أثناء العهد الصدامي كان إعلام المعارضة العراقية يلتقط نتفا من المعلومات عن ممارسات هذا النظام الدكتاتوري، فبرغم أن الدولة المخابراتية التي أسسها صدام حسين كانت تحكم قبضتها على جميع مرافق ومؤسسات الحكومة، والسيف مسلط على رقاب كل من يحاول تسريب واقعة أو حادثة إجرامية يقترفها النظام الفاشي، ولكن ذلك لم يمنع من وصول بعض المعلومات القليلة عن جرائم صدام بحق العراق والعراقيين والقوى السياسية الى أحزاب المعارضة، وكنا نسعى جاهدين لنشرها بهدف فضح السياسات القمعية لهذا النظام.. والمشكلة أن الآلة الدعائية للنظام كانت أقوى من صوت المعارضة المخنوق، وكانت أكثر سطوة فتتفوق علينا غالبا في المحافل الدولية، فبالكاد كانت هناك أطراف أو دول تسترق السمع الى إعلام المعارضة، أو حتى تصدق بمعلوماتها،ولعل أبلغ دليل على ذلك، الجريمة الوحشية التي إقترفها صدام حسين ضد سكان مدينة حلبجة الكردية بقصفها بالأسلحة والغازات الكيمياوية، فبرغم إنكشاف جميع خيوط تلك الجريمة الهمجية ضد السكان المدنيين، فما زال هناك من يبريء هذا النظام من الجريمة، ويشكك بمصداقية الأكراد وبدلائلهم الدامغة بوقوع الجريمة، ويتهمون إيران بإرتكابها، مع أنه لولا الكاميرات الإيرانية التي وثقت تلك الجريمة لما كان بالإمكان أن يطلع ثم يصدق العالم بوقوع تلك الجريمة الشنعاء!.


واليوم وفي ظل الأجواء المفتوحة وهذا الكم الهائل من الفضائيات التي تتسابق فيما بينها لكشف المستور وما خفي من ممارسات الأنظمة القمعية، بدأت الكثير من الخيوط السرية للكثير من جرائم تلك الأنظمة الإستبدادية تتكشف.
في سنوات المعارضة التي كنت أعمل خلالها في الإعلام المعارض على إمتداد 22 سنة، كنا نتلقى بعض المعلومات المبتسرة عن ممارسات وجرائم النظام الصدامي، فنحاول جهد الإمكان إيصال تلك المعلومات الى الخارج والداخل من خلال تسريب صحفنا الى الداخل، أو توزيعها في أضيق نطاق بالدول العربية، أو في بعض المرات بإذاعتها عبر إذاعات الثورة الكردية التي كان بثها ضعيفا جدا، مما كان يفقد الكثير من جهودنا لفضح جرائم ذلك النظام، فطغى الإعلام الصدامي الصادح على الصوت المعارضي الخافت طيلة السنوات التي سبقت سقوطه.

منذ أسابيع وأنا أتابع بشغف حلقات من برنامج ( شاهد على العصر) الذي كرس عددا من حلقاته للسيد حامد الجبوري القيادي البعثي السابق والوزير لعدة حقائب وزارية في عهد البعث بما فيها العهد الصدامي..
ورغم أنني قررت منذ زمن ليس ببعيد مقاطعة هذه القناة بعد أن تكشفت أوراقها والدور المشبوه التي تقوم به من خلال لغتها وخطابها الإعلامي المناهض للتغيير الهائل الذي حدث في العراق، والتي وصلت في بعض الإحيان الى حد السخافة والسماجة والإمعان في الحقد على كل العراق، والحنو لإيام صدام، بل والبكاء عليه سواء أثناء سقوط نظامه أو أثناء إعدامه، ولكن بما أن تلك الحلقات كانت تتحدث عن فترة زمنية مهمة من تاريخ العراق عايشتها بنفسي واعيا، فقد شدتني تلك الحلقات الى شاشة الجزيرة التي حرصت على متابعتها أولا بأول..

ولكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أستمع الى هذا الرجل العظيم الذي أتذكر موقفه الجريء والشجاع في عام 1993 عندما سمعت من الإذاعات العالمية إعلان إنفصاله عن نظام البعث، وكان مبعث إندهاشي هو الصراحة والصدق الذي تكلم بهما هذا الرجل العظيم فاضحا دون حرج نظاما دكتاتوريا فاشيا كان هو منتميا إليه، فكانت شهادته على العصر الصدامي شهادة تاريخية بكل معنى الكلمة وثقت لمرحلة مرعبة من حياة العراقيين مع ذلك النظام، فإستحقت تلك الشهادة القيمة كل التقدير والإحترام، ونال بها صاحبها أرفع وسام في الوطنية والشهامة والعزة لأنه وضع الحقائق كاملة أمام التاريخ..

لقد بصم الجبوري بشهادته على العصر على كل الحقائق التي كانت المعارضة العراقية تتحدث عنها في سنوات نضالها ضد الدكتاتورية، في الوقت الذي كان الكثيرون في تلك السنوات يعتبرونها كذبا وخداعا للجماهير ومحاولة عقيمة من المعارضة العراقية لتشويه صورة النظام.
فلقد شهد شاهد من أهلها بكل تلك الحقائق التي كنا نتحدث عنها في إعلامنا المعارض.

يروي الجبوري في شهادته كيف أن النظام الفاشي يرسل عناصر مخابراته الى بيوت كبار ضباط الجيش ليغتصبوا زوجاتهم ثم يصورون العملية بالفيديو ليهددوا بها الضابط ويرغموه على الولاء للنظام خوفا من الفضيحة؟!.
وكان النظام الصدامي الذي إنفرد في تاريخ الأنظمة الدكتاتورية في العالم بهذا الأسلوب الإجرامي البشع لضمان ولاء الناس لنظامه، يفعل ذلك مع كبار ضباط جيشه، فتصور كيف كان يتعامل مع أعدائه في المعارضة؟؟؟!!!..


لدينا نحن الكرد العديد من الدلائل الموثقة ضمن 18 طنا من الوثائق الرسمية التي إستولت عليها الأحزاب الكردية في مؤسسات القمع الصدامية بكردستان أثناء إنتفاضة عام 1991، تبين بعضها كيف أن عناصر الأمن والمخابرات في المؤسسات الأمنية في المحافظات الكردية كانوا ينتهكون أعراض نسائنا، وخصوصا من عوائل البيشمركة والمنتمين الى صفوف المعارضة.. حتى أنني رأيت بأم عيني عندما سقطت مديرية أمن السليمانية في إنتفاضة آذار،كرفانة مركونة في أحدى زوايا دائرة الأمن المسمى في السليمانية بالأمن الأحمر، وفيها عشرات القطع من الملابس الداخلية لنسوة بينهن لفتيات في عمر الزهور؟؟!!.


وسمعت ووثقت شهادات الكثير من الضحايا في تلك الفترة عن فظائع يشيب لها الولدان من هول الجرائم التي إقترفها رجال الأمن الصدامي ضد نسوة كرديات، ولعل الجريمة البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية وهي جريمة بيع 18 فتاة كردية شابة من أسيرات عمليات الأنفال الى المخابرات المصرية في صفقة غير إنسانية لتشغيلهن في ملاهي مصر كغانيات وراقصات إمعانا من النظام الفاشي في الحقد على الشعب الكردي، ستتكشف خيوطها يوما ما بشهادة رجل شهم مثل الجبوري الذي لم يخف في قول الحق لومة لائم، فخلد نفسه بتوثيقه التاريخ الدموي لهذا النظام البشع الذي تسلط على رقاب العراقيين لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن الأسود.

إن صداما الذي كان أول رئيس عراقي يشنق، لاقى جزائه العادل عما إقترفته أياديه الملطخة بالدماء، ولعل جرائمه البشعة التي كشف عنها الجبوري في شهادته بحق رفاقه في الحزب وهم من خيرة رجالات العراق، مثل الشيخ الوقور عبدالعزيز البدري،والشهيد محمد باقر الصدر، والسياسي المثقف اللامع عبدالخالق السامرائي، والرجل النزيه فؤاد الركابي، وقيادات بعثية رافضة للتسلط الصدامي، مثل الرئيس الراحل أحمد حسن البكر وحردان عبدالغفار وصالح مهدي عماش ومرتضى الحديثى وعدنان الحمداني ومحمد عايش وعبدالكريم الشيخلي وغيرهم العديد من القيادات التي رفضت التسلط الدكتاتوري الصدامي فدفعوا الثمن من حياتهم، كل هؤلاء يتحمل صدام حسين مسؤولية إراقة دمائهم. ولعل القاريء العربي يلاحظ أنه حتى رجال العهد الحالي الذين كان معظمهم من قيادات ورجالات المعارضة لا يذكرون هؤلاء من قادة البعث بالسوء، فيما كل الجرائم تنسب اليوم الى طغمة مجرمة شاركت صدام حسين جرائمه البشعة، مثل علي الكيمياوي وبرزان ووطبان وسبعاوي والدوري والجزراوي وسعدون شاكر وحسين رشيد التكريتي وصابر الدوري، وهؤلاء كانوا من أعوان الدكتاتور الذين إختاروا طوعا المشاركة في جرائمه البشعة.


لا يظنن القاريء أن هذا المقال يهدف الى تبرئة ساحة البعث من جرائم طغمته الحاكمة، فالعراقيون يدركون جيدا أنه لولا هذا الحزب لما إرتقى صدام حسين سلم الدكتاتورية وحده، ولكن قدر العراق هو أن يذهب العقلاء والحكماء الى القبور وتبقى حفنة من أولاد الشوارع وسقط المتاع تتسلط على الأمور، فتمعن في الغي والطغيان حتى تسيل الدماء كالأنهار، ذاك هو القدر الذي نتمنى أن لا يكون أبديا في العراق.

شيرزاد شيخاني

[email protected]