كلما حاولنا إقناع أنفسنا بأن الوضع في العراق تغيـّر بالفعل، مقارنة ً بالعهد السابق، جاءتنا صدمات الأحداث والتطورات لتوقظنا من غفلتنا وضلالنا، وتـُذكـّرنا بأن الطاس والحمـّام لم يتغيـّرا، والذي تغيـّر فقط، هو من يمتطينا، كحمير ٍ مستغفـَلة!


من بين هذه الأحداث والتطورات إنشاء مطار النجف الأشرف، الذي لايمكن أن يعترض عليه معترض عاقل، ناهيك عن مسلم ٍ شيعي موال ٍ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. لكن ّ إثارة التساؤل ووضع عددا ً من علامات الاستفهام آتيان من الكيفية التي تضع فيها الحكومة سلالم أولوياتها، ومن الزاوية التي تنظر من خلالها إلى تراتبيات الأهم فالمهم.


وإذا قيل أن أهمية الإسراع بإنشاء مطار النجف ناشئة عن ضرورات تهيئة الوسائل والإمكانيات لاستيعاب الأعداد الهائلة من الزائرين القادمين من الخارج، رددت على القول بأن المدينة التي تعاني من هذه المشكلة أكثر من النجف هي كربلاء. فزوارها أكثر وحجم معاناتها أكبر، خاصة ً مع التحشيد المليوني الذي تمارسه قنوات الحكومة والأحزاب الحاكمة لأهداف سياسية وانتخابية محض، لاعلاقة لها لا بسيد الشهداء ولا بأبيه إمام المتقــّين إلا ّ عـَرَضا ً. وتتـّضح جوانب هذا الأمر أكثر، حينما نضم ّ إليه شكوى أهالي كربلاء من تركيز مؤسسات الحكومة وأحزابها على النجف، في الإستثمار وجلب الزائرين الأجانب وتشجيعهم بل وإجبارهم على زيارة النجف أولا ً، لامتصاص قوتهم النقدية وعملتهم الصعبة، ثم ابتعاثهم إلى كربلاء بعد خواء جيوبهم! ولابأس في الإشارة ndash; في هذا الإتجاه ndash; إلى تصريحات الشيخ عبد الحسن الفراتي مدير السياحة الدينية في كربلاء التي يؤكد فيها أن خطط الحكومة الاستثمارية أهملت القطاع السياحي في كربلاء ولم تقدم له دعما ً يماثل دعمها للسياحة الدينية في النجف.


ومهما كان من أمر، فلست ُ في وارد الدخول على خط َ الصراع التقليدي بين المدن المقدسة حول الموارد والخطط والاستثمارت وإيلاء الاهتمام الرسمي. لكن ثمة أولويات لابد ّ من مراعاتها، لكيلا تتكرّر قصة تركيز الأنظمة السابقة في التطوير والإعمار على المدن والقرى التي انحدر منها أقطاب تلك الأنظمة. فحينما انهار نظام حزب البعث في التاسع من نيسان ( أبريل ) 2003، ورأينا مشاهد لبعض تلك المدن والقرى على التلفزيون، أدهشتنا الفوارق الهائلة فيما بينها وبين مدننا وقرانا المطمورة بالتراب والسابحة في المستنقعات الآسنة، بينما كانت مدن وقرى عانة والعوجة وغيرهما تتنعـّم وتتمتـّع بالشوارع والطرق الواسعة والنظيفة، والبيوت والقصور المنيفة، والحدائق الغنـّاء. ومن هذه الأولويات ضرورة الإسراع بإعمار المدن المنسية، وبخاصة ٍ مدن العمارة والناصرية والبصرة والسماوة والكوت وغيرها، ومختلف أقضيتها ونواحيها وقراها طبعا ً، قبل الإسراع إلى بناء مطارات مكرّسة للنهوض باستحقاقات سياسية وإدارية قادمة، قبل تكريسها لزوّار ليت الحكومة تهتم ّ بدورات المياه النظيفة التي يحتاجون إليها، والتي تفتقر إليها النجف وغيرها من المدن المقدسة، قبل كل هذا الهراء الذي نسمعه!


أعتقد أن الإسراع بإنشاء مطار النجف يدخل ضمن أجندة الأحزاب الحاكمة ( وخاصة المجلس الأعلى الإسلامي ) لإنشاء فيدرالية الوسط والجنوب، وحاجة quot; قادة quot; هذه الفيدرالية إلى المطار في تنقلاتهم بين المركز و quot; العاصمة quot; الإقليمية. وهنا، يحسن التذكير بأن ّ تأييد الفيدرالية من قبلنا وقبل غيرنا لايعني ضمنا ً الرضا بنقل quot; عاصمتنا quot; الإقليمية من البصرة الفيحاء إلى أي مكان آخر مهما كانت قدسيته. فهذا النقل لايعني غير تسلـّط الأسر المهيمنة الآن على الحكم والقرار في بغداد، متكئة على بريق الأسماء الذي شابه الكثير من الصدأ، بسبب ممارساتهم هم قبل غيرهم، كبارا ً وصغارا ً، راحلين وحاليين، أمواتا ً وأحياء ً.

علاء الزيدي