن نبني بها إقتصاداً حديثاً قويّاً. نريد أن نفكر في المستقبل ونبنيه، لذلك فإن حكومتنا هي حكومة بناة الوطن، وبناة المستقبل...). لمن أراد قراءة الخطاب، يستطيع الإطلاع على صفحة البرلمان الأسترالي عبر الإنترنيت.
السيد نيتشيروان بارزاني معذور، لأن الكلام المذكور ليس له. فهو ينقل ما يُقال له. والذين يفكرون له من الحاشية، هم أناسٌ يتغذون الجهل، وينتجون الجهل يوميّاً، ودونك في كُردستان ألف دليلٍ ودليل.
ولكن لندع كلّ ذلك ونحمل كلام الرجل محمل الجدّ، وهو بالطبع يتحمل مسئوليته. فما ينطقه رئيس الوزراء لوسائل الإعلام، يُحسب موقفاً رسمياً.
يجب أن نوجه الكلام إليه شخصياً، باعتباره عضواً في المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكُردستاني، الذي تأسس عام 1945.
هل يستطيع سيادتكم، تسمية مجرد مفكرٍ واحد داخل حزبكم؟!
إذا كان حزبك ذي نيف وستون عاماً عاجزاً عن إعطاء مفكرٍ واحد، فيبدو جليّاً من هو الكسول، الشعب الكُردي أم الحزب وقيادته؟!
ولكن السؤال الحقيقي والأخطر: من أين يستمد هذا الحزب سياساته وتصوراته، إذا كان لا يملك مفكرين وعلماء، من ذوي الإختصاصات؟!
بالطبع الجواب عندنا واضحٌ جداً، أن البنية التكوينية للحزب مؤسَّسة على بنيان العشيرة وتصوراتها للوجود والحياة. ومن جوفها يغرف الحزبي والتابع ما يقع فوق مائدة الحديث، من إرتجالٍ وعفو، يُعيد بثهما نحو الشعب (سياسةً) و (فكراً) لا يقبلان الخضوع للتجربة والإمتحان!
لنضع النقاط فوق الحروف، حتى يطمئن السيد بارزاني أن كلامه خطأ موضوعي، قبل ان يكون خطئاً سياسياً.
قبل عام 1991 كان هناك في مدينة أربيل الكثير من المعامل الإنتاجية، مثل معمل النسيج، الذي كان يحتضن ما لايقلّ عن ألف عامل وموظف. معمل السجاد اليدوي وكان يعمل فيه أكثر من خمسمائة عامل وموظف. معمل الدخان، معمل الألبان، معمل النجارة، معمل الخشب ومعامل الحديد، وعشرات المعامل الأخرى التي كان الآلاف من عمال الكُرد يخدمون فيها.
هل يستطيع رئيس الوزراء أن يخبرنا، ماذا حدث لهذه المعامل، لا سيما معمل السجاد والنسيج والدخان؟!
ماذا عن سد بيخمه، الذي يكلّف بناؤه من جديد مبلغاً خيالياً، قد يكون المليارات من الدولارات؟!
أين أخذت معدات ومكائن وآلات وأدوات، مثل البلدوزرات والكريدرات والألمنيوم والحديد، والمعادن الأخرى؟!
لا شك، وكما يعلم جميع الأكراد، أن أجهزة الحزب الديموقراطي الكُردستاني والإتحاد الوطني الكُردستاني، قامت بتهريب وبيع هذه الأشياء إلى إيران وتركيا، بطرق غير قانونية، أمدت قيادة ومسئولي الحزبين بالملايين من الدولارات!
عُطّلت المعامل والشركات، بل ونُهبت، ولم يفكر أحدٌ بواقع ومستقبل الآلاف من العوائل التي كانت تعيش على إنتاج تلك المعامل والآلات.
ومن ثمّ فرض حزبكم الموّقر، والإتحاد الوطني الكُردستاني حرباً إستمرت سنين طويلة تحولت فيها حياة الشعب الكُردي إلى جحيم. أحرقت المزارع وشرّدت ألوف العوائل، وشلّت التجارة، ودمّرت البنى الإنتاجية والحيوية في إقليم كُردستان.
بالرغم من ذلك لم يتكاسل الأكراد، فهرعوا مسرعين نحو دول الجوار، ومن ثم إلى دول الغرب يعملون ليل نهار من أجل إعالة عوائلهم، عن طريق تحويل العملة الصعبة!
الآلاف من الشباب واجهوا الموت، ومنهم من قضوا نحبهم في المناطق الحدودية الخطرة، وبحار الدول الأبعد. وهناك مقبرة كبيرة قرب بحر إيجة تحتوي على مئات الشواهد لقبور شباب الشعب الكُردي، من الذين خذلهم الحظ في بلوغ المنى، فرقدوا حزنى في الظلمات بين اليابسة والمياه، فيما أعينهم المغمضة تبعث رسائل الخجل والإعتذار لذويهم!
إنتعش الإقليم قليلاً بأولئك الشباب، الذين وصلوا بلاد الغرب، ومدّوا أهاليهم بالأموال والعيش، بينما كان حزبكم والإتحاد الوطني، يخربان كُردستان ويقتلان بشرها، ويحرقان خضرتها ويهلكان نسلها، ويجرّان جيوش العدى إليها وعليها!!
إلى ذلك قام الأكراد المهاجرون، يبنون أنفسهم ثقافياً وعلمياً، كلّ قدر المستطاع.
وفي غضون زيارتي إلى كُردستان وإقامتي فيها لما يقارب عام، قرأت في الصحف الكُردية مشاريع كثيرة تقدم بها شباب كُرد، من المقيمين في الغرب، إلى حكومة إقليم كُردستان لكنها لم تصغ أذناً لذلك.
أحدهم صرّح خائباً في مقابلة مع جريدة (ميديا) الأسبوعية، أنه أراد تأسيس شبكة الطاقة الشمسية في كُردستان، عبر جهوده الكثيرة لأكثر من خمسة أعوام، مع كبرى الشركات العالمية في هذا المضمار. لكن طلبه وضِع تحت طاولات خرساء!
قمت شخصياً بتحضير مشروع فكري، نال إعجاب من أطلعوا عليه، ومن ضمنهم وزير الثقافة السيد فلك الدين كاكائي.
قدمت المشروع إلى ما يُسمّى بـ (وزارة الثقافة). وقدمت المشروع إلى رئاسة الوزراء لدى مستشار رئيس الوزراء مرّة، ومسئول مكتبه مرّة أخرى.
المشروع لم يتلق جواباً، ورمي في أقرب سلّة مهملات، وربما حتى دون معرفة محتواه!!
الغريب إنني، وآخرون من أصحاب الطروحات والمشاريع، كنا دوما نلقى جواباً مشابهاً: السيد الوزير مشغول، السيد رئيس الوزراء مشغول جداً، والسيد...
إذن من هو الكسول، الشعب الكُردي، أم هذه السلطة التي لا همّ لها سوى الرفاه والشهوة لأفراد قلائل؟!
في الوقت الذي كنت مشغولاً لأيام بإعداد المشروع، والترداد على مكاتب وزارة الثقافة ورئاسة الوزراء، ورئاسة الإقليم لمدة ثلاثة أشهر، في حرّ صيف أربيل، قرأت أخباراً أخرى في صحف كُردستان، وأكدها لي رجالٌ تابعون للسلطة الكُردية، قد تلطف قليلاً الأجواء إذا عرجنا عليها!
بمناسبة رأس السنة الميلاديّة قامت (وزارة الثقافة) بإستضافة مغنية كُردية في أوروبا لإقامة الحفلات، وقدّمت إليها أربعون ألف دولار!!
زارت المغنية، مؤسسة آراس (وهي تابعة مباشرة لرئيس الوزراء) وحصلت على ثلاثة آلاف دولار لقاء حفلة صغيرة، ولمدة ساعة واحدة فقط!
إستقبل رئيس الوزراء المغنية تلك، وقدّم إليها مبلغاً ثميناً لم يُكشف عنه!
مغنيات أخَرْ نلن شرف لقاء أصحاب السيادة والمعالي في الفترة نفسها، وحصلن على مبالغ خيالية من ميزانية الشعب الكُردي!!
مغزى الحديث في ذكر ذلك، أن الوزراء والرؤساء في كُردستان ليسوا مشغولين إلى هذه الدرجة، التي تمنعهم من البت في مشاريع مهمّة وحيويّة!
كُردستان فرغت من كل حيويّة وطاقة ووسيلة، فمن أين للأكراد نيل العمل والتفرغ للإنتاج، في ظل سلطة لم تفكر أبداً في تشغيلهم وتحويلهم إلى أيدٍ عاملة؟!
نعم وفي منافسة وحرب دموية وهابطة، قام الحزبان الحاكمان بتقسيم الشعب الكُردي وتحويله بالكامل إلى شرائح مسلّحة، وجواسيس، وعملاء، ومخبرين لدى الحزب لتكثير السواد وتوسيع التخوم!
الحديث عن (تكاسل) الشعب الكُردي، يأتي في معرض إنتشار وتفاقم شكاوى الشعب، وتذمره ويأسه من هذه السلطة الفاشلة.
ولو كان الأكراد مثل العشيرة، والحزب، والمغنيات يحصلون على الأموال الطائلة من الجمارك والميزانية، بطريقة (إنا أنزلناه في ليلة...)، لما اشتكوا، ولما رفعوا عقيرتهم سائلين العيش والضرورات من الحياة.
الكسول ليس الشعب الكُردي الذي يصارع البقاء في مواجهة شرسة.
قد يفيد أن نذكر سيادة رئيس الوزراء أن عائلتين من شعبه (الكسول) قضتا نحبيهما برداً في الشتاء الماضي. حدّث ولا حرج عن القهر والفقر والحزن والجوع بين غالبية الشعب الكُردي!! لو عرفنا السبب لبطل العجب!
الكسول هو من يملك حزباً كبيراً، وله عمر مديد، ويعمل في شبكة معقدة من القضايا والأحداث بينما لا يملك مجرد مفكراً واحداً!!!
الكسول هو نظام حكمٍ يملك ثلاثة وأربعين وزيراً، فيما هم عاجزون عن تقديم أبسط خدمة لشعبهم الذي ثار وانتفض بإستمرار (وهو ما يعني أنه غير كسول)!!
الحديث يطول ولكن ما قلناه يكفي للردّ على إتهام الأكراد بالكسل والخمول!
زدنا حِكَمَاً بارك الله، نتحفك حقائق!
علي سيريني
التعليقات