دأب الكثيرون على مهاجمتنا ومهاجمة ديمقراطيتنا بحجة انها نوع من انواع المحاصصة الطائفية والعرقية، في البداية كان كل ذلك ترجمة للروحية العدائية التي كانت تستهدف التجربة العراقية الجديدة، وكنا مليئين بالايمان بأن مانفعله يهدف الى وحدة العراق واستقراره ورقي شعبه وازدهاره. تجاهلنا كل تلك التهجمات وسرنا باصرار وايمان نحو بناء بلدنا على اسس جديدة تليق بالعراق والعراقيين. وتجلى ذلك الايمان في الدستور العراقي الذي ولد على الرغم من كل الصعوبات.


تجسد روح دستورنا الدائم في تثبيت اسس نظام اللامركزية وتفتيت المركزية الشديدة الظالمة، وكان النظام الديمقراطي التوافقي الذي ترسخ في دستورنا هو الاسلوب الامثل لانجاح تجربتنا العتيدة. وترجمنا المبادئ الرئيسة لنظام الديمقراطية التوافقية - وكما جاءت في نظرياته الاساسية في الادبيات الخاصة بنظريات الديمقراطية في العالم ndash; ترجمنا تلك المبادئ من خلال هياكل الدولة الاساسية وكان ابرزها هو مؤسسة الرئاسة والضمانات التي يقدمها الفيتو الرئاسي المتبادل للمكونات العراقية، والذي تحول دون انفراد اي مكون في اتخاذ القرار في المسائل الاساسية والمصيرية. وكان تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الواسعة التمثيل تجسيدا آخر للتوافق الديمقراطي. وجاء السعي لبناء نظام اتحادي يعطي الاقاليم حق الادارة الذاتية وتثبيت تلك الحقوق في الدستور مكملا لبناء الديمقراطية المبنية على اساس التوافق الوطني. الا ان اهم مافي نظامنا الديمقراطي وهو ماتشدد عليه نظريات الديمقراطية التوافقية المتعارف عليها، اهم ميزة لتجربتنا كانت مبدأ التمثيل النسبي وعلى اساس الانتخابات الحرة النزيهة، فكانت الانتخابات العراقية على اساس التمثيل النسبي العادل.
المهم في كل ماجرى في تلك الفترة هو اننا في العهد العراقي الجديد، كنا نسير بثقة نحو بناء تجربة ديمقراطية توافقية تتميز عن الاتهامات بالمحاصصة ولاتمت اليها بصلة، ظل المراهنون يراهنون، وبقينا على اصرارنا الوطني لترسيخ اسس التوافق الوطني ونبذنا لكل انواع المحاصصة، سواء اكانت طائفية، ام عرقية. وللامانة يجب ان نقول بأن هذا الحراك كان ولايزال احد اكبر الامتحانات امام تجربتنا وانتماءنا الوطني، وعليه فان اية محاولات للقفز على اسس وثوابت الديمقراطية التوافقية، والاقتراب ولو من بعيد من المحاصصة يعد انتكاسة خطيرة للديمقراطية ولبناء العراق الجديد، واعتقد اننا جميعا ندرك مخاطر المحاصصة ونقف بالضد منها، وهي واحدة من اكبر الاخطار التي يمكن ان تهدد جوهر وروح الديقراطية في حد ذاتها، وهو مايؤدي بالتأكيد الى مخاطر التمزق وخلق حالة شلل كامل في مفاصل الدولة العراقية.

الغريب في ما يحدث هذه الايام هو ان بعض الاخوة، واشدد على كلمة بعض هذه، من الذين قاطعوا العملية السياسية واتهمونا بترسيخ الطائفية ونظام المحاصصة، يصرون اليوم على القفز على ارادة الناس والحرة واللجوء الى المحاصصة العرقية المقيتة، لا بل ان الاخطر من ذلك هو انهم حاولوا تقنين تلك الممارسات من خلال اجراءات داخل مجلس النواب الذي يضم ممثلي ارادة الشعب العراقي، والاغرب من كل ذلك هو انهم يصرون على تمسكهم بتلك المحاصصة العرقية، ويدعون هذه المرة الى القفز حتى على الدستور الذي يعد التجسيد الحي لارادة الشعب العراقي الذي يجب علينا ان نحترم ارداته، لا ان ندوس عليها ونخرقها، فاحترام ارادة الشعب العراقي يجب ان يظل فوق هذه الاعتبارات ولايجوز المساس به والتجاوز عليه.


بعيدا عن المماحكات الدائرة بشأن المادة 24 من قانون مجالس المحافظات، وايا تكن نتائج الشد والجذب بين مختلف الاطراف، وايا تكن التفسيرات والاجتهادات، فان علينا ان نركز على جوهر القضية، وعلى التوصل الى حلول سلمية عادلة تضمن للجميع حقوقهم المشروعة. بعيدا عن كل هذا الحراك، فإن الديمقراطية ترتكز الى التمثيل النسبي من خلال الانتخابات الديمقراطية الحرة، ويأتي مبدأ التوافق ليقدم اجراءات تحمي الاقليات من احتمال لجوء الاكثرية النسبية للانفراد والاستئثار بالسلطة وخصوصا في القرارات المصيرية والمسائل الحساسة والحيوية. وعلى هذا الاساس وحده يجب ان نفصل خياراتنا الوطنية، وتحت اية ذريعة لا يجوز التجاوز على ارادة الناخب العراقي في اختياره الحر، ويجب عدم مصادرة ارادته الحرة في التصويت لمن يراه ممثلا له ولمصالحه، كما انه لايجوز ابدا مصادرة حق الكتل والكيانات السياسية من تمثيل الحقيقي ومن خلال الانتخابات الحرة. واي تجاوز على كل هذه الامور يعد تجاوزا خطيرا على جوهر وروح العمل الديمقراطي وينذر بولادة نظام سياسي قائم على المحاصصة ومزاج الحكام والسياسيين، ويؤدي كما اسلفنا الى التمزق والشلل الكلي في مفاصل الدولة.


الحقيقة هي ان هذا بالضبط مايحدث في العراق الآن، فمقاعد مجلس النواب والوازارات لم توزع بين الكيانات والممكونات بالتساوي، وكل كيان ومكون عراقي يحتل موقعه حسب حجمه وتمثيله السكاني واستحقاقه الانتخابي، الا ان هناك ضمانات دستورية تمنع الانفراد والاستئثار، فاذا كان هذا هو حال نظامنا واجراءاتنا الدستورية في العراق الكبير، فاذن ما الداعي للتجاوز على كل ذلك في امتحاننا في عراقنا المصغر والمسمى كركوك؟ اليس غريبا ان يأتي من اتهمنا بالمحاصصة في العراق الكبير ليصر على المحاصصة في كركوك تحديدا؟ المادة 24 من قانون مجالس المحافظات يعد اكبر تجسيد للمحاصصة العرقية المقيتة ولهذا السبب وحده وليس لأية اسباب اخرى يجب على العراقيين جميعا الانتباه الى مخاطره المستقبلية على كل العراق، حماية بلدنا من خطر المحاصصة المقيتة هو واجب وطني يقع على كاهل كل عراقي ودون اي اعتبار لأية انتماءات جانبية(قومية، مذهبية، ام سياسية).


ان الدعوة لاقتسام مقاعد مجلس محافظة كركوك هي المحاصصة بعينها، ويجب على كل عراقي غيور ان يقف بوجه هذه المحاصصة المقيتة، يدافع عن الديمقراطية ويطالب بضمانات ديمقراطية للحقوق المشروعة لجميع مكونات محافظة كركوك، من حق العرب والتركمان وبقية مكونات كركوك الاخرى المطالبة بضمانات تحفظ حقوقهم المشروعة، ومن واجب التحالف الكردستاني والجانب الكردي عموما ان يقدم الصمانات الديمقراطية لاخوتنا من المكونات الاخرى، لكن كل هذا يجب ان يتم بعيدا عن روح المحاصصة العرقية المقيتة، وان يجري على اسس ديمقراطية واضحة تحترم ارادة سكان كركوك، فمن حق كل مكون وكيان سياسي ان يتمثل على اساس نسبة الاصوات التي يحصل عليها في انتخابات مجلس المحافظة وليس اقتسام المقاعد، لكن في المقابل يمكن ايجاد ضمانات تمنع انفراد اي مكون. من الطبيعي ان تفوز الكيانات العربية او التركمانية او الكردستانية، بغالبية المقاعد وهذا حق مشروع ومقدس ىيجوز التجاوز عليه والمساس به تحت اية ظروف، والحل يكمن في الاتفاق على ضمانات ديمقراطية تمنع انفراد الفائز بالانتخابات.


في هذه اللحظة من عمر تجربتنا نحن نتحدث عن كركوك، لكن يجب ان لا ننسى بأن كركوك هو العراق المصغر، وان اية نتائج تتمخض عن هذه الازمة ستنعكس وبشدة على ووضع العراق الكبير. والحل بسيط للغاية ولايحتاج الى كل هذا التعقيد، فبين الديمقراطية التوافقية العادلة والمحاصصة العرقية المقيتة علينا ان ننبذ المحاصصة ونتمسك وبكل ما اوتينا من قوة وايمان بالديمقراطية القائمة على التوافق الوطني، فلماذا ندعو الى الديمقراطية التوافقية في العراق، ونصر على المحاصصة في كركوك؟ ان المادة 24 من قانون انتخاب مجالس المحافظات تجسيد خطير للمحاصصة العرقية المقيتة والمتعصبة ويمكن ان يعرض كامل تجربتنا وبلدنا الى الكثير من مهالك التمزق، هذا علاوة على اصابة مفاصل الدولة العراقية بالشلل التام في وقت يحتاج فيه وطننا الى كامل طاقته وقوته وتماسكه وعزمه. فرحما بالعراق وبمستقبله ومستقبل ابناءه....

سردار عبدالله