يمكن للمرء أن يضفي على كلمة أو مفهوم التوافق، معانٍ عديدة، تتفق مع جوهر المقصود و محتواه و أبعاده، لكنه عليه أن يعي أيضاً أن هذا المفهوم هو، في الوقت نفسه، مفهوم واسع و متسع، ينفتح على التأويل و التفسير وفقاً لمستوى الوعي و منظومة الرؤية و العبارة، التي نتمتع بها جميعاً لتسمية عالم الأشياء و الظواهر. و اليوم ثمة من يدعوا لترسيخ هذا المفهوم على المستوى العالمي، ففي هذا المجال يعتقد جورج مونبيوت الكاتب والأكاديمي والناشط البريطاني الذي ألف كتاب quot; عصر التوافقquot; أن عصر التوافق يعني عصر خلاص البشرية من الاستغلال البيني، حيث يجب أن تنتهي وللأبد ثنائية المستغل (بكسر الغين) والمستغل (بفتحها).كما يرى أن هذا العصر quot;المنشودquot; هو عصر تساوي الشعوب والدول ومعاملة مصالح الجميع على قدم المساواة.


بمستوى أًخرى، أن مفهوم التوافق، من حيث التعريف الشائع الذي نتداوله و نفهمه و نتعاطى معه، هو مفهوم عقلاني و سلمي، يعكس قبل كل شيء، حضور روح منفتحة و متزنة لأطراف معنية و مُعَيَّنة، تبغي الوصول الى نقاط للإلتقاء فيما بينها و بالتالي الإتفاق على قضايا و مسائل محددة، و ذلك بالطبع عبر أساليب عصرية و إنسانية و طرق قويمة و سليمة نابذة لأي نوع من أنواع اللجوء الى العنف أو العنف الرمزي.


كما يمكن أن نقول : أن التوافق يعني أيضاً الخروج من دائرة الحوارات و السجالات أو المشاورات و المفاوضات بنتائج إيجابية، تعكس هذه النتائج تطلعات كافة الأطراف المعنية و تراضيها رغم إختلافاتها السياسية و الآيديولوجية و العقائدية، و كذلك ضمان حقوق الجميع بعيداً عن إتباع أية سياسات إنغلاقية متطرفة و متشنجة، تعيق مبادىء الحوار و مفعولها، و بعيداً عن منطق الديمقراطيات الكلاسيكية أيضاً، الذي يأخذ عادةً برأي الأكثرية قمعاً لما تتمتع بها الأقلية من حقوق إنسانية و سياسية، هي بحاجة الى توفير و تحقيق كاملين دون أي شكل من أشكال التقليل من شأنها.


بهذا المعنى، نجد بوضوح تام أن مفهوم التوافق هو، بكلمات اُخرى، ليس إلا عبارة عن مجهود كبير من الجهود الحثيثة التي تُبذل و ينبغي أن تُبذل من أجل تحقيق حقوق كافة الأطراف المتفاوضة، تحقيقاً عادلاً و شاملاً، و لاشك أن هذه الجهود لها علاقات مصيرية و ستراتيجية بما سيتم أقرارها، في البلد الذي تعيش فيه، هذه الأطراف و الأطياف، من قوانين و دساتير و أوامر، هي، في آخر الأمر، جملة من الأشياء و الإجراءات التي تتعلق تمام التعلق بحاضرها و مستقبلها و مصيرها. الأمر الذي يعني أن التوافق هو، في بعد آخر من أبعاده، عملية ديمقراطية، تنطوي على الإستبعاد الكامل، و مصادرة عقليات التهميش و الحرمان و التحريم السياسي، التي لا تنسجم و منطق التفكير الديمقراطي السياسي و الإجتماعي الحديث و لا تفيد أي إجماع consensusحقيقي و نهائي بين التكوينات الإجتماعية و السياسية التي تختلف و تتباين آيديولوجياً و سياسياً و ثقافياً مع بعضها هذا فضلاً عن أنها عقليات دكتاتورية و إستبدادية قام عليها و بها الحكم البائد في العراق و دمرت من خلالها روح الوطنية و المواطنية في البلاد.


من هنا، إذا ما أردنا الوقوف على التجربة العراقية الجديدة التي بدأت مع سقوط النظام البائد و قطعت حتى الآن أشواطاً كبيرة لتصل الى هذه المرحلة الإنتقالية المتطورة و المعقدة في آن، يمكن القول أن سياسة التركيز على مفهوم التوافق كانت أحدى الآليات العقلانية المناسبة التي أشتغلت عليها الأطياف السياسية العراقية دعماً للعملية السياسية في العراق و تدعيماً لوحدة صفوف القوى السياسية العراقية و توجيهها توجيهاً ملائماً بإتجاه الوصول الى التفاهمات الثنائية و الأهداف المشتركة التي تتمثل في إبقاء العراق بلداً للجميع.
بعبارة أُخرى، أن سياسة التوافق كانت و ماتزال سياسة عقلانية، ساهمت الى حد كبير في إعادة أجواء الثقة بين القوى السياسية العراقية. وإذا أردنا فهم و إستيعاب المراحل الصعبة و المعقدة التي مرت بها الأحزاب العراقية و المجتمع العراقي ككل بعد سقوط النظام، علينا أن لا ننسى أن هذه السياسة لعبت أيضاً دورا مشهوداً في إنقاذ البلاد من كوارث سياسية داخلية كانت، في مراحل عديدة من العامين المنصرمين، على وشك الإنفجار، لو لم تتحلى القوى العراقية بالعقلانية السياسية عبر إنتهاج سياسة التوافق و العودة الى فكرة التوفيقية الممكنة و إفشال المخططات الخارجية الرامية الى تدمير العراق لا سيما أننا نعي تماماً أن أعداء البلاد و القوى الأجنبية و الشبكات الإرهابية المنتشرة في أنحاء العالم وضعت مع سقوط صدام لعراق مابعد الدكتاتورية، خطط جهنمية و عدائية، لإيقاع البلاد في دوامة حرب أهلية طاحنة، لكنها لحسن حظ العراقيين لم تفلح حتى الآن في تحقيق ذلك الهدف الخبيث.


هنا علينا أن لا ننكر دور جميع الأطراف و الأطياف السياسية العراقية في تبني هذا المبدأ و العمل به و إنجاحه، كما علينا أن نشيد أيضاً بدور القوى الكردستانية في مبادرتها الوطنية بشأن هذا المبدأ و طرحه كخطاب يستدعي العودة اليه و تبنيه وفقاً لمقتضيات العملية السياسية في العراق و إستحقاقاتها، الأمر الذي يحثنا الآن دون شك على التذكير بأهمية هذا المبدأ و العمل به للظرف الحالي لتجنيب البلاد من أية خلافات أو نزاعات داخلية و لتحقيق الحد الأقصى من التلاحم السياسي و التناغم الإجتماعي المطلوب فيها، كما أن ضرورة الإنطلاق من هذا المبدأ لأهداف حضارية و ستراتيجية، تكون مرآةً لتحضر الشعب العراقي و روحيته الديمقراطية و إنساجامه الداخلي، ذلك لأن التوافق هو في آخر الأمر مبدأ إنساني يؤكد على جملة من الأشياء أهمها حضور العقل و النعم الإلاهية الأخرى التي يتمتع بها الإنسان و يتميز بها عن بقية الكائنات الأخرى، و لا ننسى الحديث النبوي الشريف مفاده أن أفضل الأشياء قسمةً بين الناس هو العقل.

عدالت عبـدالله
* كاتب و باحث كردي عراقي